العربية
Perspective

تحدي عيد العمال 2022: من أجل الوحدة الدولية للطبقة العاملة ضد الرأسمالية و الشوفينية القومية والحرب!

نشرت هذه المقالة في الأصل باللغة الإنجليزية في 19 أبريل 2022

تُعد الحرب التي اندلعت في 24 فبراير 2022 حدثاً ذا أهمية تاريخية عالمية. و كما هو الحال في جميع النزاعات الكبرى ، فإن مسألة 'من أطلق الطلقة الأولى' لها أهمية ثانوية تماماً. إن الطابع المتهور وغير الكفؤ واليائس للغزو الروسي لأوكرانيا يكشف الطابع السياسي المفلس والرجعي لنظام بوتين ، لكنه لا يفسر الأسباب الأعمق للحرب

لطالما كان اندلاع الحرب في أوكرانيا متوقعاً إذ كان توسع الناتو، الذي لا هوادة فيه في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي، موجهاً نحو الحرب مع روسيا دائماً. كانت الإطاحة بالحكومة بقيادة فيكتور يانوكوفيتش في فبراير 2014 ، في انقلاب نظمته ومولته الولايات المتحدة ، محاولة سافرة لإدخال أوكرانيا في فلك الناتو وتحويلها إلى منصة انطلاق لحرب مستقبلية ضد روسيا. كما أوضحت اللجنة الدولية للأممية الرابعة في تجمعها يوم الأول من مايو 2014:

كان الهدف من هذا الانقلاب هو جلب نظام إلى السلطة يضع أوكرانيا تحت السيطرة المباشرة للإمبريالية الأمريكية والألمانية. أدرك المتآمرون في واشنطن وبرلين أن هذا الانقلاب سيؤدي إلى مواجهة مع روسيا. ففي الواقع ، و بعيداً عن السعي لتجنب المواجهة ، تعتقد كل من ألمانيا والولايات المتحدة أن الصدام مع روسيا ضروري لتحقيق مصالحهما الجيوسياسية بعيدة المدى.

بدأت الآن هذه الحرب ، التي حرضت عليها قوات الولايات المتحدة والناتو. إن الغالبية العظمى ممن شُردوا أو أصيبوا بجروح أو حتى قُتلوا لا يتحملون أي مسؤولية عن السياسات والقرارات التي أدت إلى الحرب. لكن معاناة الضحايا الأبرياء يتم استغلالها بشكل ساخر ليس فقط لمنع انكشاف المصالح السياسية والاقتصادية التي أدت إلى الحرب ، ولكن أيضاً لإثارة المستوى المطلوب من الكراهية ضد روسيا والضرورية لتصعيد الصراع.

فوفقاً لأجهزة الدعاية للإمبريالية الأمريكية والأوروبية ، فقد صدم الغزو الروسي لأوكرانيا ضمير العالم ، الذي، كما تقول القصة، عاش بسلام بمنتهى السعادة حتى شن الكرملين هجومه غير المبرر على جارته التي لا يمكن لومها.

يا لها من كذبة هائلة ومنافقة! إذ إنه على مدى الثلاثين عاماً الماضية ، كانت الولايات المتحدة في حالة حرب مستمرة ، مما أثار النزاعات في جميع أنحاء العالم. الولايات المتحدة، و غالباً بدعم مباشر من أتباعها في الناتو، قصفت و / أو غزت دولاً في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا والبلقان ، وبالطبع منطقة البحر الكاريبي.

حتى لو قبل المرء كل الادعاءات التي قدمتها إدارة بايدن ووسائل الإعلام الأمريكية الفاسدة التي تجدد نقاط الحوار اليومية التي تغذيها بها وكالة المخابرات المركزية ، فإن الخسائر في الأرواح بين الأوكرانيين ، المدنيين والعسكريين على حد سواء ، هي أدنى عدة مرات من حيث الحجم من عدد الوفيات التي تُعزى إلى الحروب التي شنتها الولايات المتحدة. وفقاً لـ The United States of War ، بقلم ديفيد فاين ، أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية:

قُتل ما يقدر بـ 755000 إلى 786000 مدني ومقاتل ، من جميع الأطراف في أفغانستان والعراق وسوريا وباكستان واليمن فقط منذ أن بدأت القوات الأمريكية القتال في تلك البلدان. هذا الرقم أكبر بحوالي خمسين مرة من عدد القتلى في الولايات المتحدة.

