العربية

150 عاما على ولادة روزا لوكسمبورغ

نُشر في الأصل باللغة الإنجليزية في 4 مارس 2021

في مثل هذا اليوم قبل 150 عاماً ، في 5 مارس 1871 ، ولدت روزا لوكسمبورغ في بلدة زاموي البولندية الصغيرة. وعلى الرغم من موتها المبكر والعنيف عن عمر 47 عاماً ، كانت مع لينين وتروتسكي ، واحدة من أهم القادة الماركسيين الثوريين في القرن العشرين. ففي ظل ظروف الأزمة الرأسمالية العميقة ، تضمن عملها دروساً حيوية صالحة حتى اليوم.

جمعت روزا  لوكسمبورغ بين الشجاعة الشخصية والروح القتالية التي لا تنكسر، والمبادئ التي لا تتزعزع ، مع ذكاء متميز وقدرات نظرية وبلاغية غير عادية. كانت متعلمة تعليماً عالياً ، وتحدثت الألمانية والبولندية والروسية والفرنسية بطلاقة ، وفهمت لغات أخرى. كانت قادرة على الشغف الهائل، وامتلكت  شخصية رائعة جذبت العمال والمثقفين على حد سواء.

أحبت الأدب وتآلفت معه، ففي السادسة من عمرها، بدأت الكتابة لصحيفة الأطفال، وبدأت في ترجمة الشعر الروسي إلى البولندية بعد ذلك بوقت قصير، وكتبت قصائدها الخاصة. كان بإمكانها تلاوة صفحات للشاعر الوطني البولندي، آدم ميكيفيتش، عن ظهر قلب، بالإضافة إلى الشعراء الألمان مثل جوته وموريكه. ظهر حبها للطبيعة بوضوح في صفحات رسائلها. درست علم الأحياء في البداية قبل التحول إلى القانون والاقتصاد و حصلت على الدكتوراه في سن 26 بامتياز .

مثل كل الشخصيات التقدمية العظيمة في تاريخ العالم، تعرضت لوكسمبورغ للاضطهاد والافتراء من قبل خصومها، أو تم تبني مواقفها وتزييفها من قبل أصدقاء مزيفين. بٌذلت محاولات لتأطيرها على أنها  ناشطة نسوية ، وتصويرها على أنها مدافعة عن طريق غير ثوري للاشتراكية ، كما إساءة استخدامها شاهدة رئيسية ضد البلشفية. إن حزب اليسار الألماني، الذي جسد نقيضاً للوكسمبورغ تماماً في كل جانب من نشاطه العملي وفي كل سطر من برنامجه ، أطلق اسم الثورية العظيمة على المعهد التابع له.

ما أن يباشر المرء دراسة سيرة لوكسمبورغ ويقرأ كتاباتها حتى يكتشف  كل هذه المحاولات على أنها عمليات احتيال. لقد التزمت دون قيد أو شرط بالثورة الاشتراكية ودافعت بلا هوادة عن الأممية. إن نضالها ضد تحريفية برنشتاين و النزعة المحافظة لدى النقابات العمالية ، ومعارضتها التي لم تلن للحرب العالمية الأولى  ودورها الرائد في تأسيس الحزب الشيوعي الألماني، ضمنت لها مكانتها في المرتبة الأولى في الماركسية الثورية.

كانت لوكسمبورغ مقتنعة تماماً بأن الإطاحة بالرأسمالية من قبل الطبقة العاملة هي السبيل الوحيد القادر على حل المشكلات الكبرى للإنسانية ، أي الاستغلال والقمع والحرب، وأن هذا يتطلب صراعاً من أجل نشر الوعي الاشتراكي في الطبقة العاملة. كان التملق المتعالي الذي غالبا ما تبناه المثقفون اليساريون تجاه العمال غريباً عنها تماماً. واعتبرت أن مهمتها هي رفع وعي العمال وإرواء تعطشهم للمعرفة والفهم وشرح الديناميكيات الاجتماعية والسياسية وتفصيل المهام السياسية الناشئة عنها. و جعلها هذا تحظى بشعبية لا تصدق بين العمال. وكلما  تحدثت في التجمعات الانتخابية للحزب الاشتراكي الديمقراطي ، كان الازدحام حاضراً على الدوام.

