العربية

هل كان هناك بديلاً عن الستالينية؟

اسمحوا لي قبل كل شيء أن أشكر معهد الدراسات الروسية والأوروبية الشرقية لهذه الدعوة لأتحدث هنا في جامعة غلاسكو. أنا لست مؤرخاً محترفاً، لكن دراسة التاريخ هي شرط مسبق لا يمكن تحاشيه لعضوية الأممية الرابعة . وفي واقع الأمر لم يكن هناك أبداُ داخل الأممية الرابعة خطاً فاصلاً بين التاريخ والسياسات. وهذا ترك التروتسكيين عرضة للاتهامات من كل الجهات. إن معارضينا السياسيون يستاؤون  من إدخالنا القضايا التاريخية ضمن نقاشات السياسات المعاصرة، في حين أن المؤرخين المحترفين غالباً ما يرفضون ما نقوله حول الثورة الروسية وتداعياتها بوصفه أقرب إلى السياسة.

أنا لا أرى إمكانية للتقارب مع معارضينا السياسيين. إن تبايناتنا  حول مسائل لا حصر لعددها في البرنامج يعكس، بشكل عام، مفاهيم شديدة التباين حول علاقة التجارب التاريخية لحركة الطبقة العاملة الدولية بمشاكل ومهام الحركة الاشتراكية حالياً. إنما أظن أن هناك حاجة عظيمة لتجديد الحوار، إلى أقصى حد ممكن، ولتحالف فكري فعال بين الماركسيين الذين يربطون موروثهم السياسي بثورة أوكتوبر، والمؤرخين  الملتزمين بدراسة علمية لتاريخ الثورة الروسية والاتحاد السوفيتي مهما كانت مواقفهم السياسية الشخصية.

تلا انهيار الاتحاد السوفيتي  محاولة قامت بها  أدبيات تاريخية مزوة وزائفة للبرهنة على أن ثورة أكتوبروالاتحاد السوفيتي كانا نتيجة مؤامرة إجرامية فرضت  على شعب غير مدرك للأمر عقيدة جامدة  غريبة لا تصلح للعمل.

وهذه الأعمال المغرضة، التي توصف عادة بأنها ذات مكانة من خلال المراجعات المُعجبة التي تنشرها صحافة المؤسسة الحاكمة، هي في معظمها، من نتاج مدرستين إيديولوجيتين وثيقتي الترابط.

أولهما تلك العائدة لنزعة العداء للشيوعية إبان الحرب الباردة  ويمثلها أشخاص مثل ريتشارد بايبس من جامعة هارفارد و مارتن ماليا من جامعة كاليفورنيا. أما الثانية فمكونة من ستالينيين تم إعادة تركيبهم ومن ضمنهم مدافعين عن النظام السوفيتي وحتى بعض كبار الموظفين فيه، الذين اكتشفوا مؤخراً، بعد أن ثبت أن الأمر يدر المنافع،  أنهم كانوا ضحية البلشفية. وأبرز ممثلي هذه المدرسة هو الجنرال دميتري فولكوغنوف. 

ففي كتابه الجديد حول سيرة حياة لينين، خصص فولكوغنوف العديد من الصفحات حول حل الجمعية التأسيسية في يناير 1918، وهو فعل عده الجنرال بوصفه أحد الأمثلة الأولى على جريمة البلاشفة. وكتب فولكوغنوف أنه من خلال إغلاق الجمعية التأسيسية ' فرض لينين نفسه بوصفه نمطاً جديداً للمثقف الماركسي ، وطوباوياً مهووساً،مقتنعاً أن من حقه تطبيق أي تجارب طالما كان ذلك في خدمة السلطة'[2].

وبغض النظر عن الطريقة التي يمكن للمرء تفسير هذا الحدث إنما لم يُقتل أحد وقت تشتيت الجمعية التأسيسية. إنما لم يمض وقت طويل بعد إدانته القاسية لأخلاق لينين، حتى أشرف فولكوغنوف، بوصفه كبير المستشارين العسكريين للرئيس بوريس يلتسين، على قصف مبنى البرلمان الروسي في أكتوبر1993 الأمر الذي نتج عنه مقتل أكثر من ألف شخص. ويبدو أن فولكوغنوف تناسى اعتراضاته على لينين  واقتنع بحقه هو بالذات بتطبيق التجارب. وكل شيء يرتبط في التحليل الأخير بالمصالح الطبقية الخاصة التي تم خدمتها. 

مدرسة ما بعد السوفيتية لتزوير التاريخ.

إن بايبس، وماليا، و فولكوغنوف يمثلون تيارات مختلفة في ما يمكن وصفه بشكل أفضل بأنه مدرسة جديدة ما بعد سوفيتية لتزوير التاريخ، وإن ضحد هذه المدرسة يمثل مهمة عاجلة لكل الباحثين الجادين. ولا يقتصر هدف هذه المدرسة على تشويه سمعة الثورة الروسية، بل ونشر جو من ترهيب إيديولوجي يحط من عزيمة كل تمحيص علمي أصيل للصيرورة المعقدة الاقتصادية، والاجتماعية، والتقافية التي حددت تداخلاتها مجتمعة مسار الثورة الروسية. إن تداعيات هذا الهجوم بعيدة المدى. ففي التحليل الأخير، يتمثل هدف مدرسة التزوير التاريخي هذه بالنيل من كل موروث الفكر التقدمي والثوري على مدى قرون الذي ظهرت الماركسية من خضمه. 

وكي لا أتهم بمبالغتي في إضفاء مسحة درامية على الموضوع، اسمحوا لي أن أقتبس من مساهمة عرضها البروفسور ألكسندر تشودينوف عضو أكاديمية العلوم الروسية في موسكو، خلال مؤتمر العلوم التاريخية الدولي الثامن عشر، الذي عقد بين نهاية أغسطس وبداية سبتمبر 1995 في مونتريال. مقتبساً عن القديس ماتيوس وعن القديس أوغوستين، أدان تشودينوف بشدة مختلف ممثلي الفكر الطوباوي بأسرهم الذين يزعمون إمكانية وجود حل علماني لشقاء الإنسان. ' الرب وحده'، أرعد تشودينوف، ' يقدر على محو مثالب  ونواقص هذه الحياة، إنما سيقوم بهذا فقط عند نهاية العالم.'  قيل هذا، حقاً في مؤتمر دولي للعلوم التاريخية. وأعلن تشودينوف أن المسيحية'تخلص الناس من وهم إمكانية القضاء على كل الشرور الاجتماعية، وبالتالي على وهم إمكانية إقامة حكماً خالياً من الرذائل'. 

وعبر تشودينوف عن حزنه لإزالة السمة المسيحية عن الفكر الاجتماعي والسياسي خلال عصر النهضة ( الذي) بعث الحياة في التقليد الطوباوي للفلسفة القديمة. وهو وبخ بغضب كل من (مور) و كامبانيلا، قبل أن ينتقل إلى عصر التنوير، حين تم إنجاز الكثير من العمل الشيطاني من قبل روسو، مابلي، وديدرو، وإن اقتبست عن تشودينوف ' العديد من الآخرين ناهيك عن كبارهم'.  إن العمل الرهيب الذي أنجزه العقلانيون مهد الطريق لبروز روبسبيير، ثم ماركس وبطبيعة الحال لينين. وفي الختام  وصل  تشودينوف إلى هذه الخلاصة:

' من المهم الإشارة في الختام، إلى أن الأنظمة التوتاليتارية في القرن العشرين كانت نتيجة إزالة السمة المسيحية عن الوعي العام خلال الحقب السابقة[3].  

إن كل هذا قد قيل في حضور عشرات الأساتذة الجامعيين، الأمر الذي جعل العديد منهم يرتبك من الإحراج. وكان لديهم أسباب جيدة للحرج. لأن المكان المناسب لهلوسات لتشوردينوف – راسبوتين ليس مؤتمر العلوم التاريخية بل مجمع الأساقفة الروس الأورثوذكس. إنه انعكاس للانحطاط الصادم للمعايير الفكرية أن يتاح لمثل هذا الهراء الثيولوجي الوصول إلى منصة مؤتمر علمي دون أن يغادر ولا واحد من المؤرخين مقعده ليتصدى لتشودينوف.

