العربية

ظل التاريخ الطويل: محاكمات موسكو، والليبرالية الأمريكية، وأزمة الفكر السياسي في الولايات المتحدة

قبل شهر من الآن، نشرت النيويورك تايمز مراجعة لسيرة حياة تروتسكي التي كتبها المؤرخ الروسي الراحل الجنرال ديمتري فولكوغونوف. كان المُراجع هو ريتشارد بايبس، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد. ونظراُ لأنني معتاد على كتابات كل من بايبس و فولكوغونوف  توقعت ألا تكون المراجعة سوى هجاء لليون تروتسكي. فبالنهاية ، لو أن التايمز اهتمت بنشر مراجعة نقدية لكتاب فولكوغونوف لما كانت أوكلت المهمة لرجل كان عمله الأكاديمي، حاله حال العديد من الهيئة التدريسية في هارفارد، امتداداً لخدماته لدى حكومة  الولايات المتحدة بوصفه استراتيجياً ومٌنظراً للحرب الباردة.

اتبعت المراجعة خطوطاً متوقعة. حيث قام بايبس بتفحص سيرة فولكوغونوف التحريضية لحياة تروتسكي ليس بوصفه مؤرخاً واعياً، بل بوصفه شاهد إدانة.  كان بايبس أقل حرصاً من فولكوغونوف في تقصي حياة تروتسكي ضمن إطارها التاريخي.  بل سعى بدلاً عن هذا إلى لوم تروتسكي على كل شيء في تاريخه لا يوافق عليه البروفسور بايبس. حيث لم يكن هناك أهمية في نظر بايبس إن لم تكن أحكام فولكوغونوف أو أحكامه الشخصية مدعمة بقرائن. وبدلاً من إثارة الانتباه إلى الأخطاء العديدة  الفظة التي تضمنتها سيرة فولكوغونوف، قام بايبس بإضافة عدداً ليس بالقليل من أخطائه الخاصة، بما في ذلك الأكاذيب المأخوذة مباشرة من مدرسة تزوير التاريخ الستالينية القديمة.

فعلى سبيل المثال تضمنت مراجعة بايبس  تصوير تروتسكي بوصفه' عبثياً بشكل غير عادي، ومتغطرس، وميال إلى الفظاظة...' إن هذا التصوير الكاريكاتوري العدائي لشخصية تروتسكي كانت من المعايير المعتمدة في الكتب السوفيتية على مدى أكثر من ستين عام. أدان بايبس عجز تروتسكي على تقبل ' نمط فريق العمل المنضبط الذي طلبه الحزب البلشفي من أفراده[2]'. إذن تم عرض رفض تروتسكي الصارم للانضباط الحزبي الذي فرضته الستالينية كما لو أنه تعبيراً عن فشل شخصي وسياسي جدي.

وفي تلك المراجعة، وكم هو مثير للدهشة ظهور هذا القدر من الأكاذيب في مراجعة تقل عن ألف كلمة، أكد بايبس أن لينين ' كان لديه رأي قاس للغاية تجاه إمكانات تروتسكي السياسية والإدارية[3]. إن هذا التأكيد يتطابق بشكل تام مع نسخة التاريخ التي كانت سائدة في الإتحاد السوفيتي  خلال سنوات ديكتاتورية ستالين الشمولية.

إن بيان  لينين السياسي في ديسمبر 1922 يدحض هذه الكذبة، حيث كتب فيها ' أن تروتسكي لا يتميز بقدراته المذهلة وحسب. بل ربما كان شخصياً الرجل الأكثر كفاءة في اللجنة المركزية الحالية[4].'

وفي النهاية أشار بايبس إلى ستالين بوصفه ' مريداً صادقاً للينين وخليفته الشرعي'   [5].وهذا بالتحديد ما أراده ستالين، أو بدقة أكبر، هذا ما طلب من كل فرد اعتقاده خلال سنواته في السلطة. إن المطلعين على التاريخ السوفيتي يعرفون أن لينين، خلال المرحلة الأخيرة من حياته السياسية الفعالة، دعا إلى إبعاد ستالين عن منصب الأمين العام وهدد بقطع كل العلاقات الشخصية معه. وحتى فولكوغونوف لم يسع إلى إنكار هذه الوقائع المشهورة.