لطالما عارضت لوكسمبورغ النسوية البرجوازية. ففي رأيها ، كان تحرير المرأة لا ينفصل عن تحرير الطبقة العاملة من الاستغلال والقمع الرأسماليين. لم تكافح ، مثل نسويات اليوم وممارسي سياسة التركيز على الهوية ، بهدف وصول عدد قليل من النساء إلى الامتيازات البرجوازية ، ولكن من أجل إلغاء جميع الامتيازات. ولما تحدثت في عام 1912 في التجمع النسائي الديمقراطي الاشتراكي الثاني من أجل حق الاقتراع العام والمتساوي والمباشر للنساء ، بررت ذلك بقولها إنه "سيدفع ويصعد الصراع الطبقي البروليتاري بشكل كبير". وتابعت قائلة "من خلال" النضال من أجل حق المرأة في التصويت "،" سنعجل أيضاً بقدوم الساعة التي ينهار فيها المجتمع الحالي تحت ضربات البروليتاريا الثورية". 

اختلفت  لوكسمبورغ  في الرأي مع لينين، لكنها استندت ، بغض النظر عن حدتها المؤقتة ، على "الأرضية المشتركة لسياسات البروليتاريا الثورية" ، كما لاحظ تروتسكي ذات مرة. كما اتحد لينين ولوكسمبورغ في نضالهما ضد المعارضين التحريفيين للماركسية.

إن عمل لوكسمبورغ "الإصلاح أم الثورة؟" الذي عزز سمعتها كصوت رائد للجناح الثوري للاشتراكية الديموقراطية حين نُشر عام 1899 ، هو أحد أعظم المجادلات في الأدب الماركسي. إنه نقد مدمر لتحريفية إدوارد برنشتاين، الذي رفض الأساس المادي للنظرية الماركسية، وفصل الاشتراكية عن الثورة البروليتارية، وحولها إلى ليبرالية ذات دوافع أخلاقية.

رداً على ملاحظة برنشتاين الشائنة بأن الهدف النهائي لم يكن مهمًا بالنسبة له، ولكن الحركة كانت كل شيء ، أعلنت لوكسمبورغ أن الهدف النهائي للاشتراكية هو "العامل الحاسم" الذي حول "الحركة العمالية بأكملها من جهد عبثي لإصلاح النظام الرأسمالي"إلى  صراع طبقي ضد هذا النظام  ومن أجل قمع هذا النظام ". وتابعت قائلة: "في الجدل مع برنشتاين وأتباعه، يجب على كل فرد في الحزب أن يفهم بوضوح أنها ليست مسألة طريقة النضال هذه أو تلك، أو استخدام هذه المجموعة أو تلك من التكتيكات، ولكن وجود الحركة الاشتراكية الديموقراطية في حد ذاتها".

تحدث برنشتاين نيابة عن طبقة من مسؤولي الحزب والبيروقراطيين النقابيين والبرجوازيين الصغار الذين ربطوا مصيرهم الشخصي بنجاح الإمبريالية الألمانية. أدى الانتعاش الاقتصادي في العقد التاسع من القرن التاسع عشر،  إلى تحول الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى حزب جماهيري قانوني ، وأدى نمو النقابات العمالية الى التوسع السريع لهذه الطبقة.

أدت الثورة الروسية عام 1905 إلى زيادة حدة الصراعات داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي. و كانت الطبقة العاملة القوة الرائدة للثورة وحققت إنجازين جديدين: الإضراب الجماهيري السياسي والسوفييتات (مجالس العمال). ذهبت لوكسمبورغ إلى وارسو ، التي كانت تحت الحكم القيصري في ذلك الوقت ، وشاركت في الثورة. تم القبض عليها لاحقاً ولم تتجنب  عقوبة سجن طويلة وربما إعدام إلا بفضل التدخل العنيف لقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي.

و حينما روجت للإضراب السياسي الجماهيري في ألمانيا بعد عودتها ، كان رد فعل القادة النقابيين هو الرعب. وكان جوابهم: "الإضراب العام جنون عام". عُقد مؤتمر النقابات العمالية لعام 1905 في كولونيا تحت شعار "النقابات العمالية تطلب السلام أولاً وقبل كل شيء". مُنعت لوكسمبورغ من الكلام في الأحداث النقابية.

لم يكن بوسع القادة النقابيين إظهار عداءهم للثورة الاشتراكية بشكل أوضح. وأصبح الجدل حول الإضراب الجماهيري الآن منطقة الصراع المركزية بين الجناحين الانتهازي والثوري للحزب الاشتراكي الديمقراطي.