ثمة تناقض لم يتم تفسيره في التحليلات المقدمة من قبل كل من مناهضي الشيوعية زمن الحرب الباردة القديمة و الستالينيين المعاد تركيبهم. فمن جهة أولى، هم يعزون إلى الماركسية حتمية جامدة، ويدعون أنها المصدر النظري لمحاولة البلاشفة فرض يوتوبيا معادية للسوق وغير قابلة للتطبيق على المجتمع الروسي. ولكن بعد ذلك، يلجأ أعداء' الحتمية' المريرون إلى حتمية فائقة التطرف في تفسيرهم لتاريخ السوفييت بعد 1917، حيث يعرضونه  بوصفه النتيجة التي لا يمكن تفاديها لافتضاح الإيديولوجية البلشفية. وقيل لنا أن كل مرحلة من التاريخ السوفيتي، كانت نتيجة حتمية لثورة أوكتوبر. وبعد ترجل لينين في محطة فنلاندا في نيسان 1917، تابع قطار التاريخ، تحت قيادة ماركسيين لا يعرفون الرحمة، سكة واحدة قادت إلى انهيار 1991، مع وقفات مبرمجة مسبقاً في أرخبيل الغولاغ.

خوف ستالين من تروتسكي.

إن واقع أن هذا التفسير وجد قبولاً واسعاً قد تم الإشارة إليه في عنوان هذه المحاضرة: ' هل كان هناك بديلاً عن الستالينية؟' إن طرح السؤال يوحي، في أحسن الظروف، بوجود إجابة واحدة تخمينية ممكنة. وعلى كل حال ليست هذه هي القضية. إن دراسة تاريخ الاتحاد السوفيتي تظهر أنه كان هناك بديلاً للستالينية. إن نمو البيروقراطية وسوء استخدام سلطتها السياسية قوبل بمعارضة واعية منهجية داخل الحزب البلشفي. وكانت أهم تلك المعارضات تلك التي برزت عام 1923 تحت قيادة ليون تروتسكي. ثمة إجابة على سؤال' هل كان هناك بديلاً عن الستالينية؟' هي أن ستالين والبيروقراطية السوفيتية ظنوا بالتأكيد أنه كان هناك بديل. لقد تعرض تروتسكي والمعارضة اليسارية إلى درجة من القمع كانت فظة بقدر ما كانت عديمة الرحمة. كان ستالين واعياً على الدوام للسمة المخادعة لادعائه الخاص بأنه استمرار للبلشفية، كان ستالين بالذات يعتقد أن تروتسكي مثل المعارضة السياسية الأشد خطراً على نظامه.

ويمكن العثور على تصوير حي لخوف ستالين من تروتسكي قبل أي مكان في سيرة حياة الديكتاتور السوفيتي التي كتبها ديمتري فولكوغنوف عام 1987. اعتمد فولكوغنوف على مواد وجدها في مكتبة ستالين الشخصية ورسم صورة لديكتاتور كلي الحضور يعيش في خوف من منفي معزول فاقد للجنسية.  وقال أن كل كلمة كتبها تروتسكي أو كٌتبت عنه احتفظ بها ستالين في خزانة خاصة. كانت نسخ ستالين من هذه الكتابات مليئة بالخطوط تحت السطور و بتعليقات منددة بها. 

لم يعد تروتسكي حاضراً، إنما مال ستالين إلى تشديد كراهيته له في غيابه، وكان شبح تروتسكي يعود بشكل متواتر ليعذب مغتصب السلطة. بل وصل الأمر بستالين إلى لوم نفسه لموافقته على ترك تروتسكي يمضي إلى المنفى في الخارج. هو لم يقبل حتى لنفسه بالإقرار أنه خاف تروتسكي وقتها، لكنه خاف بالتأكيد من التفكير به. إن شعورعدم تمكنه أبداً من حل ' معضلة' لايب دافيدوفيتش ( كما كان يميل لمخاطبة تروتسكي في عقله باستخدام الصيغة الييديشية لاسم ليف) تحولت إلى كره عنيف[4].

وتابع فولكوغنوف:

كان السبب الرئيس لجعل ستالين يخشى شبح تروتسكي هو خلق تروتسكي لمنظمته الخاصة، الأممية الرابعة...  كان الشبح ينفذ انتقاماً أشد إيلاماً مما كان ستالين نفسه قد تخيله...

إن فكرة أن تروتسكي كان يتكلم ليس باسمه هو وحده، بل باسم كل أنصاره الصامتين وكل المعارضين داخل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية كان مؤلماً بشكل خاص لستالين. حينما كان يقرأ اعمال تروتسكي، مثل مدرسة ستالين في التزوير،  رسالة مفتوحة إلى أعضاء الحزب البلشفي، أو الترميدور الستاليني، كان القائد يفقد تقريباً السيطرة على نفسه....

تم نشر أعمال تروتسكي التي جٌمعت في عشرات البلدان، وقد تم تشكيل صورة ستالين منها، وليس من كتب مثل كتاب فويشتفانغر وباربوسه[5].

لم يكن لدى فولكوغنوف على الإطلاق تعاطفاً مع شخصية تروتسكي أو مع أفكاره السياسية. إن مفهوم أن تروتسكي يمكن أن يٌعَد بديلاً لستالين بغيض بالنسبة لفولكوغنوف، وهو بذل كل ما في وسعه لتقديم أفعال تروتسكي وكتاباته بأسوأ صورة. إنما هذا يجعل ما عرضه عن تشبث ستالين بمتابعة نشاطات معارضه المنفي أكثر دلالة. لقد قام بطريقته، حتى وإن كان عن غير قصد، بإبراز الضعف الشديد في العديد من المجلدات حول تاريخ السوفييت التي مرت بأكبر قدر من الإيجاز على معاملة تروتسكي والمعارضة اليسارية. 

إن شخصية ليون تروتسكي ودوره السياسي، بوصفه قائد انتفاضة أكتوبر وبوصفه أهم معارض ماركسي للنظام الستاليني يخيم فوق كل النقاشات حول تاريخ السوفييت. وهو يظل، حتى هذا اليوم، ' أعظم من تم التغاضي عن ذكره'. إن كيفية التعامل مع تروتسكي كانت مشكلة صعبة بالنسبة لكل من الستالينيين ولمؤرخي البورجوازية المعادين للماركسية. ففي داخل الاتحاد السوفيتي، حتى بعد موت ستالين وخطاب خروتشيف، عجز النظام عن السماح بنشر جرد مستقيم لنشاطاته وأفكاره. فمن بين كل القادة البلاشفة الذين قتلهم ستالين، كان تروتسكي الوحيد الذي لم يتم أبداً رد اعتباره من قبل النظام السوفيتي. وحدث مؤخراً في نوفمبر 1987، في ذروة الغلاسنوت، حينما عرض غورباتشيف مراجعته التي طال انتظارها للتاريخ السوفيتي في الذكرى السبعين لثورة أوكتوبر، أدان القائد السوفيتي تروتسكي بشدة، إنما وجد بعض الكلمات اللطيفة ليقولها حول مساهمة ستالين في سبيل القضية الاشتراكية.

وليس من الصعب إدراك لماذا يمثل الدور التاريخي لتروتسكي مثل هذه الصعوبات للبيروقراطية السوفيتية حيث أن سجل أعماله يمثل فضحاً لا يمكن الرد عليه للنظام الستاليني بأسره، تم تلخيصه في مؤلفه السياسي المميز، الثورة المغدورة.