ولكن هذا هو مجرد عدد المقاتلين والمدنيين الذين لقوا حتفهم في القتال. مات الكثيرون نتيجة المرض والجوع وسوء التغذية الناجم عن الحروب وتدمير أنظمة الرعاية الصحية والتوظيف والصرف الصحي والبنية التحتية المحلية الأخرى. بينما لا يزال الباحثون يحسبون هذه الوفيات ويناقشونها ، يمكن أن يصل العدد الإجمالي إلى 3 ملايين على الأقل،قرابة مئتي ضعف عدد القتلى في الولايات المتحدة. قد يكون تقدير 4 ملايين حالة وفاة رقماً أكثر دقة، على رغم من أنه ما زال متحفظاً.

في غضون ذلك ، دمرت أحياء ومدن ومجتمعات بأكملها بسبب الحروب التي قادتها الولايات المتحدة. إن العدد الإجمالي للمصابين والصدمات يمتد إلى عشرات الملايين. في أفغانستان ، أشارت الدراسات الاستقصائية إلى أن ثلثي السكان قد يعانون من مشاكل في الصحة العقلية ، ونصفهم يعانون من القلق وواحد من كل خمسة مصاب باضطراب الشدة التالية للصدمة. بحلول عام 2007 في العراق ، كان 28 في المائة من الشباب يعانون من سوء التغذية ، وكان نصف من عاشوا في بغداد قد شهدوا حدثاً مؤلماً كبيراً ، وأصيب قرابة  ثلثهم باضطراب ما بعد الصدمة. واعتباراً من عام 2019 ، من المحتمل أن يكون أكثر من 10 ملايين قد نزحوا من ديارهم في أفغانستان والعراق واليمن وليبيا وحدها ، وأصبحوا لاجئين في الخارج أو نازحين داخليا ضمن بلدانهم.

إلى جانب الأضرار البشرية ، فإن التكاليف المالية للحروب التي قادتها الولايات المتحدة بعد عام 2001 باهظة للغاية ، وهي تكاد تكون غير مفهومة. فاعتباراً من أواخر عام 2020 ، أنفق دافعو الضرائب الأمريكيون بالفعل أو يتوقعون أن ينفقوا في نهاية المطاف ما لا يقل عن 6.4 تريليون دولار على حروب ما بعد عام 2001 ، بما في ذلك مزايا قدامى المحاربين في المستقبل ومدفوعات الفوائد على الأموال المقترضة لدفع تكاليف الحروب. و من المحتمل أن تصل التكاليف الفعلية إلى مئات المليارات أو تريليونات أخرى ، اعتماداً على الوقت الذي تنتهي فيه هذه الحروب التي تبدو بلا نهاية. الصفحات من السابعة عشر إلى التاسعة عش .

في الواقع ، ليس هناك نهاية تلوح في الأفق. كان إعلان بايدن في أبريل 2021 أنه سينهي 'الحرب الأبدية' في أفغانستان غطاءً ساخراً لإعادة الانتشار الاستراتيجي للقوات العسكرية الأمريكية بهدف صراع مباشر مع روسيا والصين.

لقد تم تبرير جميع حروب العقود الثلاثة الماضية بأكاذيب صارخة،- يُعد ادعاء بأن العراق امتلك 'أسلحة دمار شامل' أسوئها سمعة منها، في انتهاك مباشر للقانون الدولي.

في محاكمة جرائم الحرب في نورنبرغ عام 1946 ، حوكم القادة النازيون و أدينوا بتهمة ارتكاب 'جرائم ضد السلام' ، التي تمثلت في شن الحرب كأداة لسياسة الدولة ، وليس رداً على تهديد فوري أو وشيك بهجوم من قبل جيش. تندرج حروب الإمبريالية الأمريكية ضمن فئة الجرائم ضد السلام، أي الحروب التي تشن وتخاض سعياً وراء أهداف سياسية.

إن السياق التاريخي والسياسي العالمي للهياج العالمي للإمبريالية الأمريكية وثيق الصلة بفهم الحرب الحالية.