تقاطع عقيدة الحرب الباردة مع مصالح الستالينية

قبل المضي قدماً، يجب علي محاولة إيضاح ما يفترض أن يكون مفارقة. لماذا أراد بايبس، وهو منظر مناهض للسوفييت من حقبة الحرب الباردة، استخدام الكذب الذي اخترعه النظام الستاليني في الدفاع عن نفسه ضد معارضيه السياسيين؟ لا يمكن فهم هذه المفارقة إلا من خلال تفحص المصالح السياسية التي تم التغطية عليها على مدى سنوات عديدة من خلال عبارات مبتذلة تعود إلى حقبة الحرب الباردة. 

فبغض النظر عن الصراع بينهما، فإن منظري البيروقراطية السوفيتية من جهة أولى والرأسمالية الأمريكية من جهة ثانية تشاركا كذبة سياسية غاية في الضرورة مفادها أن الزعماء السوفييت  كانوا مخلصين للماركسية وأن الإتحاد السوفيتي، كان بشكل ما مجتمعاً اشتراكياً. لقد استخدم قادة الدولة السوفيتية هذه الكذبة للحفاظ على مشروعية النظام البيروقراطي. وحتى حين أدان خروتشيف جرائم ستالين في ' خطاب سري'في فبراير 1956 كان من الصعب عليه تبرئة النظام البيروقراطي من الفظائع التي اقترفت باسمه. إن نظرية 'عبادة الشخص' التي وصفت الإرهاب الفظيع كما لو أنه على الأرجح نتيجة تمادي قائد واحد، كانت خطوة استباقية لمنع تفحص العلاقة بين جرائم ستالين وتعزيز السلطة السياسية من قبل البيروقراطية الحاكمة.

وكما هو الحال بالنسبة لمنظري الحرب الباردة في الولايات المتحدة، كانت المماهاة بين الستالينية والماركسية والاشتراكية ضرورية لجحد كل معارضة يسارية للرأسمالية. حيث أن صعود الستالينية جوبه من اليسار بمعارضة عشرات آلاف الاشتراكيين داخل الإتحاد السوفيتي كان واقعاً تاريخياً وجده منظرو الحرب الباردة غير ملائماً. فبالنهاية ما الذي سيحدث للطرح الذي شكل قاعدة 98% من كل شيء كٌتب في الولايات المتحدة حول الإتحاد السوفيتي، ومفاده أن الستالينية كانت نتيجة لا يمكن تفاديها لكل من النظرية الماركسية وثورة أكتوبر 1917 في حال أقر المؤرخون والصحافيون الأمريكيون بأن تعزيز النظام الستاليني تم إنجازه من خلال القضاء المادي على كل الطبقة العاملة والأنتلجنسيا الاشتراكية في الإتحاد السوفيتي؟

جرت تصفية الماركسيين السوفيت في خضم الإرهاب الفظيع الذي اجتاح الإتحاد السوفيتي بين 1936 و 1939. وتمثلت الأحداث المركزية في هذا الإرهاب بثلاثة محاكمات استعراضية مرعبة كان المتهمون فيها قادة ثورة أكتوبر وأعضاء سابقون في اللجنة المركزية التي حكمت الإتحاد السوفيتي أيام لينين. وقفوا متهمين بجرائم تراوحت بين التخريب والتآمر على قتل ستالين.  وخلال كل تلك المحاكمات، اعترف كل المتهمين بالجرائم التي أسندت إليهم. وحده تروتسكي، الذي عاش في المنفى، حوكم غيابياً، كان أول من أدان المحاكمات بوصفها افتراءات. وهذا يعيدني إلى مراجعة بايبس لفولكوغونوف. لو أن عمل  بروفسيور هارفارد اقتصرعلى مجموعة التزوير النمطية التي كثيراً ما نعثر عليها في ميدان السوفيتولوجيا الأمريكية لما استحقت هذه المراجعة أي تعليق خاص. إنما لجأ بايبس إلى تضمين مراجعته مقطع يستحيل تجاهله جاء فيه' إن تروتسكي وليف سيدوف، ابنه وأقرب مساعديه، لطالما قالا وكتبا أنه يجب الإطاحة بنظام ستالين، وقتل ستالين بالذات[6].