مع اقتراب الحرب العالمية الأولى ، تحولت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي حول أغسطس بيبل ، الذي توفي عام 1913 ، وكارل كاوتسكي، إلى اليمين أكثر من أي وقت مضى. ولما بدأت الحرب، كان الانتهازيون في الحزب الاشتراكي الديمقراطي هم المسيطرون. لقد وقفوا بقوة إلى جانب الإمبريالية الألمانية. ففي 4 أغسطس 1914 ، صوت نواب الحزب الاشتراكي الديمقراطي في البرلمان لصالح اعتمادات الحرب، في حين قادت روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت الأقلية التي قاومت موجة الشوفينية.

كان نضال روزا لوكسمبورغ ضد الحرب، الذي خاضته في الغالب خلف القضبان، من أكثر فترات حياتها بطولة. لقد شجبت بلا كلل خيانة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وفضحت جرائم الحرب الإمبريالية، وسعت إلى إثارة الجماهير. وفي مساء يوم 4 أغسطس 1914 ، شكلت المجموعة الأممية، التي نشرت صحيفة ذا أنترناشيونال ووزعت بشكل غير قانوني رسائل سبارتاكوس، مما أدى إلى تسمية المجموعة باسم رابطة سبارتاكوس.

بدأ أول مقال رئيسي للكسمبورغ في صحيفة "الأممية" بالكلمات التالية: "في الرابع من أغسطس عام 1914، تنازلت الاشتراكية الديمقراطية الألمانية سياسياً، وفي نفس الوقت انهارت  الاشتراكية الدولية. وكل محاولات إنكار أو إخفاء هذه الحقيقة، بغض النظر عن الدوافع التي قام ت عليها، تميل بشكل موضوعي إلى إدامة وتبرير الخداع الذاتي الكارثي للأحزاب الاشتراكية ،وهذا هو  المرض الداخلي للحركة الذي أدى إلى الانهيار ، وعلى المدى الطويل لجعل الاشتراكية الدولية لا تعدو أن تكون  خيالاً ونفاقاً ".

استند نضال روزا لوكسمبورغ ضد الحرب إلى نزعة أممية  لا هوادة فيها رافقتها  طوال حياتها.

فحين كانت طالبة في الثانية والعشرين من العمر، تدخلت في مؤتمر الاشتراكية الدولية في زيورخ لمهاجمة الوطنية الاجتماعية للحزب الاشتراكي البولندي حيث دعا الحزب إلى إعادة إنشاء الدولة الوطنية البولندية، التي كانت في ذلك الوقت مقسمة بين الحكم الروسي والألماني والنمساوي. رفضت لوكسمبورغ هذا الطلب ودعت إلى نضال مشترك بين الطبقة العاملة في روسيا وبولندا لإسقاط القيصرية. وحذرت من أن الدعوة إلى استقلال بولندا ستشجع الميول القومية في الأممية الثانية  وتأذن  بأسئلة قومية موازية في البلدان الأخرى وتقر "تفكك النضال الموحد لجميع البروليتاريين في كل دولة إلى سلسلة من النضالات القومية غير المثمرة".

أدى رفضها قبول "حق تقرير مصير الأمم" في برنامج الاشتراكية الديموقراطية الروسية إلى دخول لوكسمبورغ في صراع مع لينين ، الذي دافع عن هذا الحق. لكن التباين هنا كان أقل حدة مما تم ادعاءه لاحقاً. فبالنسبة للينين ، كان الشغل الشاغل هو النضال ضد الشوفينية الروسية العظمى. أما بالنسبة للوكسمبورغ ، فكان ذلك هو النضال ضد النزعة القومية البولندية. كما أن لينين أخضع المطالب القومية لمقتضيات الصراع الطبقي ولم يقم بحملة نشطة لدعم النزعة الانفصالية القومية، لكنه اقتصر على "المطلب السلبي، إذا جاز التعبير ، بالاعتراف بالحق في تقرير المصير".

وبغض النظر عن الاختلافات مع لينين، فإن عداء لوكسمبورغ للنزعة القومية كان بعيد النظر للغاية. ففيما يتعلق ببولندا، فاد جوزيف بيلسوسدكي، زعيم الحزب الاشتراكي البولندي،  قوات بولندا المستقلة المعاد تشكيلها في الهجوم على الجيش الأحمر بعد ثورة أكتوبر. ثم أسس بين عامي 1926 و 1935 ، دكتاتورية استبدادية. واليوم، يشيد به اليمين القومي في بولندا بوصفه بطلهم.