أدى تفكك الأنظمة الستالينية في أوروبا الشرقية ، وأخيراً في الاتحاد السوفيتي بين عامي 1989 و 1991 ، إلى إزالة القيود المحدودة التي كانت مفروضة على ممارسة القوة العسكرية الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. كما أعلن الرئيس جورج هربرت والكر بوش لما شن الحرب الأولى ضد العراق في عام 1991 ، بدعم من ميخائيل جورباتشوف مع دخول الاتحاد السوفيتي المرحلة النهائية من التفكك واستعادة الرأسمالية، كانت الولايات المتحدة مصممة على إنشاء 'نظام عالمي جديد . '

كان هذا المشروع مدفوعاً بضرورات اقتصادية و جيوـ استراتيجية قوية موضوعية. فعلى عكس روايات ما بعد عام 1991 ، التي تصور الولايات المتحدة على أنها المنتصر المحتوم والمنتصر في الحرب الباردة ، كانت العقود التي سبقت تفكك الاتحاد السوفيتي فترة تسارع فيها الانحدار الأمريكي.

تدهورت الهيمنة الاقتصادية العالمية التي مارستها الولايات المتحدة في عام 1945 بشكل كبير خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. أصبح أساس الهيمنة الاقتصادية العالمية الأمريكية، - تحويل الدولار إلى ذهب بمعدل 35 دولاراً للأونصة الذي تم وضعه في مؤتمر برايتون وودز عام 1944 ، غير مستدام مع تدهور الميزان التجاري للولايات المتحدة حتى تم رفضه من جانب واحد من قبل الولايات المتحدة في أغسطس 1971.

تفاقم تدهور الوضع الاقتصادي العالمي بسبب اندلاع النضال الطبقي المحلي ، الذي كانت الحركة الجماهيرية للطبقة العاملة السوداء من أجل الحقوق المدنية تعبيراً قوياً عنه. و في الوقت نفسه ، أدى الجهد الدموي للإمبريالية الأمريكية لقمع الحركة المناهضة للاستعمار للجماهير في جميع أنحاء العالم، الأكثر همجية في فيتنام، إلى تطرف قطاعات واسعة من الطلاب الشباب وظهور حركة ضخمة مناهضة للحرب .

كما اتسمت السنوات بين 1960 و 1990 في الولايات المتحدة بعدم الاستقرار السياسي والاستقطاب الاجتماعي. كانت أعمال الشغب الحضرية وحركات الاحتجاج الجماهيرية والاغتيالات السياسية والإضرابات العنيفة والممتدة هي السمات الرئيسية للواقع الأمريكي بين عامي 1960 و 1990.

تطورت، بالتوازي مع أزمة الإمبريالية الأمريكية، أزمة النظام الستاليني داخل الاتحاد السوفياتي. لا شك في أن الاتحاد السوفيتي ، بعد أن خرج منتصراً، وإن كان ذلك بتكلفة بشرية مذهلة، على ألمانيا النازية ، حقق تقدماً كبيراً في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لكن التناقض الأساسي الذي لا مفر منه في الاتحاد السوفيتي هو أن النمو والتعقيد المتزايد لاقتصاده أدى إلى تفاقم أزمة النظام الستاليني بأكمله ، الذي قام على البرنامج القومي 'الاشتراكية في بلد واحد'.

فعلى الرغم من معدلات النمو المثيرة للإعجاب التي حققها الاتحاد السوفيتي في العقدين التاليين للحرب ، فإن مفهوم المسار الوطني للاشتراكية كان يتناقض مع الواقع الموضوعي للسوق العالمية والتقسيم الدولي للعمل. تمثلت الاختلالات وانخفاض مستوى الإنتاجية التي ابتلي بها الاقتصاد السوفيتي في أقصى أشكال التناقض ، الذي يؤثر على جميع البلدان ، بين الاقتصاد العالمي ونظام الدولة القومية.

تطلب تطوير الاقتصاد السوفيتي الوصول إلى موارد الاقتصاد العالمي. لكن الوصول لا يمكن أن يتحقق إلا بإحدى طريقتين: أولاً، من خلال التخلي عن مبدأ التخطيط ، وإعادة إدخال الرأسمالية ، وتفكك الاتحاد السوفياتي ودمج مكوناته في النظام الرأسمالي العالمي ؛ أو ثانيًا انتزاع السلطة من قبل الطبقة العاملة ، قبل كل شيء ، في البلدان الرأسمالية المتقدمة ، وعلى هذا الأساس ، هدم الحدود الوطنية وتطوير التخطيط الاقتصادي الديمقراطي الموجه علمياً على نطاق عالمي.