فبالنسبة للمؤرخين المعادين للماركسية، فإن النضال الذي خاضه تروتسكي ضد ستالين يتحدى بجلاء أطروحة أن النظام التوتاليتاري كان التعبير الضروري والأصيل عن البلشفية. وإن لم يكن بمقدور المؤرخين المعادين للماركسية بخس أهمية النضال السياسي الذي خاضه ضد الستالينية لكنهم بذلوا أكبر ما في وسعهم للقيام بذلك. بل أن أحد أكثر المرخين المعادين للماركسية شهرة مضى أبعد من ذلك. اسمحوا لي الاقتباس من العمل الذي اكتسى الكثير من النفوذ في ثلاثة مجلدات كتبها البروفسور لستشك كولاكوفسكي،تحن عنوان التيارات الرئيسية في الماركسية حيث كتب:

إن العديد من المراقبين بما في ذلك مؤلف هذا الكتاب، يعتقدون أن النظام الستاليني كما تطور في ظل ستالين كان استمراراً للينينية، وأن الدولة التي أٌسِسَت على مبادىء لينين السياسية والإيديولوجية لم تكن قادرة على الحفاظ على نفسها إلا وفق الشكل الستاليني[6]. 

إن كانت الستالينية مثلت في الواقع تأليهاً لمبادىء لينين السياسية والإيديولوجية، فكيف للمرء تفسير النضال الذي خاضه تروتسكي والمعارضة اليسارية؟ طرح كولاكوفسكي هذا السؤال وقدم التفسير التالي:

نظر التروتسكيون وبالطبع تروتكسي بالذات، إلى إبعاده عن السلطة بوصفه منعطف تاريخي؛ إنما لا يوجد سبب لنوافقهم الرأي، وكما سنرى، بأن ' التروتسكية'لم يكن لها أبداً وجود بل كانت تلفيقاً ابتدعه ستالين. كانت التباينات بين ستالين وتروتسكي حقيقية إلى حد ما، إنما تم تضخيمها عبر الصراع على السلطة الشخصية ولم يتم أبداً صوغها في نظريتين مستقلتين ومتماسكتين... ففي الواقع ما كان هناك تعارضاً سياسياً أساسياً بين الرجلين ناهيك عن الاختلاف النظري[7].

 إن تأكيدات كولاكوسكي تشهد على الإفلاس الفكري وعلى اللامبالاة الساخرة بالوقائع التاريخية التي يتضمنها الادعاء بعدم وجود بديل عن الستالينية. ما هي المصداقية التي يمكن ربطها بطرح يتطلب من المرء قبول ما لا يٌصدق، وأن الصراع الذي شق الحزب البلشفي والحركة الشيوعية الدولية في العقد الثاني من القرن العشرين كان من حيث الجوهر لا شيء؟ وعمليات القتل الجماعية التي أمر بها ستالين، وتدمير كل المشتبه بهم  في داخل المجتمع السوفيتي ، بسبب سيرتهم السياسية أو اهتماماتهم الفكرية حتى الذين لا تربطهم سوى علاقات بعيدة مع التروتسكية، وافتراض أن هذا حدث على الرغم من أنه لم يكن لدى الدكتاتور السوفيتي تباينات سياسية ونظرية أساسية مع تروتسكي. كما يٌنتظر منا، في الوقت ذاته، تصديق أن تروتسكي كتب آلاف المقالات مندداً بالنظام السوفيتي وأنه عمل دون كلل لبناء حركة أممية للإطاحة به فقط لإخفاء موافقته على سياسات ستالين!

هل كانت الستالينية حتمية؟

إن المنضوين ضمن إطار مدرسة تزوير التاريخ ما بعد الحقبة السوفيتية يحددون نقطة انطلاقهم من استنتاج موجه إيديولوجياً مفاده أن الشمولية الستالينية كانت نتيجة محددة مسبقاً بنظرية وسياسات البلاشفة ويتجاهلون الوقائع التي تثبت شيئاً مغايراً.

إن المعايير المهنية لهؤلاء المؤلفين هي للأسف منخفضة. إنما الحجة الأساسية تحتفظ بشيء من الجاذبية المغرية، حتى بالنسبة إلى العديد من الطلاب ممن هم غير متعاطفين بأي شكل مع الأحكام المسبقة لمدرسة تزوير التاريخ ما بعد السوفيتية.

ففي النهاية، كيف للمرء تفسير الانتقال من لينين إلى ستالين؟ وهل هو من غير الصحيح أنه فقط خلال عدة سنوات من استيلائه على السلطة، تحول النظام البلشفي إلى ديكتاتورية عديمة الرحمة؟ وأليس من المنطق البحث عن بذور هذا التحول ضمن الحزب البلشقي ولا سيما ضمن إيديولوجيته؟

ليست هذه الحجة بالجديدة. فبالرجوع إلى العقد الثالث من القرن العشرين، خلال ذروة الإرهاب الستاليني، وحتى عندما كان رفاقه القدامى يٌقتلون وكان هو بالتحديد ملاحق من قبل قتلة الشرطة السرية، كان تروتسكي يواجه بشكل متواتر باتهامه أنه بوصفه قائداً لثورة أوكتوبر، يتحمل جزء من المسؤولية عن فظائع النظام السوفيتي.

وكان يرد على هذه الهجمات بالإشارة إلى العيب الأساسي في المنهجية التاريخية لهؤلاء الناقدين. فمن خلال السعي لاكتشاف منبع الستالينية في إيديولوجية البلشفية يتم نقل مفهوم الخطيئة الأصلية إلى دراسة السياسات السوفيتية ويقوم أعداء الماركسية  بتفحص البلشفية كما لو أنها تطورت ضمن مخبر مٌعَقم. وهم يقفزون عن واقع أن الحزب البلشفي، على الرغم من كل حيويته، لم يكن سوى عنصراً في البانوراما الاجتماعية الواسعة للثورة الروسية. صحيح أنه كان بالتأكيد العامل السياسي الحاسم في تطور الثورة الروسية، لكن الحزب البلشفي لم يخلق نفسه من العدم. وحتى بعد أن حصل على سلطة الدولة، لم يتحول الحزب البلشفي بذلك إلى المحدد الوحيد للواقع الاجتماعي. كانت حدود سلطته قد تشكلت من خلال عوامل تاريخية وجماهيرية سابقة، ناهيك عن الإشارة إلى التداخل المعقد لمتحولات سياسية واقتصادية دولية.

لم يقتصر الأمر على تأثير الحزب على الظروف الاجتماعية التي واجهته خلال الاستيلاء على السلطة بل أنه تأثر بها. استطاع الحزب البلشفي، عبر المراسيم، إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إنما لم يتمكن من إلغاء آلاف السنوات من تاريخ روسيا. ولم يكن قادراً على إلغاء مختلف أشكال التخلف الاقتصادي والثقافي والسياسي الذي وسم التطور التاريخي لروسيا على مدى عدة قرون. 

إن كل البشر يحملون في حمضهم النووي الجينات الوراثية التي تحدد القالب العام لتطورهم البيولوجي. لكن حتى في هذه السيرورة الطبيعية ثمة ظروف خارجة عن الجسد البشري، مثل الجو المتضرر من آثار الصناعة،  تلعب دوراً لا يمكن بخس أهميته. وإذا تم التعامل مع  مصير كل رجل وامرأة ، انطلاقاً من نقطة وجودهم بوصفهم حيوانات اجتماعية،  سنعلم أن الظروف التاريخية  التي عاشوا فيها يمكن أن تمارس تأثيراً حاسماً للغاية حتى على الجوانب الجسدية الصرفة لتطورهم.

وإن كان الأنتروبولوجيون لا يقدرون على تجاهل العوامل الخارجية المشروطة بعوامل اجتماعية، في تطور البشر، فيجب على المؤرخين عدم محاولة التعامل مع ظاهرة سياسية مركبة مثل الحزب البلشفي كما لو أن تطوره السياسي جرى بالتوافق مع تعليمات تم تشفيرها بشكل خفي داخل موقفها النظري العام. إن دحضنا للمشعوذين العقائديين في مدرسة تزوير التاريخ ما بعد الحقبة السوفيتية لا يقتضي أننا نضفي سمة الكمال على الحزب البلشفي، أو أننا ننكر احتمال وجود أخطاء سياسية اقترفها لينين وتروتسكي في أعقاب ثورة أوكتوبر، مثل حظر التيارات داخل الحزب خلال المؤتمر العاشر للحزب عام 1921، ساهمت بشكل ما في نمو البيروقراطية و احتمال مساهمتها في تعزيز الديكتاتورية الستالينية. بل أنه يمكن للمرء أن يستنتج أنه كان هناك عواملاً في المفاهيم  التنظيمية وفي أشكال البلشفية يمكن أن تٌستعمل وقد استعملت ، ضمن إطار بعض الظروف، من قبل ستالين لبناء نظام استبدادي. إنما يجب الانتباه للجملة الاعتراضية:ضمن إطار بعض الظروف. تضمنت البلشفية في داخلها تيارات متصارعة. إنما لا يمكن فهمها إلا ضمن سياق  التناقضات الاقتصادية والاجتماعية التي وجهت المجتمع السوفيتي بوصفه كلاً متكاملاً.