كان الاستسلام للنزعة القومية أيضاً سبب انهيار الأممية الثانية والثالثة، مما أدى إلى هزائم مروعة للطبقة العاملة. دعمت الأممية الثانية الحرب العالمية الأولى باسم "الدفاع عن الوطن الأم"، بينما انحطت الأممية الثالثة في ظل المنظور الستاليني "للاشتراكية في بلد واحد".

لكن الستالينيين، الذين داسوا على سياسة لينين المتعلقة بالقوميات، وعادوا إلى أسوأ ممارسات الشوفينية الروسية العظمى، لم يغفروا للوكسمبورغ أمميتها. ففي ظل حكم ستالين، كان الاتهام بالولاء لـ"لوكسمبورغ" لبعض الوقت عواقب وخيمة لا تقل عن عواقب الاتهام بـ"التروتسكية". وحتى بعد وفاة ستالين، اتهم جورج لوكاش الثورية العظيمة لوكسمبورغ بأنها مثلت "العدمية القومية".

وبحلول العقد التاسع من القرن العشرين على أبعد تقدير، فقدت المطالبة بحق الأمم في تقرير المصير كل الأهمية التقدمية والديمقراطية حيث لم تترك عولمة الاقتصاد وظهور الطبقة العاملة في أقصى أنحاء العالم أي مكان حتى للدول القومية شبه الديمقراطية. استخدمت الإمبريالية شعار تقرير المصير لتدمير الدول القائمة وإخضاعها. ففي هذه الدول ، مكن هذا الطلب المجموعات البرجوازية المتنافسة من تقسيم الطبقة العاملة وخدمة الإمبريالية. وقد تجلى ذلك في مأساة يوغوسلافيا. فباسم تقرير المصير القومي، أُجبرت البلاد وأجزاءها المنفصلة على خوض حرب قاتلة بين الأشقاء أسفرت عن إنشاء سبع دول غير قابلة للحياة اقتصادياً تحكمها زمر إجرامية.

لكن نضال لوكسمبورغ واتحاد سبارتاكوس لم يقتصر فقط على مناهضة قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي اليميني ولكن شمل أيضاً " المركز الماركسي" وزعيمه النظري كارل كاوتسكي، الذي وصفته لوكسمبورغ "بمٌنظِّر المستنقع". قدم المركز  تنازلات شفهية للمزاج الراديكالي للعمال لكنه عارض أي عمل ثوري في الممارسة ، ودعم المسار المؤيد للحرب عند قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وبعد أن تم طرده من الحزب الاشتراكي الديمقراطي عام 1917 شكل الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل فشددت لوكسمبورغ انتقاداتها لكاوتسكي. 

وكتبت أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل  يسير دائماً وراء الأحداث والتطورات ولم يأخذ زمام المبادرة.  و"لم يكن قادراً أبداً على رسم خط أساسي بينه وبين المرتبطين بالتنظيم الأكبر. أي غموض مذهل أدى إلى إرباك الجماهير بشعارات السلام القائم على التفاهم ، وعصبة الأمم ، ونزع السلاح، وعبادة ويلسون، وكل عبارات الديماغوجية البرجوازية التي نشرت حجاباً، و سترت الحقائق المجردة والخشنة للبديل الثوري خلال فترة الحرب التي حظيت بدعمهم الحريص. دار موقف الحزب كله بلا حول ولا قوة حول التناقض الرئيسي  الذي حاول من ناحية الاستمرار في جعل الحكومات البرجوازية، كسلطات معينة، تميل إلى عقد السلام ، في حين تحدث من ناحية أخرى عن العمل الجماهيري للحزب و البروليتاريا. إن المرآة الدقيقة للممارسة المتناقضة هي النظرية الانتقائية وهي  خليط من الصيغ الراديكالية مع التخلي اليائس عن الروح الاشتراكية ".

غالبًا ما أُدينت لوكسمبورغ بسبب "نظريتها عن العفوية" وثقتها في انتفاضة الجماهير المستقلة ضد الأجهزة المتحجرة ، ولانتقادها مفهوم لينين للحزب، وتأخير انفصالها التنظيمي عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي. لكن ليون تروتسكي، الذي خاض صراعاً ضد الميول الوسطية التي ارتكزت زوراً على لوكسمبورغ  قبل تشكيل الأممية الرابعة ، أوضح النقاط الأساسية في هذه القضية في عام 1935.