كان البديل الأخير مستحيلاً في إطار النظام الستاليني إذ كانت السياسة القومية للاتحاد السوفييتي متجذرة بشكل لا ينفصم في المصالح المادية لبيروقراطية الكرملين. كما كان سوء استغلالها المنهجي للسلطة هو الوسيلة التي حافظت من خلالها على امتياز الوصول إلى موارد الاتحاد السوفيتي. نظر الكرملين برعب إلى ظهور حركة ثورية للطبقة العاملة داخل الاتحاد السوفياتي وعلى الصعيد الدولي ، هددت قبضته على السلطة.

ولدت وفاة ستالين في عام 1953 أوهاماً بأن نظام الكرملين سيجري إصلاحات واسعة النطاق من شأنها أن تحقق تجديد الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وانتصارها على المستوى الدولي. كان هذا التنصل من إصرار تروتسكي على الطابع المعادي للثورة للستالينية وضرورة الثورة السياسية هو السمة النظرية والسياسية للتحريفية البابلوية.

لكن الرد السوفييتي الهمجي على الانتفاضة في ألمانيا الشرقية عام 1953 و على الثورة المجرية عام 1956 ، ومذبحة العمال في نوفوتشركاسك عام 1962 ، وغزو تشيكوسلوفاكيا عام 1968 ، أثبتت بالدماء أن بيروقراطية الكرملين لن تتسامح مع التحدي الاشتراكي الثوري لحكمها.

وحين أصبح واضحاً، لا سيما في سياق حركة التضامن البولندية في 1980-1981 (التي كان لها في البداية إمكانات ثورية حقيقية)  أن الحركة ضد البيروقراطية لا يمكن قمعها ، بدأ الكرملين في السعي بنشاط إلى حل منهجي معادي للثورة لحل أزمة الاقتصاد السوفييتي، أي تفكك الاتحاد السوفيتي وعودة الرأسمالية.

كان اختيار غورباتشوف زعيماً للحزب في عام 1985 وإدخال البيريسترويكا بمثابة بداية للمرحلة النهائية للثورة الستالينية المضادة ضد ثورة أكتوبر.

كان أحد العناصر الأساسية في سياسة غورباتشوف هو التنصل الصريح حتى من التطابق الرسمي للاتحاد السوفييتي مع الصراع الطبقي ومعارضة الإمبريالية. ففي عام 1989 ، في كتاب بعنوان بيريسترويكا مقابل الاشتراكية ، أوضحت اللجنة الدولية: 

إن السمات المميزة للسياسة الخارجية السوفيتية الجديدة هي الرفض غير المشروط للاشتراكية الأممية بوصفها هدف طويل الأجل للسياسة السوفيتية ، ونبذ أي تضامن سياسي بين الاتحاد السوفيتي والنضالات المناهضة للإمبريالية في جميع أنحاء العالم ، والرفض الصريح للاشتراكية الدولية ولعد الصراع الطبقي عاملاً مهماً في صياغة السياسة الخارجية. ارتبطت التغييرات في السياسة الخارجية السوفيتية ارتباطاً وثيقاً بالاندماج المستمر للاقتصاد في هيكل الرأسمالية العالمية. كما تطلبت الأهداف الاقتصادية للكرملين أن يتخلى الاتحاد السوفياتي بشكل قاطع وغير مشروط عن أي ارتباط طويل الأمد بين سياسته الخارجية والنضال الطبقي ومعاداة الإمبريالية بأي شكل من الأشكال. ولهذا السبب اختار غورباتشوف الأمم المتحدة منتدى لإعلانه ، في ديسمبر 1988 ، أن ثورة أكتوبر عام 1917 ، مثل الثورة الفرنسية عام 1789 ، تنتمي إلى حقبة تاريخية أخرى ولا صلة لها بالعالم الحديث.

ظهرت بانتظام مقالات في الصحافة السوفيتية نددت بالسياسة الخارجية لقادة الكرملين السابقين ، ليس لخيانتهم لمصالح البروليتاريا العالمية ، ولكن لأنهم معادون للغاية للولايات المتحدة. وإلى  حد عكست معه السياسة الخارجية السوفيتية فكرة تسفيه أي خصم للإمبريالية، بوصفه شكل من أشكال اللاعقلانية  السياسي. إن اندلاع الحرب الباردة لا يُعزى الآن إلى العدوان الإمبريالي ، ولكن إلى تمسك الاتحاد السوفيتي بأيديولوجية دوغمائية مناهضة للرأسمالية.

