العربية

حمام الدم في بغداد

ارتفع عدد القتلى في الاحتجاجات الجماهيرية التي هزت العراق خلال الأسابيع السبعة الماضية إلى أكثر من 330 ، مع ما يقدر بنحو خمسة عشر ألف جريح.  واصل الشباب العراقيين التدفق إلى الشوارع في تحد للقمع العنيف للضغط على مطالبهم بالوظائف والمساواة الاجتماعية ووضع حد للنظام السياسي الفاسد الذي أوجده الاحتلال الأمريكي الذي أعقب الغزو الأمريكي الإجرامي عام 2003.

وقد قُتل معظم القتلى بالذخيرة الحية ، بما في ذلك نيران الأسلحة الرشاشة والرصاص الذي أطلقه القناصة ، سواء بشكل عشوائي على الحشود أو على قادة الاحتجاج الذين تم تحديدهم.  وقد عانى آخرون من جروح قاتلةبشعةمن قنابل الغاز المسيلة للدموع من الدرجة العسكرية التي أطلقت من مسافات قريبة على المتظاهرين ، وفي بعض الحالات غرزت العلب في جماجم الضحايا أو رئتيهم.  بالإضافة إلى ذلك ، تم استخدام مدفع المياه، ورش الماءالساخن على المحتجين.

ووردت أنباء عن حالات اختفاء قسري ، بينما أُجبرت أسر الضحايا الذين قتلوا بدم بارد على التوقيع على بيانات تقر بأن الوفيات كانت "عرضية" من أجل استقبال جثث أحبائهم.

ولم تنجح هذه الوحشية الا في جذب طبقات أوسع من السكان ، ولا سيما قطاعات متزايدة من الطبقة العاملة العراقية ، إلى التعبئة المعادية للحكومة. وفي بغداد ، نجح المحتجون في احتلال ثلاثة جسور استراتيجية فوق نهر دجله المؤدي إلى المنطقة الخضراء شديدة التحصين ، حيث تقع المباني الحكومية ، وفلل كبار المسؤولين ، والسفارات ، ومكاتب المقاولين العسكريين والوكالات الأجنبية الأخرى.

في جنوب البلاد ، قام المتظاهرون مرة أخرى بحصار ميناء أم قصر الرئيسي بالخليج العربي بالقرب من البصرة ، مما قلص نشاطه بأكثر من خمسين في المائة.  أعلن عمال النفط يوم الأحد أنهم يضربون إضرابًا عامًا تضامنا مع المتظاهرين ، وتدفقت أعمدة من العمال نظمتها النقابات العراقية في ميدان التحرير لدعم الاحتجاجات.  في قلب جنوب العراق الشيعي ، قادت نقابات المعلمين حركة إضراب عامة أغلقت معظم المدن.

ولم تتمكن الحركة الاحتجاجية في جلب الجماهير إلى الشوارع في المناطق الشمالية السنية من محافظة الانبار والموصل التي قصفت تحت الأنقاض خلال ما يسمى بالحرب الأمريكية ضد داعش. وهذا ليس بسبب عدم التعاطف ، بل بالأحرى بسبب تهديد الهجوم العسكري المتجدد على أي بادرة معارضة. حتى أولئك في المنطقة الذين أعربوا عن تضامنهم علي فيسبواك قد اعتقلتهم قوات الأمن ، بينما أوضحت السلطات أنه سيتم معاملة أي شخصفي المنطقة  يعارض الحكومة على أنه "إرهابي" ومتعاون مع داعش.

لو كان هناك أي شيء يقترب من هذا المستوى من الإنتفاضة الشعبية والقمع المميت يجري في روسيا أو الصين أو فنزويلا أو إيران ، فيمكن للمرء أن يتخيل بسهولة نوع التغطية الاعلامية التي تتلقاها تلك الأحداث من وسائل الإعلام في الولايات المتحدة.  ومع ذلك ، فقد تم تجاهل الأحداث العراقية تقريبا من قبل شبكات البث ووسائل الإعلام المطبوعة الرئيسية. وهذا بالتأكيد ليس بسبب نقص الاهتمام الشعبي في البلاد.

فبعد كل شيء ، ذهب نحو مليوني جندي أمريكي وموظف حكومي مدني ومقاول إلى العراق بين الغزو الأمريكي عام 2003 وانسحاب معظم القوات الأمريكية من قبل إدارة أوباما في عام 2011. وفقد نحو 4500 من الأفراد الأمريكيين حياتهم هناك ، بينما عاد عشرات آلاف من الجرحى وغيرهم من المصابين الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة. في غضون ثلاث سنوات بالكاد ، تم تجديد التدخل الأمريكي بإرسال آلاف من الجنود الأمريكيين لاستعادة المدن التي فقدتها قوات الأمن العراقية (التي دربتها الولايات المتحدة)لداعش.

رد فعل وسائل الإعلام الأمريكية هو الصمت المذنب ووجه الخزي.  إن الأحداث في العراق هي تعبير صارخ عن الإجرام المدقع وفشل المشروع الإمبريالي الأمريكي بأسره في ذلك البلد ، وبالتالي فإن أقل ما يقال عنها هو الأفضل.