وحتى إذا أخذنا في الاعتبار الأدوار التي لعبها الأفراد الأكثر أهمية، يكون من الضروري الإقرار بأولوية الشروط والظروف الموضوعية.

التطور السياسي لستالين .

قبل سنوات عديدة تناقشت في موسكو مع إيفان فراشيف، وهو من الأفراد القلائل الذين كانوا في المعارضة اليسارية في العقد الثاني من القرن العشرين، وكان من الموقعين الأربع وثمانين على إعلان المعارضين وتمكن من تدبر أمره والنجاة من ستالين.لقد عرف، بشكل جيد، تروتسكي ومعظم قادة الحزب البلشفي الآخرين بما في ذلك ستالين. سألت فاشيف إن كان هناك أي شيء حول ستالين يمكن أن يقوده إلى الاعتقاد بأنه كان رجلاً قادر على الأمر بإعدام رفاق عمل معهم بشكل وثيق لسنوات عديدة.

رد فراشيف أنه سأل نفسه هذا السؤال مرات عديدة، لكنه لا يتذكر أي شيء يمكن أن يقوده لتصديق أن ستالين كان قادراً على اقتراف مثل هذه الجرائم. عندها روى فراشيف الحكاية التالية.

في عام 1922، كان على وشك مغادرة موسكو لتنفيذ تكليفاً مهماً في الأرياف. كان يعاني من ألم في جانب جسده، إنما لم يهتم بطلب إعفائه من تلك الرحلة. وقبل رحيله كان فراشيف مجبراً على الاجتماع بستالين الذي كان مسؤول التنظيم في الحزب.  قصد الكرملين وراجع مع ستالين تفاصيل رحلته الوشيكة. وفي لحظة ما من النقاش بدا أن ستالين انتبه إلى معاناة فراشيف الجسدية.

 أثير إنتباه  ستالين بشدة ، وبدا أنه أعار الأمر اهتماماً جدياً.  أخبر فراشيف أنه من غير المسموح به تحمل مثل هذه المخاطر المتعلقة بالصحة، وأمره بإلغاء رحلته، واتصل هاتفياً بنفسه ليضمن أفضل معاينة صحية لفارشيف على أيدي أفضل أطباء الكرملين. بعد المعاينة تبين أن فراشيف يحتاج إلى عملية.  ومع استرجاع هذا الحدث أقر فراشيف أنه من الممكن أن ستالين كان أكثر اهتماماً ببناء جهازه الحزبي إنما لازمه انطباع بأن ستلين كان وقتها ما يزال قادراً على الشعور بانفعالات إنسانية والتعبير عنها. 

اقترف ستالين جرائم فظيعة. من الصعب تصديق أنه لم يكن داخل شخصيته عناصر نفسية كامنة جعلت منه قادراً على القتل الجماعي. إنما حتى في حالة ستالين، فإن هذة الميول المرضية والإجرامية طفت على السطح واكتست شكلاً بشعاً تحت تأثير مجموعة من الظروف الموضوعية. ويجدر بنا هنا ذكر ملاحظة سجلها تروتسكي في السنوات الأخيرة للعقد الثالث من القرن العشرين حيث كتب لو أن ستالين توقع تداعيات صراعه مع المعارضة اليسارية، حتى وإن علم مسبقاً أنه سيحظى بسلطة مطلقة، لما أقدم عليه.

ومن دواعي السخرية أن قصر نظر ستالين كان أحد نقاط أرجحيته السياسية في الصراع ضد معارضيه. كان ستالين مرتاحاً في براغماتيته، وغير مرتبطاً باعتبارات مبدأية، مستندة إلى تحليل نظري جاد، مثل التي لعبت دوراً جوهرياً في انتقاء تروتسكي للبدائل السياسية. كان ستالين قد قلل من شأن تحذيرات المعارضة الملحة من أن سياساته على المستويين الداخلي والدولي ستقود إلى كارثة بوصفها ترويجاً للذعر. ونجد في  رسالة من ستالين إلى مولوتوف نٌشرت مؤخراً، تعود إلى الخامس عشر من يونيو 1926 مقطعاً يكشف عن صفقة كبيرة حول ستالين:' أنا لست منزعجاً من القضايا الاقتصادية، فريكوف قادر على الاهتمام بذلك. ولن تتمكن المعارضة من كسب أي نقطة في الشأن الاقتصادي[8]. 

كان هذا هو تقييم ستالين الذي لم يخرج إلى العلن حول أهم موضوع يتعلق به مصير الاتحاد السوفيتي. وهو يستحق 'علامة الصفر'. لم يكن ستالين قادراً على أن يتصور احتمال أن ينفجر في وجهه تراكم تناقضات الاقتصاد السوفيتي  في ظل ‘السياسة الاقتصادية الوطنية’، وأن تدفعه، بعد بضعة سنوات لاحقة، إلى سياسات التجميع القسري اليائسة المتهورة والإجرامية.

الظروف الدولية التي أحاطت بثورة أوكتوبر.

كان هناك نقطة مركزية في كل من منظور تروتسكي حول الثورة الدائمة واطروحات نيسان للينين هي العلاقة التي لا يمكن فصمها بين نضال الطبقة العاملة الروسية والبروليتاريا الدولية لاسيما الأوروبية. لم يتصور لينين ولا تروتسكي ثورة أكتوبرمن الناحية القومية في المقام الأول. فكلاهما فهم الإطاحة بالحكومة المؤقتة وسوّغاه بوصفه بداية قرار للبروليتاريا الدولية نتيجة التناقضات الشاملة  للرأسمالية التي اشتدت تحت تأثير الحرب العالمية الأولى. وما من شيء مشترك بين هذا المنظور وهدف إقامة نظام اشتراكي مكتف ذاتياً ضمن حدود روسيا المتأخرة اقتصادياً. واقتضى الأمر انتظار خريف 1924 بعد شهور عديدة على موت لينين حين طرح بوخارين وستالين فكرة إمكانية بناء الاشتراكية  في بلد واحد على أساس قومي. 

أما قبل هذا التاريخ فكان من الفرضيات البديهية للماركسية أن استمرار الحكومة البلشفية، ناهيك عن تطوير اقتصاد اشتراكي، مرتبط بانتصار ثورة اشتراكية في أوروبا الغربية. وكان هناك قناعة محمومة بأن الاستيلاء على السلطة من قبل الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة سيزود روسيا السوفيتية بالموارد السياسية، والمالية، والصناعية، والتقنية الحيوية لاستمرارها.

ويمكن القول، وقد طٌرح هذا وقتها من قبل المناشفة وحلفائهم في صفوف الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين، أن البلاشفة كانوا مجانين إلى حد تأسيس الصراع على السلطة على مثل هذه الحسابات المعتمدة على ثورة عالمية. ويجب الإشارة، في كل الأحوال، إلى أن روزا لوكسمبورغ، التي لم تكن موقفها تجاه لينين غير انتقادية، وجدت بالتحديد أن هذا الجانب من البلشفية يستحق تقديراً غير محدوداً. وقد كتبت عام 1918:

إن مصير الثورة في روسيا يعتمد بشكل كامل على الأحداث الدولية. إن واقع أن البلاشفة بنوا سياستهم بأسرها على ثورة بروليتارية عالمية هو الدليل الأسطع على بعد نظرهم سياسياً.