تم استبدال التحريف الستاليني الأساسي للثورة المضادة للماركسية، مثل الادعاء القائل بإمكانية بناء الاشتراكية في إطار وطني، بنظام غورباتشوف بحجة لا تقل احتيالاً وجهلاً مفادها أن روسيا ، ما أن تخلت عن ادعاءاتها الاشتراكية ، ستغرق تحت وابل الثروات والاندماج سلمياً في هياكل النظام الرأسمالي العالمي. لم يكن لدى روسيا ما تخشاه من الإمبريالية ، التي تم رفضها على أنها اختلاق أيديولوجي للماركسية. ومن بين أولئك الذين جادلوا بصوت عالٍ على هذا المنوال كان الشاب البارز في البيروقراطية السوفيتية ، أندريه كوزيريف الذي كتب في عام 1989:

إذا ألقى المرء نظرة على البرجوازية الاحتكارية في الولايات المتحدة ككل ، يجد عدد قليل جداً من مجموعاتها ، وليس أي من المجموعات الرئيسية ، مرتبط بالنزعة العسكرية. لم تعد هناك حاجة للحديث ، على سبيل المثال ، عن صراع عسكري على الأسواق أو المواد الخام ، أو عن تقسيم العالم وإعادة تقسيمه.

بإعادة قراءة هذه الكلمات اليوم ، في خضم كارثة الحرب بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ضد روسيا، لا يسع المرء إلا أن يندهش من مستوى الغش وخداع الذات الذي ساد داخل البيروقراطية السوفيتية والنومينكلاتورا  بينما حطموا بتهور الاتحاد السوفياتي. لكن الغش وخداع الذات نشأ من المصالح المادية للبيروقراطية لأنها سعت إلى تحويل نفسها من فئة متميزة إلى فئة حاكمة. أما كوزيريف ، فقد أصبح وزيراً للخارجية في عهد يلتسين ، وعمل بحكم منصبه عميلاً للإمبريالية الأمريكية.

اعتبرت الولايات المتحدة تفكك الاتحاد السوفيتي فرصة تاريخية لاستغلال تفوقها العسكري الذي لا شك فيه لتعويض تدهورها الاقتصادي الذي طال أمده. سوف تستفيد من 'اللحظة أحادية القطب'،أي غياب أي منافس عسكري جدي لتأسيس هيمنة عالمية غير قابلة للتحدي للولايات المتحدة.

لكن ثبت أن هذا المشروع أكثر صعوبة مما توقعه استراتيجيو البيت الأبيض والبنتاغون. واجهت الحروب التي حرضت عليها الولايات المتحدة فشلاً مذلاً إذ لم تتحقق أي من الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة من خلال الصراعات الدموية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. علاوة على ذلك ، بينما كانت الولايات المتحدة غارقة في 'حروبها الأبدية' ، ظهرت الصين كمنافس اقتصادي وعسكري محتمل للولايات المتحدة.

لقد تم تقويض السعي إلى الهيمنة بسبب سلسلة من الأزمات الاقتصادية المدمرة. كما أدى انهيار وول ستريت في عام 2008 إلى دفع النظام الرأسمالي العالمي بأسره إلى حافة الانهيار ، ولم يتم منع ذلك إلا من خلال خطة إنقاذ يائسة تطلبت ضخ تريليونات الدولارات في النظام المالي. ولكن من دون حل المشكلات الأساسية التي أدت إلى انهيار عام 2008 ، كانت هناك حاجة إلى حتى خطة إنقاذ أكبر في عام 2020 لوقف انهيار آخر في السوق نتج عن تفشي وباء COVID-19.

لقد كشفت الجائحة ، التي أدت إلى وفاة مليون شخص في الولايات المتحدة وقرابة 20 مليون شخص في جميع أنحاء العالم ، عن خلل وظيفي في النظام الرأسمالي ، وهو غير قادر على الاستجابة بأي طريقة تقدمية لأزمة اجتماعية كبرى. ففي هذا الصدد ، لا يوجد فرق جوهري بين النظام في واشنطن وموسكو. لقد أدت القرحات العقدية في المجتمع الأمريكي، الأكثر تفاوتاً في العالم، إلى وصول النظام السياسي بأكمله إلى نقطة الانهيار. ففي 6 يناير 2021 ، تم الإطاحة بالبنية الدستورية الحالية للولايات المتحدة تقريباً في انقلاب فاشستي نظمه رئيس الولايات المتحدة. في حين أنها تتقدم بغطرسة كزعيم لـ 'العالم الحر' ، فإن بقاء حتى التظاهر بالديمقراطية في الولايات المتحدة ، كما اعترف بايدن نفسه مؤخراً ، صار موضع شك.