يتألف الذين يملئون الشوارع إلى حد كبير من جيل تشكله الغزو والاحتلال الأمريكي ، إلى جانب العنف المستمر الذي أعقب ذلك.  لقد عاشوا ما وصفه الموقع الإلكترونيّ للاشتراكيّة العالميّة في ذلك الوقت بأنه "سوسيوسيد" أي إبادة إجتماعية ، وهو التدمير المنهجي لمجتمع بأكمله كان قبل عام 2003 أحد أكثر المجتمعات تقدمًا في الشرق الأوسط.  يقدر عدد القتلى في هذه الحرب الإجرامية ، التي تم إطلاقها  على أساس أكاذيب حول "أسلحة الدمار الشامل" ، بأكثر من مليون شخص ، بينما لا يزال حوالي مليوني شخص مشردين.

والنظام الذي يقاتلون من أجل إسقاطه هو النتاج المباشر للاحتلال الأمريكي الذي تم تشكيله على أساس دستور كتبه المسؤولون الأمريكيون. وقد صمم لخدمة استراتيجية واشنطن للتقسيم والحكم من خلال تنظيم الحكومة السياسية العميلة على أساس طائفي ، مما ساعد على تأجيج حرب أهلية دموية كانت لها عواقب وخيمة أخرى.

رئيس الوزراء العراقي الحالي عادل عبد المهدي هو تجسيد للنظام السياسي المفلس والفاسد الذي صاغته الإمبريالية الأمريكية.  وبدءًا من حياته المهنية كعضو في حزب البعث الحاكم في العراق في عهد صدام حسين ، استمر في أن يصبح عضوًا قياديًا في الجزء الشيوعي العراقي الستاليني ، ثم ذهب إلى المنفى في إيران كموالٍ لآية الله الخميني.  بعد عودته إلى العراق بواسطة الدبابات الأمريكية ، انضم إلى الحكومة العميلة التي أنشأتها سلطات الاحتلال الأمريكية في عام 2004 كـ "وزير المالية".

لقد ترأس ، مثل أسلافه منذ عام 2004 ، على نهب ثروة العراق النفطية لإثراء رأس المال الأجنبي والأوليغاركية الحاكمة المحلية وطبقة من السياسيين الفاسدين وزمرتهم.  وفي الوقت نفسه ، في بلد يمتلك خامس أكبر احتياطي نفطي في العالم ، يبلغ معدل البطالة الرسمي للعمال الشباب في العراق 25 بالمائة ، ويعيش حوالي ربع السكان في ظل ظروف الفقر المدقع في الوقت الذي مئات الآلاف من الشباب ، بما في ذلك العديد من خريجي الجامعات ، يحاولون دخول سوق العمل كل عام للعثور على وظائف.

ومن الساخر أن كلا من واشنطن وطهران يعارضان طلب المتظاهرين بإسقاط النظام.  سعت كل من الولايات المتحدة وإيران إلى تحقيق مصالحهما الخاصةمن خلال إدارة مهدي ، حتى في الوقت الذي تحارب فيه الإمبريالية الأمريكية لإحداث تغيير في النظام الإيراني من أجل القضاء على عقبة أمام هيمنتها في الشرق الأوسط.

وزارة الخارجية الأمريكية ، التي تهتم في الغالب بتأمين القواعد الأمريكية التي لا يزال الآلاف من القوات الأمريكية تعمل فيها في العراق ، التزمت الصمت في البداية بشأن القمع الدموي للمتظاهرين.  لكن في أواخر الشهر الماضي ، بعد ورود أنباء عن أن إيران توسطت في اتفاق بين الأحزاب السياسية العراقية الرئيسية لدعم بقاء المهدي في السلطة وقمع المعارضة في الشوارع ، بدأت واشنطن تصدر أصواتاً حول احترام مطالب المحتجين.

وقد أصدرت وزارة الخارجية تهديدًا غامضًا بفرض عقوبات ، ولم تذكر أحدًا على وجه الخصوص ، ولكنها تشير إلى أنه يمكن استهداف أي مسؤول يتعاون مع إيران.  في الوقت الحالي ، ليس لدى الولايات المتحدة شيء أفضل لاستبدال مهدي وزملائه اللصوص به ، إنه أفضل ما يمكن أن تجده واشنطن بعد الإطاحة بصدام حسين.

ساعدت صحيفة نيويورك تايمز ، التي كانت أداة دعائية مطاوعةلأهداف الحرب الأمريكية ، في الترويج للرواية المعادية لإيران من خلال نشر ما زعمت أنه "مجموعة" من كابلات المخابرات الإيرانية السرية التي توضح العلاقات الإيرانية مع مختلف الجهات الفاعلة في الحكومة العراقية. وقدم مصدر مجهول — ربما داخل جهاز المخابرات الأمريكية — الكابلات المزعومة إلى المنشور الالكتروني The Intercept ، والتي سلمتها إلى التايمز.

في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى تحقيق أهدافهاالإقليمية في العراق ، وتسعى الحكومة الإيرانية إلى قمع الاضطرابات الاجتماعية التي تخشى أن تنتشر عبر حدودها — ومع انتشار الاحتجاجات الأخيرة على ارتفاع أسعار الوقود — فإن اندلاع الاحتجاجات الجماهيريةفي العراق يشير إلى طريق جديد للامام في الشرق الأوسط.  خرجت الجماهير إلى الشوارع لمتابعة مصالحها الطبقية والنضال من أجل المساواة الاجتماعية ضد النخبة السياسية التي عززت الانقسامات الطائفية.

يجب أن تكون هذه الحركة مسلحة ببرنامج الدولية الاشتراكية الذي ناضلت من أجله اللجنة العالمية للأممية الرابعةفي سبيلتوحيد العمال في جميع أنحاء العراق والشرق الأوسط ودوليا في الكفاح من أجل وضع حد للنظام الرأسمالي ، مصدر الحرب واللامساواة الاجتماعية.

Loading