محاكمات موسكو

إذا كان هناك مقطع يستدعي أشباح الموتى القلقين فهو تأكيد بايبس أن تروتسكي وابنه حثا على اغتيال ستالين. وهذا هوالافتراء الذي وفر التسويغ القانوني لمحاكمات موسكو، ولأحكام الإعدام بحق عشرات المتهمين الأبرياء، وحملة  الإبادة السياسية المناهضة للاشتراكية التي وقعت على خلفية المحاكمات[7].

 في الوقت الذي بدأت فيه المحاكمات، كان ستالين قد مارس سلطة سياسية غير محدودة تقريباً في الإتحاد السوفيتي على مدى ما يقارب عقد من السنين. وكانت المعارضة اليسارية التي تشكلت عام 1923 لمكافحة السلطة المتصاعدة للبيروقراطية قد هٌزمت أخيراً عام 1927. تم طرد قادة المعارضة من الحزب الشيوعي السوفيتي  ونفيهم إلى أبعد أصقاع اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية.  كما تم نفي تروتسكي إلى المآتا في كازاخستان المحاذية للصين. وعلى الرغم من الهزيمة التنظيمية للمعارضة اليسارية، استمر تروتسكي بالاحتفاظ  بنفوذ سياسي ومعنوي هام بوصفه أعظم ناقد ماركسي لسياسات ستالين. وفي عام 1929 أمر المكتب السياسي الخاضع لهيمنة ستالين بترحيل تروتسكي من الإتحاد السوفيتي. ونٌفي تروتسكي في البداية إلى جزيرة برنكيبو في تركيا، ثم إلى فرنسا عام 1933 وبعد ذلك إلى النرويج عام 1935.

كان قرار ترحيل تروتسكي الخطأ السياسي الأكثر فداحة الذي اقترفه ستالين. فهو بوصفه رجل استندت سلطته حصرياً  على تحكمه  بالآلة االبيروقراطية  للدولة السوفيتية وللحزب الشيوعي  حيث أساء ستالين تقدير السلطة التي سحظى بها تروتسكي بوصفه منفياً سياسياً عبر تفوقه في ميدان الأفكار. 

في وقت مبكر من العقد الثالث للقرن العشرين، نمت المعارضة السياسية للنظام الستاليني بثبات داخل الإتحاد السوفيتي، حتى في صفوف الحزب الشيوعي،  إن النتائج الكارثية لسياسات التجميع الستالينية، والفوضى العامة  التي سادت في الصناعة السوفيتية نتيجة 'الخطة الخمسية' التي تضمنت الكثير من المخاطرة، وإلغاء كل تعبير عن فكر سياسي مستقل حرضت المعارضة ضد ستالين. وهناك العديد من الأعمال التاريخية التي ذكرت إشارات عن انتشار  معارضة للنتائج المفاجئة للمؤتمر السابع عشر للحزب عام 1934 الذي شهد تصويتاً واسعاً ضد إعادة انتخاب ستالين لمنصب الأمين العام. وثمة المزيد من الدراسات السياسية الأحدث، لا سيما تلك التي كتبها المؤرخ الماركسي فاديم روغوفين، سلطت ضوءاً جديداً على عمق العداء السياسي  تجاه ستالين وعلى تنامي نفوذ تروتسكي.