 لم تكن لوكسمورغ متفائلة بآفاق النظام البلشفي، ولم توافق على العديد من عناصر السياسات التي اتبعها البلاشفة بعد وصولهم إلى السلطة.إنما لم يصدف أبداً أن طرحت أنه لم يكن على البلاشفة الاستيلاء على السلطة أو أن أخطائهم السياسية كانت تعبيراًعن  شكل ما من الهوس الطوباوي. وحتى حين انتقدت إلغاء الديمقراطية والمبالغة في اللجوء إلى الإرهاب، فإن لوكسمبورغ لم توجه إداناتها الأخلاقية إلى البلاشفة بل إلى الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان حيث أن خيانتهم للمبادىء الثورية ودعمهم لسياسة الحرب التي اتبعتها الحكومة الألمانية، تضمنت احتلال أجزاء واسعة من روسيا وفرضت على الحكومة السوفيتية وضعاً ميؤوس منه.

وكان الأمر يعني الطلب من لينين ومن رفاقه شيئاً يتجاوز قدرات البشر لو توقعنا منهم أنه تحت مثل هذه الظروف أن يكونوا قادرين على توفير أرقى مستوى من الديمقراطية، وديكتاتورية البروليتاريا الأكثر مثالية ، واقتصاد اشتراكي مزدهر. ...

...نحن جميعاً خاضعين لقوانين التاريخ،  ولا يمكن تحقيق النظام الاشتراكي للمجتمع إلا على صعيد دولي. إن البلاشفة أظهروا أنهم قادرون على كل شيء يمكن لحزب ثوري أصيل الإسهام به ضمن حدود الممكن تاريخياً. ولا يفترض بهم اجتراع معجزات. لأن تنفيذ ثورة بروليتارية نموذجية لا تشوبها الأخطاء في بلد منعزل، استنزفته الحرب العالمية، وخنقته الإمبريالية ، وتمت خيانته من قبل البروليتاريا الدولية كان سيشكل معجزة حقيقية [9]. 

وخلصت إلى :

الأمر الملح هو التمييز بين ما هو جوهري وما هو غير جوهري، وفصل النواة عن القشرة الخارجية في سياسات البلاشفة.

... لا يتعلق الأمر بهذا أو ذاك من المسائل الثانوية المتعلقة بالتاكتيكات، بل بقدرة البروليتاريا على الفعل، وبقوة الفعل، وإرادة تقوية الاشتراكية بحد ذاتها. وفي هذا كان لينين وتروتسكي وأصدقائهما أول من مضوا قدماً بوصفم مثالاً للبروليتاريا في العالم؛ وما يزالون الوحيدين القادرين على الصياح مع هوتن: ' لقد جرؤت على ذلك [10]' 

كم يبدو وقع هذه الكلمات منعشاً اليوم، على الرغم من مرور ما يقارب الثمانين عاماً! وهي تشهد على واقع أن معظم الاشتراكيين الواعين في تلك الفترة كانوا منتبهين بشكل جيد إلى أن عزلة الثورة الروسية مثلت الخطر الأشد على استمرارها. 

إن الهزائم التي عانت منها الطبقة العاملة الأروبية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وفي ألمانيا في المقام الأول، كانت السبب الرئيسي لانحدار النظام السوفيتي. أدت عزلة روسيا السوفيتية إلى إخلال فظيع في علاقات القوى الطبقية التي جعلت استيلاء البشفة على السلطة ممكناً. ونحن لا نتكلم هنا عن مسألة نظرية صرفة، بل عن واقع ملموس. كانت القاعدة الرئيسية لثورة  أكتوبرطبقة عاملة شديدة الصغر إنما متمركزة بشكل استراتيجي. ولا يمكن فهم أزمة البلشفية بشكل منفصل عن تأثير الحرب الأهلية على الطبقة العاملة.

تكلفة الحرب الأهلية.

لطالما أشار تروتسكي في كتاباته حول انحدار الحزب البلشفي إلى الاستنزاف المادي للطبقة العاملة مع نهاية الحرب الأهلية عام 1921. إن الدراسات التي نٌشرت مؤخراً من قبل مؤرخين من أصحاب الضمائر، والتي يتوقع المرء أن أعمالهم ليست معروفة من قبل الجمهور،  تقدم معلومات واقعية تسلط ضوءاً نقدياً على مستوى الكارثة الاجتماعية التي واجهت الحكومة السوفيتية.

ففي الدراسة القيمة، الدولة والمجتمع السوفيتي بين الثورات 1918-1929، ذكر البروفيسور لويس سيغلباوم من جامعة ميتشيغان الحكومية بيانات إحصائية حول انكماش الطبقة العاملة خلال الحرب الأهلية. ففي زمن الثورة كان هناك 3.5 مليون عامل في معامل تشغل أكثر من ستين عامل. وانخفض العدد إلى مليونين عام 1918 وإلى مليون ونصف مع نهاية عام 1920[11].

كانت أسوأ الخسائرهي في المراكز الصناعية الكبيرة. حيث كان عدد عمال الصناعة في بتروغراد 406 آلاف في يناير 1917، هبط إلى 123 ألف في أواسط 1920. وبالإضافة إلى هذا التراجع العددي المطلق، تراجعت نسبة حجم البروليتاريا من مجموع السكان بشكل كبير.

كما فقدت موسكو قرابة مئة ألف عامل بين 1918 و 1920، و انخفض في الفترة ذاتها عدد عمال المعامل والمناجم في الأورال من 340ألف إلى 155 ألف.

وعانت القطاعات الصناعية ومعامل الاقتصاد السوفيتي من خسائر فادحة. حيث خسرت صناعة النسيج 72% من قوتها العاملة. في حين خسرت صناعة الآلات والتعدين 57% من قوتها العاملة.

كان أفول البروليتاريا جزءاً من صيرورة عامة بين سكان المدن. ففي حين كان عدد سكان بتروغراد مليونين ونصف عام 1917، لم يبق منهم في المدينة عام 1920 سوى سبعمئة واثنان وعشرون ألف، وهو يعادل عدد سكان المدينة قبل نصف قرن سابق. كما تراجع عدد سكان موسكو بين فبراير 1917 ونهاية عام 1920 من مليونين إلى مليون واحد فقط، وهو رقم يقل عن ذلك المسجل في إحصاء 1897.

ثمة العديد من العوامل التي أسهمت في هذه الصيرورة الكارثية وكانت الأوبئة أحد أشدها أهمية حيث مات عشرات الآلاف خلال جائحات الكوليرا، والإنفلونزة، والتيفوس، والدفتريا. وارتفع معدل الوفيات في موسكو من 23.7 بالألف عام 1917 إلى 45.4 بالألف عام 1920.

وثمة عامل أساسي آخر لتراجع عدد سكان المدن وتفكيك الصناعات تمثل في الحاجات الملحة للجيش الأحمر الذي تم تأسيسه حديثاً لمقارعة الجيوش البيضاء المدعومة من الإمبرياليين. إن تحشيد الجيش الأحمر قد أدى إلى انتزاع أكثر من نصف مليون عامل من المصانع ما بين 1918 و1920.

لم يقتصر أثر هذه الكارثة الديموغرافية على الاقتصاد بل شمل الجانب السياسي.  كانت نجاحات الجيش الأحمر مرتبطة، إلى حد بعيد، بإخلاص ومبادرات الفئات الأكثر وعياً من الطبقة العاملة. إن نضوب البروليتاريا الصناعية تضمن بالتحديد خسارة أولئك العمال اللذين لعبوا دوراً هاماً في النضال الثوري عام 1917، في لجان المعامل أو في منظمات أخرى قادها الحزب. لا مجال لنفي أن هناك فئات هامة إحصائياً من العمال اللذين صوتوا للبلاشفة في انتخابات السوفييتات ثم في انتخابات الجمعية التأسيسية قد أبعدوا عن المواقع الصناعية نتيجة متطلبات الحرب الأهلية.