بعيداً عن التراجع ، في مواجهة الإخفاقات الماضية ، عن حملتها للهيمنة العالمية ، فإن الولايات المتحدة مدفوعة إلى أعمال أكثر تطرفاً وخطورة من أي وقت مضى. ففي الواقع ، أصبحت شدة أمراضها الداخلية عاملاً رئيسياً يدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ تدابير كانت تُستبعد سابقاً بوصفها لا يمكن تصورها ، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية.

لماذا قامت الولايات المتحدة ، باستخدام أوكرانيا كوكيل ، بالتحريض على هذه الحرب ضد روسيا؟ حلل لينين الحرب العالمية الأولى على أنها محاولة من القوى الإمبريالية لإعادة تقسيم العالم. هذا التعريف هو نقطة انطلاق أساسية لفهم سبب قيام الولايات المتحدة ، بقيادة تحالف القوى الإمبريالية في الناتو ، بشن حرب ضد روسيا. ففي السياق الحالي ، تعني الحرب إعادة تقسيم العالم ووضع الامتداد الشاسع لروسيا ، وهي أكبر دولة ، تحت السيطرة الإمبريالية المباشرة.

احتفظ الاتحاد السوفيتي، إلى حد ما بالانتماء الرسمي للاشتراكية ومعارضة الإمبريالية ، في حين أدى تفككه إلى إزالة ما كان يُنظر إليه على أنه تحدٍ للشرعية الأيديولوجية والاقتصادية للنظام الرأسمالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. فتح نظام ما بعد عام 1991 الاقتصاد الروسي أمام الاستثمار الرأسمالي الأجنبي. لكن الدولة الروسية لا تزال ممتدة على المدى الاستراتيجي العالمي لأوراسيا. علاوة على ذلك ، فإن الأوليغارشية الروسية التي سيطرت على الاقتصاد الوطني كانت قادرة على الحد من وصول الإمبريالية الأمريكية والأوروبية إلى موارد روسيا.

فمن أجل تحقيق مشروع الهيمنة الأمريكية ، فإن الوصول غير المحدود إلى الموارد الاستراتيجية لروسيا والسيطرة على أراضيها هما هدفان حاسمان من ناحيتين.

أولاً ، تقدر الثروة الفعلية لموارد روسيا بعشرات تريليونات الدولارات. بالإضافة إلى القيمة النقدية لهذه المعادن والفلذات ، يتم تصنيف العديد من هذه الموارد على أنها مواد استراتيجية ، ضرورية للاقتصادات الصناعية المتقدمة في القرن الحادي والعشرين.

تعد روسيا كنزاً هائلاً من الموارد الطبيعية القيمة ، مع احتياطيات هائلة،  وفي بعض الحالات من بين أكبر الاحتياطات، من النفط والغاز الطبيعي والأخشاب والنحاس والماس والذهب والفضة والبلاتين والزنك والبوكسيت والنيكل والقصدير والزئبق والمنغنيز والكروم والتنغستن والتيتانيوم والفوسفات. يقع ما يقرب من سدس رواسب خام الحديد في العالم في منطقة Kursk Magnetic Anomaly ، بالقرب من حدود أوكرانيا. كما إن المعادن النادرة الأخرى الموجودة بكميات كبيرة في روسيا هي الكوبالت والموليبدينوم والبلاديوم والروديوم والروثيريوم والإيريديوم والأوزميوم. وتُعد روسيا أيضاً مصدراً رئيسياً لليورانيوم والأتربة النادرة التي  أصبحت مصدراً رئيسياً للمنافسة الجيوسياسية العالمية.

حقيقة أن هناك صراع حاد حول الوصول إلى هذه الموارد الحيوية معروف جيداً للخبراء في الإستراتيجية الجيولوجية العالمية. لكن مناقشة موضوع المواد الخام والسيطرة على ثروة روسيا لا تشق طريقها إلى البث الجماهيري والإنترنت ووسائل الإعلام المطبوعة ، التي تفضل أن يعتقد الجمهور أن الإمبريالية الأمريكية والأوروبية تخوض صراعاً نبيلاً ونزيهاً نيابة عن ديمقراطية الأوكرانيين ، حتى إن تطلب ذلك ، مع الأسف ، تسليح الفاشيين في كتيبة آزوف.