كتب أن "الجوانب الضعيفة وأوجه القصور" لم تكن حاسمة بأي حال من الأحوال لدى روزا. وتابع تروتسكي وكتب إن كانت مناصرة لوكسمبورغ لـ"عفوية الأعمال الجماهيرية" ضد السياسة المحافظة للحزب الاشتراكي الديمقراطي "طابعاً ثورياً وتقدمياً تماماً"،و في وقت أبكر بكثير من لينين ، أدركت روزا لوكسمبورغ الطابع المعيق للحزب المتحجر والجهاز النقابي وبدأت  النضال ضدهما".

لم تحصر روزا نفسها في إطار نظرية العفوية" ، لكنها "بذلت جهداً لتعليم الجناح الثوري للبروليتاريا مسبقاً وتجميعه تنظيمياً قدر الإمكان. ففي بولندا ، أنشأت منظمة مستقلة صارمة للغاية. أكثر ما يمكن قوله هو أنه في تقييمها التاريخي الفلسفي للحركة العمالية ، فإن مرحلة الاختيار التحضيري للطليعة، مقارنة بالأعمال الجماهيرية المتوقعة ، كانت قصيرة للغاية بالنسبة لروزا. في حين أن لينين، دون أن يواسي نفسه بانتظار معجزات الأعمال المستقبلية، أخذ العمال المتقدمين وصهرهم باستمرار وبلا كلل في نواة ثابتة ، بشكل غير قانوني أو قانوني، في المنظمات الجماهيرية أو السرية ، من خلال برنامج محدد بدقة.

لما تولى البلاشفة السلطة في روسيا في أكتوبر 1917 ، حظوا بدعم لوكسمبورغ الحماسي. غالباً ما يُفسَّر نصها "حول الثورة الروسية" ، الذي كتبته وهي  معزولة في السجن و لم يُنشر إلا بعد وفاتها بثلاث سنوات، على أنه نقد عميق للبلشفية. لكن هذا غير صحيح. لقد دافعت لوكسمبورغ دون قيد أو شرط عن ثورة أكتوبر وأشارت إلى أن "الأخطاء" التي انتقدتها نشأت عن الظروف المستحيلة التي واجهها البلاشفة بسبب خيانة الأممية الثانية والاشتراكية الديموقراطية الألمانية.

وكتبت: "لقد أظهر البلاشفة أنهم قادرون على كل ما يمكن أن يسهم به حزب ثوري حقيقي في حدود الإمكانات التاريخية ... ما هو ضروري هو التمييز بين الأساسي وغير الضروري ، وبين النواة و الصدفة" حول  الإفرازات  في سياسة البلاشفة. ففي الفترة الحالية ، لما نواجه صراعات نهائية حاسمة في كل العالم ، كانت المشكلة الأهم للاشتراكية ولا تزال هي السؤال الملح في عصرنا. إنها ليست هذه المسألة التكتيكية الثانوية أو تلك ، بل أن الأمر تعلق بقدرة البروليتاريا على العمل ، وبالقوة للعمل، وإرادة السلطة الاشتراكية في حد ذاتها. في هذا ، كان لينين وتروتسكي وأصدقاؤهما هم الأوائل الذين تقدموا  بوصفهم مثالاً لبروليتاريا العالم ؛ وما زالوا الوحيدين حتى الآن الذين يمكنهم الصراخ مع هوتن: "لقد تجرأت!"

هذا هو الأمر الأساسي والدائم في السياسة البلشفية. وبهذا المعنى ، فإن خدمتهم هي الخدمة التاريخية الخالدة المتمثلة في زحفهم على رأس البروليتاريا العالمية للاستيلاء على السلطة السياسية والتوظيف العملي لمشكلة تحقيق الاشتراكية ، والتقدم بقوة في تسوية الحسابات بين رأس المال والعمل في العالم بأسره. من الممكن طرح المسألة في روسيا ، لكن لا يمكن حلها هناك. وبهذا المعنى ، فإن المستقبل في كل مكان يخص "البلشفية" .