كانت الخسائر التي عانى منه الحزب الشيوعي صاعقة . وقد قٌدر أن مائتي ألف شيوعي من أصل خمسمئة ألف شيوعي ممن خدموا في الجيش الأحمر قتلواً خلال الحرب الأهلية. إن التداعيات السياسية لمعدل الوفيات المرتفع إلى هذا الحد بين صفوف الكوادر الثورية يمكن أن يتم تقديره بشكل أفضل من خلال لفت الانتباه إلى تدفق الأعضاء الجدد على الحزب الشيوعي، لا سيما بعد تحسن الوضع العسكري للحكومة السوفيتية نتيجة الانتصارات الكبرى في خريف 1919 . فبين أغسطس 1919  ومارس 1920 نمت عضوية الحزب من 150 ألف إلى 600 ألف. كان مستوى القادمين الجدد أدنى بكثير مقارنة بأولئك الذين خسرهم الحزب.

ومع نهاية الحرب الأهلية، كانت القاعدة الاجتماعية والسياسية للحكومة السوفيتية وللحزب الحاكم قد تآكلت بشكل شديد. كانت ' ديكتاتورية البروليتاريا ' قد خسرت فئات هامة من البروليتاريا التي كانت تستند إليها. كما أن ' الحزب الطليعي' عانى من خسارة فئات واسعة من الذين شكلوا طليعة سياسية أصيلة  ضمن الطبقة العاملة بفضل خبرتهم الطويلة. عدا عن هذا، تعرض التركيب الاجتماعي للحزب البلشفي إلى تغيرات عميقة. كما  أن النسبة المئوية للأعضاء ممن يصفون منبتهم الاجتماعي بوصفهم من ذوي الياقات البيض، بالتعارض مع البروليتاريين، نمت بشكل متصاعد. وقد لفت زيغلباوم الانتباه إلى نمو أهمية ' الفئة الدنيا من الطبقة الوسطى'، أو من البورجوازية الصغيرة، في شؤون منظمات الحزب والدولة.  

وهكذا نجحت الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى في تثبيت نفسها في ثورة العمال و ' الفلاحين'. وكانت النتيجة أن التركيب الاجتماعي للدولة الثورية عموماً كان أشد افتقاداً للتجانس وأقل بروليتاريةً مما كان معترفاً  به. وما يزال من غير الواضح بشكل كامل  ما هو تأثير هذه ' العناصر الغريبة ' على العمل اليومي للدولة، أم أنهم امتلكوا  سايكولوجية خاصة كانت هي بذاتها غريبة عن المشروع الثوري الأصلي[12].

لقد تغيرت سمة الحزب البلشفي ليس فقط بسبب خسارة كوادر الطبقة العاملة المحنكين وتدفق عشرات الآلاف من المنضمين عديمي الخبرة وغير الموثوقين سياسياً. ففي صفوف الكوادر الأقدم ممن نجوا من سنوات الثورة والحرب الأهلية، ' فإن الطلب المهني للسلطة'( إذا استعرنا جملة استخدمها البروفسور كريستيان راكوفتسكي، أقرب حلفاء تروتسكي في المعارضة) أنزلت  به أضرار جدية وغير متوقعة. ففي بلد متأخر حيث توجد فئة واسعة من الشعب من الأميين وحيث المهارات التقنية محدودة، تم زج أعضاء الحزب بشكل مستمر في مواقع إدارية.كانت الهيئات الحكومية التي لا حصر لعددها والمتوسعة باستمرار تتنافس في ما بينها على الحصول على خدمات كوادر يمتلكون أي شكل من المهارات الإدارية. وهكذا انزلقت فئة هامة من كوادر الحزب في سيرورة التحول إلى بيروقراطية. ففي خضم فوضى اقتصادية وفقر يدعو لليأس، كانت المواقع داخل منظمات وهيئات الدولة والحزب توفر شيئاً قليلاً من الإجراءات التي تضمن السلامة الشخصية. كانت إمكانية الحصول على وجبة واحدة مقبولة في اليوم في مطعم مكان العمل تمثل امتياز ليس بالقليل. وهكذا تشكلت تدريجياً طائفة بيروقراطية عن طريق كل أشكال الطرق الصغيرة إنما  الهامة.

تداعيات السياسة الاقتصادية الجديدة ( النيب)

باشرت الحكومة السوفيتية السياسة الاقتصادية الجديدة عام 1921 . وشجعت الحكومة بعث سوق رأسمالية بهدف ترميم أسس نشاط اقتصادي منظم في روسيا. كانت النيب استجابة ضرورية للوضع الاقتصادي المدمر الذي واجهته الدولة السوفيتية المعزولة وقد سرعت من صيرورة الانحدار السياسي ضمن الحزب الحاكم. ونظراً لواقع أن القاعدة البروليتارية للدولة السوفيتية وللحزب قد أٌضعِفَت بشكل كارثي ،  فإن الزخم الذي ضخته النيب في نمو التيارات الرأسمالية في روسيا السوفيتية كان محكوماً بتوليد نتائج سياسية خطيرة.

نفخت النيب حياة جديدة في العناصر الاجتماعية التي نظرت إلى الثورة البلشفية بوصفها نهاية العالم. عاد رجال الأعمال والتجار إلى البروز، ومع حلول عام 1922 كانت البورصة قد عادت إلى العمل في موسكو. وصار المناخ الاجتماعي أكثر تقبلاً لانعدام المساواة، ووجدت أمزجة داخل الحزب عكست شيئاً من الانحدار الأخلاقي والسياسي تعبيراً لها بين أعضاء الحزب، لا سيما لدى العاملين في المستويات الرفيعة ضمن البيروقراطية.

لقد ساهمت النيب في انبعاث مشاعر التمايز القومي. كانت ثورة أكتوبرحدثاً عظيماً في تاريخ الحركة العمالية الدولية. لكنها كانت أيضاً مرحلة تحول في تاريخ روسيا.

زجت الثورة ملايين الناس، من عمال وفلاحين ، في العمل على مشروع مرحلي لإعادة بناء اجتماعي. لكن التداعيات عطلت عدداً لا يحصى من مظاهر الحياة اليومية. ففي ما يخص العديد من أعضاء الحزب، لا سيما المنضمين الجدد من الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى الذين فتح لهم النظام البلشفي فرصاً جديدة، بدت ثورة أكتوبر بوصفها بداية لانبعاث قومي عظيم. فعلى خلفية هزائم الطبقة العاملة الأوروبية، بدا أمام هذه القوى أن المهمة العملية لبناء اقتصاد سوفيتي قومي أكثر واقعية  من  منظور ثورة اشتراكية عالمية.

كما تدهور مستوى الحياة السياسية داخل الحزب. فمنذ عام 1920 وصاعداً لطالما عبرت شخصيات بلشفية بارزة عن قلقها من إضفاء طابع بيروقراطي على جهاز الدولة. بل أن لينين أشار في الواقع إلى روسيا السوفيتية بوصفها 'دولة عمالية مصابة بتشويه بيروقراطي'. إنما على الرغم من الانشغالات بهذا كانت صيرورة التشوه البيروقراطي تتغذى من تيارات موضوعية عميقة الجذور مرتبطة بتأخر روسيا، ولم يكن الحزب في حد ذاته قادراً على أن يظل منيعاً من تدخل البيروقراطية في كل مجالات الحياة الاجتماعية.

ففي غياب طبقة عاملة ناشطة سياسياً، انتقلت طرق الإدارة البيروقراطية بسرعة إلى الحزب. وكان التعبير الأشد جلاء عن هذه الصيرورة نمو نفوذ ستالين، الذي كانت مسؤوليته الرئيسية بوصفه أميناً عاماً هي انتقاء الأشخاص لشغل المواقع الهامة في الحزب وفي الدولة.  وتمكنت سلطة التعيينات، التي استخدمها ستالين من إنشاء شبكة من الأنصار، بشكل اشتد حدة، مع تعطيل الأشكال الديمقراطية لديمقراطية الحزب والحلول مكانها.