ثانياً ، السيطرة المادية على الأراضي الروسية أمر حيوي لما تعتبره واشنطن المواجهة الحتمية مع الصين. و عندما يحين وقت الحرب المفتوحة ، سيتم التذرع بالدفاع عن الأويغور ضد اضطهاد الصين 'للإبادة الجماعية' حيث يتم الاحتجاج اليوم بادعاء الإبادة الجماعية الروسية للأوكرانيين.

لا شك أن التركيز على أهمية المواد الخام كعامل رئيسي في التحريض على الحرب ضد روسيا سوف يتم الاستهزاء به باعتباره مثالاً على 'الماركسية المبتذلة'. مهما كان الأمر ، فقد شدد لينين في دراسته للإمبريالية بشكل كبير على صراع القوى الإمبريالية لتأمين السيطرة على مصادر المواد الخام إذ كتب: 'كلما تطورت الرأسمالية ، زاد الشعور بنقص المواد الخام بقوة ، وكلما اشتدت المنافسة والبحث عن مصادر المواد الخام في جميع أنحاء العالم ، زاد الصراع اليائس من أجل الاستحواذ على المستعمرات. '

ربط لينين الدافع للحصول على الوصول إلى المواد الخام والسيطرة عليها بالاستيلاء على الأراضي وشدد ، كعنصر أساسي من عناصر الإمبريالية ، على أهمية عمليات الضم.

بالطبع ، هناك العديد من الأشكال التي يمكن من خلالها ضمان السيطرة على الأراضي ، دون الضم المعلن ، الذي قد يسمح للإمبرياليين بالحفاظ على سراب استقلال البلد الخاضع. لكن السراب لن يكون حقيقة. تتوقع الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها في الناتو أن النتيجة النهائية للصراع، مهما طال أمدها، ستكون تدمير روسيا بشكلها الحالي.

تم الإبلاغ عن التحول إلى سياسة شديدة العدوانية من قبل واشنطن بوست في 16 أبريل:

بعد ما يقرب من شهرين من هجوم فلاديمير بوتين الهمجي على أوكرانيا ، بدأت إدارة بايدن وحلفاؤها الأوروبيون التخطيط لعالم مختلف تماماً ، حيث لم يعودوا يحاولون التعايش والتعاون مع روسيا ، ولكنهم يسعون بنشاط لعزلها وإضعافها باعتبارها دولة كمسألة استراتيجية طويلة الأجل.

في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ، وفي وزارة الخارجية والبنتاغون والوزارات الحليفة ، يتم وضع المخططات لتكريس سياسات جديدة عبر كل جانب تقريباً من موقف الغرب تجاه موسكو ، من الدفاع والتمويل إلى التجارة والدبلوماسية الدولية. ('الولايات المتحدة وحلفاؤها يخططون لعزل طويل الأمد لروسيا”).

ما هي التداعيات الاستراتيجية للتخلي عن جهود 'التعايش والتعاون مع روسيا'؟ إذا اعتقدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو أنه من غير الممكن 'التعايش' مع روسيا ، فإن الاستنتاج التالي هو أنهم مصممون على تدميرها. إن 'العالم المختلف' الذي تتصوره القوى الإمبريالية  الذي هم على استعداد للمخاطرة من أجله بحرب نووية وحياة مئات الملايين في هذه العملية  هو عالم لا توجد فيه روسيا بشكلها الحالي.

تكشف الحرب في أوكرانيا الآن بالكامل عن العواقب الكارثية للخيانة الستالينية لثورة أكتوبر. بدأت هذه الخيانة مع نبذ برنامج الأممية الاشتراكية الذي استند إليه لينين وتروتسكي في استيلاء الطبقة العاملة على السلطة في أكتوبر 1917 وما تلاه من إنشاء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في عام 1922. البرنامج المناهض للماركسية ' الاشتراكية في بلد واحد '، التي كشف عنها ستالين في عام 1924 ، حفزت عودة الشوفينية الروسية الكبرى التي قوضت وحدة الجمهوريات الاشتراكية وعززت العناصر الرجعية ، المناهضة للسوفييت ، والفاشية العلنية ، خاصة في أوكرانيا، وهي  أمة مضطهدة بهمجية القيصرية ، التي انبثقت عنها العديد من أعظم قادة الحركة العمالية الثورية ، بمن فيهم ليون تروتسكي.