ففي أعقاب انتصار الفاشية في ألمانيا عام 1933، حمل تروتستكي ستالين المسؤولية الرئيسة عنه ودعا إلى بناء أممية جديدة وإلى الإطاحة بالنظام الستاليني بثورة سياسية.  وحظيت كتاباته باهتمام جمهور دولي ووجدت طريقها إلى داخل الإتحاد السوفيتي عبر نشرة المعارضة اليسارية. وفي منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، وحتى بعد سنوات من القمع، ظلت التقاليد والمبادىء والثقافة السياسية لثورة أكتوبر  وللحزب البلشفي عوامل قوية لدى فئات واسعة واعية من الشعب السوفيتي. وكان من الوارد أن يتمكن تغير مفاجىء في الأحداث، لا سيما في الوضع الدولي الملتهب، من تقوية العناصر الثورية داخل الطبقة العاملة السوفيتية وأن تؤدي إلى انبعاث دعم جماهيري للبلشفية الأصيلة، التي كان تروتسكي يمثلها على مستوى الخط السياسي.

وهذا ما دفع ستالين لقرار تدمير تروتسكي، وأنصاره المعروفين وكل أولئك الذين يمثلون بطريقة أو أخرى تقاليد ثورة أكتوبر. كان اغتيال كيروف، قائد الحزب في لينينغراد في ديسمبر 1934 الحجة لتوقيف جماعي لمعارضين سابقين. وخلال العام التالي، جرت محاكمة زينوفييف وكامينييف، أقرب  الشركاء السياسيين للينين في الحزب البلشفي القديم، أمام الكاميرات بتهم ملفقة وحكم عليهما بالسجن سنوات طويلة. ثمة العديد من المقالات التي كتبها تروتسكي عام 1935 حذرت من أن ستالين في صدد استثمار اغتيال كيروف الغامض لخلق ذريعة للهجوم على كل ممثلي البلشفية الأحياء، وقد ثبتت صحة تحذيرات تروتسكي. إن عمليات التوقيف والمحاكمات عام 1935 أعدت المسرح لأول عرض من محاكمات موسكو الاستعراضية للقادة الرئيسيين لثورة أكتوبر في شهر أغسطس  1936.

ومن جديد مثل زينوفييف وكامنييف أمام المحكمة، إنما التهم كانت هذه المرة قاصمة. وتضمنت مجموعة أخرى  من المتهمين في أول محاكمات موسكو الاستعراضية من بعض قدامى البلاشفة المشهورين والقادة السابقين للمعارضة اليسارية  مثل مارشكوفسكي، وتير-فاجانيان وسميرنوف.

لكن المتهم الرئيسي كان ليون تروتسكي، الذي أدين غيابياً بتزعم مؤامرة واسعة ضد الإتحاد السوفيتي وقادته. وادعى  الاتهام أن تروتسكي دخل في تحالف مع ألمانيا النازية ومع اليابان بهدف تفكيك الإتحاد السوفيتي وإعادة الرأسمالية إلى أراضيه وتضمن الاتهام أنه كان من المفترض قتل ستالين وغيره من الأعضاء القياديين في الحزب الشيوعي. وأن تروتسكي تمكن بطريقة ما، من إيصال مؤامرته إلى شركائه داخل الإتحاد السوفيتي، الذين زٌعم أنهم وافق بحماس على تنفيذها. وضعت المؤامرة موضع التنفيذ، استجابةً لتوجيهاته المزعومة ، من خلال العديد من عمليات تخريب في الصناعة أسفرت عن قتل عشرات الناس.