ففي المؤتمر الحادي عشر للحزب في مارس 1922 حذر لينين بأن الحزب يواجه خطر أن يٌسحق تحت عبء الدولة المدارة بطريقة بيروقراطية. وبعد ذلك بوقت قصير أصيب بجلطة أبعدته عن النشاط  السياسي عدة أشهر، وحين عاد إلى العمل في خريف 1922،فوجىء لينين بمدى تدهور الوضع داخل الحزب. وهو حدد ستالين   بوصفه الشخصية الرئيسية في صيرورة الانحدار البيروقراطي. وإنه لمن الواضح من خلال الملاحظات والوثائق التي أعدها لينين خلال الأشهر الأخيرة من حياته السياسية الفعالة أنه كان يٌعد لمواجهة حاسمة مع ستالين في المؤتمر الثاني عشر للحزب المقرر في أبريل 1923. إن وصية لينين الشهيرة التي دعت إلى إبعاد ستالين عن منصب الأمين العام ، وكذلك الرسالة التي أرسلها لينين إلى ستالين مهدداً بقطع كل العلاقات الشخصية معه، كانت جزءاً من ملف سياسي عزم لينين على  تقديمه إلى مؤتمر الحزب. لكن الاحتشاء الدماغي الواسع الذي أصاب لينين في مارس 1923 أنقذ مسيرة ستالين السياسية . 

وخلال الأشهر التي تلت عجز لينين بشكل نهائي، نمت المعارضة ضد الطرق البيروقراطية التي تم استخدامها من قبل الثلاثي المنتصر المكون من ستالين وزينوفييف وكامينييف، واشتدت التوترات السياسية نتيجة القلق المتعمق باستمرار من تداعيات النيب، الأمر الذي تم التعبير عنه بشكل خاص في ربيع 1923 حينما شرح تروتسكي التباين المتصاعد بين أسعار السلع الزراعية والصناعية و التدهور المستمر لظروف الطبقة العاملة.

المعارضة اليسارية.

بعد ما صار جلياً أن لينين لن يعود إلى النشاط السياسي، تعرض تروتسكي للضغط لدفعه للتصريح ضد إلغاء الديمقراطية داخل الحزب.  وفي الثامن من أكتوبر1923، وجه تروتسكي رسالة إلى اللجنة المركزية دعت إلى الانتباه إلى نقاط الضعف الجدية في السياسة الاقتصادية، وانتقدت أيضاً التحول البيروقراطي في حياة الحزب. وبعد ذلك باسبوع تم تعزيز انتقاداته ' بإعلان' وقعه ستة وأربعون من أعضاء بارزين في الحزب. إن هذين الحدثين دشنا بداية النضال السياسي للمعارضة اليسارية.

إن الأسطورة القائلة بأن الستالينية نمت بشكل عضوي من الماركسية ومن الإيديولوجية البلشفية تتعارض مع السجل التاريخي. ثمة عشرات آلاف الوثائق، تم إخفاء معظمها عن الشعب السوفيتي على مدى عقود من السنين، نجد فيها تعبيراً عن تطور ماركسي في النضال الذي تم شنه ضد البيروقراطية الستالينية.

ونجد التعبير عن بعد نظر المعارضة في “إعلان الستة وأربعين”، الذي حذر من أنه إن لم يكن هناك تغييراً جذرياً في سياسات وطرق القيادة 'فإن الأزمة الاقتصادية في روسيا السوفيتية وأزمة استبداد جناح في الحزب ستتسبب في انفجارات هائلة ستطال ديكتاتورية العمال في روسيا والحزب الشيوعي الروسي. فمع مثل هذه الأعباء على كتفيها، فإن ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا وقائدها الحزب الشيوعي الروسي لن يتمكنا من دخول مرحلة الاضطرابات الوشيكة على امتداد العالم إلا في ظل احتمال مواجهة هزائم على طول جبهة النضال البروليتاري[13].

إن القضايا التي أوجدت المعارضة عام 1923 كانت نمو البيروقراطية داخل الحزب والتباينات حول السياسة الاقتصادية. إنما لم تخرج إلى العلن كل التباينات البرامجية بكل أعماقها، والقوى الاجتماعية المتناقضة التي استندت إليها إلا بعد شن الصراع داخل الحزب. ففي البداية تسببت انتقادات تروتسكي ومنصة الست وأربعين بإرباك الثلاثي المنتصر الذي عرض  بعض التنازلات السياسية غير الصادقة. إنما ما أن تمالكوا أعصابهم حتى شنوا هجوماً معاكساً وتوجهوا إلى القوى الاجتماعية، التي صارت نتيجة للنيب المكون الجديد للنظام السوفيتي. وكانت هذه هي دلالة قيام ستالين في أواخر عام 1924 بكشف النقاب عن نظرية ' الاشتراكية في بلد واحد'.

إنه لمن المشكوك فيه إن كان ستالين توقع الرد الذي ستثيره هذه المراجعة للمنظور الأممي التي استندت إليه الثورة البلشفية، أو حتى أنه فهم لماذا خص تروتسكي نظريته الجديدة بمثل هذا القدر من الاهتمام بعيد النظر. إنما لا بد أن ستالين قد أحس أن هناك داخل الحزب، ناهيك عن عموم الشعب، مجموعات سترحب بمثل عملية  إعادة الصياغة القومية لمنظور الحزب. فبإعلانه أنه يمكن بناء الاشتراكية في بلد واحد كان ستالين يصادق على الممارسات والتطلعات التي صارت روتينية لدى الآلاف من بيروقراطيي الحزب .

الاشتراكية في بلد واحد.

إن نظرية 'الاشتراكية في بلد واحد' توجهت خصيصاً إلى الفئة البيروقراطية النامية التي مالت بوعي متزايد لمماهاة مصالحها المادية مع تطوير اقتصادي' قومي' سوفيتي. إنما لم يكن البيروقراطيون هم وحدهم اللذين استجابوا لهذا المنظور. ففي صفوف فئات واسعة من الطبقة العاملة، عبًر الاستنزاف السياسي العام عن نفسه بتراجع عن الطموحات الأممية لثورة أكتوبر، لا سيما بعد الهزيمة التي عانى منها الحزب الشيوعي الألماني في أكتوبر 1923 حيث بدا أن وعود وجود حل قومي لأزمة المجتمع السوفيتي يقدم شريان حياة جديد للثورة المحاصرة.

ففي واحدة من اللحظات التي عبر فيها بأكبر قدر من الصراحة ، افترض ستالين أن 'الاشتراكية في بلد واحد' ستقوم بمهمة قيمة تتمثل في تقديم سبب للجماهير السوفيتية للاعتقاد بأن ثورة أكتوبر لم تكن دون جدوى، وأن أولئك الذين ينكرون إمكانية بناء اشتراكية في روسيا، بغض النظر عن مصير الحركة الثورية الدولية، كانوا يكبحون إيمان وحماس الطبقة العاملة.

وكان من الضروري طمأنة العمال أنهم، من خلال جهودهم، ينجزون الاشتراكية.  وقد رد تروتسكي على هذا النمط من المحاججة عام 1928:

إن نظرية الاشتراكية في بلد واحد تقود بشكل حتمي إلى بخس تقدير الصعوبات التي يجب تخطيها، وإلى المبالغة في الإنجازات التي تم كسبها. ولا يمكن للمرء العثور على تأكيد أشد عداء للاشتراكية وللثورة من تصريح ستالين حول أن ' قد تم إنجاز 90% من الاشتراكية في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية... إن تقوية العمال تتطلب الحقيقة القاسية وليس أكاذيب معسولة، فالعامل الزراعي، والفلاح الفقير، الذي يرى أنه في العام الحادي عشر على الثورة،أن الفقر، والبؤس، والبطالة، وطوابير الخبز،و الأمية، والأولاد المشردين، والكحولية، والبغاء لم تختف من حولهم. فبدلاً رواية أكاذيب حول إنجاز 90% من الاشتراكية، يجب علينا أن نقول لهم  أن مستوانا الاقتصادي وأن ظروفنا الاجتماعية والثقافية، هي أقرب حالياً إلى الرأسمالية المتخلفة المفتقدة إلى الثقافة من قربها من الاشتراكية. وعلينا إخبارهم أننا سندخل مسار بناء اشتراكية حقيقية فقط حين تتمكن بروليتاريا البلدان الأكثر تقدماً من الاستيلاء على السلطة؛ ومن الضروري العمل بلا كلل في سبيل هذا، مستخدمين المستويين، المستوى الأدنى لجهودنا الاقتصادية الداخلية، والمستوى الأبعد المرتبط بالنضال البروليتاري الدولي[14].