ففي نوفمبر 1918 ، اندلعت ثورة أيضاً في ألمانيا. بدأت بانتفاضة البحارة في مدينة كيل ، وانتشرت كالنار في الهشيم في جميع أنحاء البلاد. تنازل القيصر، وسلمت النخب الحاكمة سلطة الحكومة إلى زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي فريدريك إيبرت ، الذي تآمر مع القيادة العسكرية العليا لقمع الطبقة العاملة بدموية. كما شارك الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل في حكومة إيبرت بثلاث وزراء. 

وفي خضم النضالات الثورية ، شكلت رابطة سبارتاكوس الحزب الشيوعي الألماني  في برلين في نهاية عام 1918. كتبت روزا لوكسمبورغ برنامج الحزب وقدمته إلى المندوبين. لقد صاغت بشكل صريح هدف الإطاحة بحكم الطبقة البرجوازية. وشدد البرنامج على أن البديل ليس الإصلاح أو الثورة، بل أن  الحرب العالمية ، فرضت على المجتمع الاختيار، إما استمرار الرأسمالية، وحروب جديدة، والانحدار الوشيك إلى الفوضى والشغب، أو إلغاء الاستغلال الرأسمالي ... وفي هذه الساعة، الاشتراكية هي الخلاص الوحيد للبشرية. إن كلمات البيان الشيوعي تتوهج مثل عبارات  نارية فوق معاقل المجتمع الرأسمالي المتداعية،إما الاشتراكية أو الهمجية".

كانت حكومة إيبرت مصممة على منع الثورة الاشتراكية. وفي 15 يناير 1919 ، قُتلت روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت بهمجية بناءً على أوامر صريحة من وزير الحربية غوستاف نوسكه (الحزب الاشتراكي الديمقراطي). تم تنفيذ الجريمة من قبل تنظيمات عسكرية تم إحضارها إلى برلين من قبل نوسكه لقمع الانتفاضة عسكرياً. اختطفوا الاثنين واقتادوهما إلى مقرهم في فندق إيدن، حيث تم استجوابهما وأسيئت معاملتهما. وبعد ذلك، سقطت لوكسمبورغ أرضاً وضٌربت بأعقاب البنادق في مدخل الفندق ودُفعت في سيارة، حيث أطلق عليها النار. ثم ألقيت جثتها في قناة في برلين ، حيث تم العثور عليها بعد عدة أسابيع فقط. كما إعدام كارل ليبكنخت بثلاث رصاصات أطلقت من مسافة قريبة في برلين  في جديقة الحيوانات.

وافقت الدولة على جرائم القتل بشكل كامل، و تم تبرئة الضباط المتورطين مباشرة من قبل محكمة عسكرية في مايو 1919. كان فالديمار بابست ، الذي أصدر الأمر بوصفه رئيس المجموعة ، قادراً على مواصلة حياته المهنية في ظل النازيين وفي الجمهورية الفيدرالية، و توفي عام 1970 كتاجر أسلحة ثري. وبحلول هذه المرحلة ، كان المسار قد تم تحديده للصعود اللاحق للنازيين. سوف تستمر قوات العاصفة التابعة لهتلر في تجنيد قواتها من بين الجنود الذين حشدهم نوسكه و وحماهم القضاء. 

كان مقتل كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ ضربة قوية للحركة العمالية العالمية. فمع قيادة لوكسمبورغ للحزب الشيوعي الألماني، ربما كان من المحتمل أن يتحول تاريخ ألمانيا وحتى تاريخ العالم بشكل مختلف. هناك الكثير مما يوحي بأن الحزب الشيوعي الألماني كان سيتولى السلطة في أكتوبر 1923 لو امتلك قيادة مجربة وخبيرة، و لربما تم إنقاذ البشرية من أدولف هتلر ، الذي حدث صعوده قبل كل شيء بفضل شل الطبقة العاملة بسبب سياسة "الفاشية الاجتماعية" الكارثية للحزب الشيوعي الألماني الستاليني بل أن صعود ستالين نفسه كان  سيواجه معارضة شديدة من داخل الأممية الشيوعية.

قامت الحركة التروتسكية العالمية ، التي تمثلها اليوم اللجنة الدولية للأممية الرابعة، بالدفاع عن تراث روزا لوكسمبورغ وعن أمميتها ، و توجهها إلى الطبقة العاملة ، واشتراكيتها الثورية، وطورته إنه سلاح حاسم في النضال في سبيل الثورة الاشتراكية.