كان تفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991 تتويجاً للثورة الستالينية المضادة. يجب على الطبقة العاملة الروسية والأوكرانية والدولية ، التي تواجه الآن عواقبها ، أن تستخلص الدروس السياسية الضرورية من هذه التجربة التاريخية الهائلة.

في رسالة إلى اشتراكي روسي نُشرت على موقع  الاشتراكية العالمية في 2 أبريل ، أوضحت اللجنة الدولية الأساس المبدئي لمعارضتها للغزو الروسي لأوكرانيا ، على الرغم من التحريض على النزاع من قبل الولايات المتحدة. جاء في الرسالة أن الحركة التروتسكية 'لا تبني استراتيجيتها على نوع من المفاهيم البراغماتية الوطنية التي تحدد سياسات النظام الرأسمالي في روسيا'. وتابع الخطاب:

لا يمكن الدفاع عن الجماهير الروسية ضد الإمبريالية على أساس الجغرافيا السياسية للدولة القومية البرجوازية. بل إن النضال ضد الإمبريالية يتطلب إعادة إحياء الاستراتيجية البروليتارية للثورة الاشتراكية العالمية. يجب على الطبقة العاملة الروسية أن تنبذ كل المشروع لإجرامي لاستعادة الرأسمالية ، الذي أدى إلى كارثة ، وأن تعيد تأسيس ارتباطها السياسي والاجتماعي والفكري بتراثها الثوري اللينيني التروتسكي العظيم.

كما ينطبق برنامج الأممية الاشتراكية على الطبقة العاملة في جميع البلدان الإمبريالية والرأسمالية.

إن الحرب في أوكرانيا ليست حلقة سيتم حلها قريباً وستتبعها عودة إلى 'الحياة الطبيعية'. إنها بداية اندلاع عنيف لأزمة عالمية لا يمكن حلها إلا بإحدى طريقتين. يؤدي الحل الرأسمالي إلى حرب نووية ، على الرغم من أن كلمة 'حل' بالكاد يمكن تطبيقها بعقلانية على ما يمكن أن يصل إلى حد الانتحار الكوكبي. وهكذا ، فإن الرد الوحيد القابل للتطبيق ، من وجهة نظر تأمين مستقبل البشرية ، هو الثورة الاشتراكية العالمية.

السؤال الذي يطرح نفسه لا محالة: هل البديل الأخير ممكن؟

يتم توفير الإجابة من خلال فهم تناقضات رأسمالية العالم الحديث. كانت رؤية لينين العظيمة ، التي طورها بين عامي 1914 و 1916 ، هي أن التناقضات الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية قدمت أيضاً الدافع للثورة الاشتراكية العالمية. تم إثبات هذه الرؤية في اندلاع الثورة الروسية عام 1917.

في الأزمة الحالية ، يتجسد مفهوم لينين، الذي طوره تروتسكي والأممية الرابعة بشكل أكبر، في التصعيد السريع للصراع الطبقي في جميع أنحاء العالم. أدت الإجراءات المتهورة التي اتخذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو لعزل روسيا إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتقدمة بالفعل والتي يعاني منها كل نظام رأسمالي. المظاهرات والإضرابات الجماهيرية تجتاح العالم. إن الطبقة العاملة والجماهير المضطهدة لن تقبل الإفقار والجوع لمصلحة السعي الجنوني الإجرامي للنخب الحاكمة الإمبريالية للسيطرة على العالم.

كما أوضح تروتسكي ، فإن استراتيجية الأممية الرابعة لا تقوم على خريطة الحرب بل على خريطة الصراع الطبقي العالمي.

يجب تكريس الاحتفال بيوم الأول من  مايو 2022 لتوحيد الطبقة العاملة العالمية في نضال عالمي ضد الحرب الإمبريالية وسببها الجذري ، النظام الرأسمالي.

ستكون الاستراتيجية والبرنامج اللذان ستعمل عليهما اللجنة الدولية للأممية الرابعة في تطوير هذه الحركة التاريخية موضوع الرالي عبر الإنترنت الذي سيعقد يوم الأحد ، 1 مايو.

Loading