إن التركيز على تبعية لاتحاد السوفيتي  غير قابلة للفصم لتطور ثورة اشتراكية عالمية، وبالتالي استحالة بناء الاشتراكية في بلد منفرد، شكل الأساس النظري والبرنامجي للنضال الذي خاضه تروتسكي والمعارضة اليسارية ضد البيروقراطية الستالينية.

وإنه لمن غير الممكن فهم برنامج المعارضة اليسارية  إذا تم فصل عناصره، مثل إعادة الديمقراطية الحزبية و تطوير التخطيط وتعزيز الصناعة،  عن هذا المفهوم المركزي الموحّد.

إن معظم المؤرخين، بما في ذلك أولئك غير المتعاطفين بشكل كامل مع تروتسكي، يميلون إلى عًد هذا الالتزام بالثورة العالمية العنصر الضعيف في برنامجه العام. ولهذا فحتى المؤرخين المتعاطفين يميلون للتعامل مع معارضته لستالين كما لو كانت غير عملية وغير قابلة للتطبيق. وهم يفترضون أنه من خلال التمسك بوهم الثورة العالمية، فإن تروتسكي فشل في تثبيت معارضته على أساس راسخ.

إن هذه الانتقادات تبخس بشكل خطير تقدير الكمُون الثوري الذي كان قائماً في الحركة العمالية الدولية في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، وفشلت في تقدير تأثير وقع الستالينية الضار على تطور ثورة عالمية. إن تدمير الكومنترن سياسياً من قبل الستالينيين، وتحويله إلى زائدة مرتبطة بالبيروقراطية السوفيتية كان السبب الرئيس في الهزائم الكارثية التي عانت منها الطبقة العاملة، لا سيما في بريطانيا عام 1926، وفي الصين عام 1927، وفي ألمانيا عام 1933، وفي إسبانيا عامي 1936- 1937 وفي المقابل أثرت هذه الهزائم على مسار التطور في الاتحاد السوفيتي .

ما الذي يفسر الفشل،حتى في صفوف المؤرخين المعاصرين الواعين، في دراسة استراتيجية تروتسكي والمعارضة اليسارية الثورية بالجدية التي تستحقها؟

إن المحيط السياسي الرجعي، والثقافة الفكرية الراكدة، تمارس تأثيراً ضاراً على الأكاديميين. فلم يبق إلا القليل من تفاؤل زمن الشباب. إن التشكيك بإمكانية ثورة اشتراكية  إن لم يكن رفضها بشكل قطعي  هو رد على الانحدار البشع في المستوى يين السياسي والنظري لدى حركة العمال العالمية. إن المؤرخين المعاصرين، حتى من يعدون أنفسهم متعاطفين مع الاشتراكية، والذين اتجهوا، لهذا السبب بالتحديد، إلى دراسة الثورة الروسية يرون الآن استحالة تخيل حركة عمال جماهيرية تحت قيادة ماركسية تٌحركها تطلعات ثورية أممية. إن تشاؤمهم الحالي اكتسى سمة امتلاك أثر رجعي فهم يسقطون شعورهم الحالي بفقدان الأمل في المستقبل على تقييماتهم للثورات السابقة.

وهذا يقودنا في الخلاصة، إلى أهمية المعارضة اليسارية في حاضرنا هذا بوصفها موضوعاً لدراسة معاصرة للتاريخ. وأنا مقتنع بأن هذا واحد من المجالات الأكثر ثراء والأشد أهمية للأبحاث الجدية. فحتى وقت قريب لم يكن من الممكن مباشرة دراسة منهجية للمعارضة اليسارية. وبالمقارنة نجد أنه القليل مما هو معروف عن هذه الحركة الاستثنائية في معارضة الديكتاتورية الشمولية. إن هذه الفجوة الرهيبة في معرفتنا بأحد أهم الصراعات السياسية في تاريخ القرن العشرين هو من موروث الستالينية. إن تثبيت سلطة البيروقراطية السوفيتية ترافق بجحد وتجريم معارضيها السياسيين وتدميرهم والقضاء عليهم. لقد تم استكمال الإرهاب بحملة تزوير تاريخية كان هدفها إلغاء كل آثار التقاليد والثقافة الماركسية العظيمة المتمثلة بتروتسكي وبالمعارضة اليسارية من وعي الطبقة العاملة السوفيتية والدولية. وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي مكنت البيروقراطية السوفيتية من إقامة مماهاة زائفة بين الستالينية والماركسية.

 وقد برزت الآن ظروف لتدمير بناء الأكاذيب الضخمة. إن فتح الأرشيفات في روسيا، بغض النظر عن الظروف السياسية التي جعلت هذا ممكناً دشنت بداية حقبة جديدة في الدراسات السوفيتية ، وحقبة تتضمن تداعيات فكرية الأكثر عمقاً بالنسبة إلى مستقبل الماركسية.

ببطء إنما بالتأكيد، فإن اكتشاف وثائق ومخطوطات ضاعت على مدى زمن طويل، واستيعابها النقدي، سيعيد تشكبل الوعي العام حول التطور التاريخي للثورة الروسية. وسيكون هناك اعتراف متصاعد بالبديل الماركسي للستالينية الذي طرحه تروتسكي والمعارضة اليسارية. إن شخصيات سياسية لامعة مثل راكوفسكي، بريوبرازنسكي، بياتاكوف،جوفيه، سوسنوفسكي،إيلتسين، تير-فاغانيان، بوغوسلافسكي، فيلينسكي، وفورونسكي، إذا اقتصرنا على تسمية بعض أبرز المعارضين، سيكونون موضوعاً لسير ذاتية هامة، كما أن حياة تروتسكي، أحد أعظم الوجوه الفكرية في القرن العشرين، ستخضع لفحص جديد في ضوء معلومات جديدة وحيوية. إن الماركسية وقضية الاشتراكية العالمية لا يمكن إلا أن تربح من صيرورة التجديد الفكري الحيوية هذه.

     *

[1] محاضرة ألقيت في الخامس والعشرين من أكتوبر1995 في جامعة غلاسكو في اسكوتلاندا.

[2] Dmitri Volkogonov, Lenin: A New Biography (New York: The Free Press, 1994), p. 178.

[3] “Utopias in History,” in Acts/Proceedings, 18th International Congress of Historical Sciences (Montreal, 1995), pp. 487–489.

[4] Dimitri Volkogonov, Stalin: Triumph and Tragedy (New York: Grove Weidenfeld, 1988), p. 254. 5 Ibid., pp. 255–259.

[5] Ibid., pp. 255-259

[6] Leszek Kolakowski, Main Currents of Marxism, Volume 3, “The Breakdown” (New York: Oxford University Press, 1978), p. 2.

[7] Ibid., pp. 8–9 and p. 22.

[8] Lars T. Lih, Oleg V. Naumov and Oleg V. Khlevniuk, ed., Stalin’s Letters to Molotov (New Haven: Yale University Press, 1995), p. 114.

[9] Rosa Luxemburg, The Russian Revolution and Leninism or Marxism? (Ann Arbor: The University of Michigan Press, 1961), p. 28. 10 Ibid., pp. 78–80. 

[10] Ibid., p. 80.

[11] Ibid., p. 80.

[12] Lewis Siegelbaum, Soviet State and Society Between Revolutions, 1918–1929 (Cambridge: Cambridge University Press, 1992), pp. 62–63.

[13] Leon Trotsky, The Challenge of the Left Opposition 1923–25 (New York: Pathfinder Press, 1975), p. 450.

[14] Leon Trotsky, The Third International After Lenin (New York: Pathfinder Press, 1996), pp. 84–85.