لم يكن هناك قرائن تدعم هذه الاتهامات ما خلا الاعترافات الشخصية للمتهمين. وقد رد كل المتهمين الخاضعين للمحاكمة على الأسئلة التي طرحها المدعي العام فيشنسكي، بأنهم مذنبين في كل التهم الموجهة إليهم. لم يكن هناك على الإطلاق قرائن أخرى تدعم الاتهامات. وقد أدت محاولة قام بها ستالين لتعزيز الشهادة بعنصر واقعي إلى فشل كارثي. كان هناك متهماً أقل شهرة هو إي. س .غولتسمان، شهد أنه سافر إلى كوبنهاغن في 1932 حيث زعم أنه التقى سيدوف، الذي كان وقتها يعد  العدة لاجتماع تآمري مع والده. ووفق غولتسمان، عٌقد اللقاء الأول مع سيدوف في بهو فندق بريستول. لكن الصحافة الدنمركية بينت لاحقاً أن فندق بريستول كان قد هٌدم عام 1917. لم يكن لهذه الفضيحة المدمرة أثراً على نتيجة المحاكمة. ففي الرابع والعشرين من أغسطس 1936 حٌكم على كل المتهمين بالإعدام وتم رميهم بالرصاص في غضون أربع وعشرين ساعة.

حين بدأت المحاكمة، كان تروتسكي يعيش في النرويج. وكان بالكاد قد أنجز تحليله الشامل للاتحاد السوفيتي وللنظام الستاليني الذي حمل عنوان الثورة المغدورة. وبادر على الفور إلى إدانة المحاكمة بوصفها افتراء وعمل على فضحها. لكن تم  قطع جهوده الأولى من قبل الحكومة النرويجية التي خشيت أن يؤدي فضح تروتسكي للمحاكمة وإداناته لستالين إلى الإضرار بالعلاقات بين الإتحاد السوفيتي والنرويج. ولجأت الحكومة الاشتراكية الديمقراطية إلى وضع تروتسكي وزوجته تحت الإقامة الجبرية، حيث فرض عليه ظروف تشبه العزل المنفرد طوال الشهور الأربعة اللاحقة. وأخيراً وفي ديسمبر 1936 ، تم وضع تروتسكي وزوجته على متن مدمرة متجهة إلى المكسيك حيث ضمنت له حكومة لازارو كاردينا القومية الراديكالية حق اللجوء.

وصل تروتسكي إلى المكسيك في التاسع من يناير 1937، قبل أقل من اسبوعين من بدء المحاكمة الاستعراضية الثانية في موسكو.  وكان ضمن المتهمين الجدد بلاشفة من ذوي الشهرة العالمية مثل يوري بياتاكوف الرئيس السابق للصناعة السوفيتية، وغريغوري سوكولنيكوف الذي كان من بين القادة الأوائل للاقتصاد السوفيتي، ومورالوف بطل الحرب الأهلية، وميخائيل بوغوسلافسكي، وهو بلشفي قديم آخر وصحافي ماركسي ذائع الصيت هو كارل راديك. كانت الاتهامات مذهلة بقدر تلك التي طٌرحت في المحاكمة الأولى، ومن جديد تم بناء القضية بأكملها على اعترافات المتهمين. 

وعانت مصداقية المحاكمة الثانية من ضربة مدمرة حين جرت محاولة أخرى لدعم التهم الموجهة انفجرت في وجه ستالين. حيث شهد بياتاكوف أنه طار من برلين إلى أوسلو في دسيمبر 1935 للاجتماع بتروتسكي واستلم توجيهات حول تنفيذ نشاطات إرهابية ضد الحكومة السوفيتية. لسوء حظ منظمي المحاكمة، أظهرت السجلات الرسمية لسلطات مطار أوسلو أنه نتيجة للظروف الجوية السيئة لم تحط  في المطار أي طائرة خلال شهر ديسمبر 1935. أي أن رحلة بياتاكوف الجوية الخيالية، كما أشار إليها تروتسكي لم تحدث أبداً وقد كتب معلقاً على هذه الفضيحة:

مصيبة ستالين أن الغيبو لم تتحكم في المناخ النرويجي، أو في الحركة الدولية  للطائرات، ولا حتى بحركة أفكاري، أو في سمات ميولي، وتقدم نشاطاتي. ولهذا فإن الافتراء الذي تم إعداده ورٌفع دون حذر إلى مستويات عالية قد سقط لعدم توفر طائرة وتحطم إلى مِزق. إنما إن كانت الاتهامات الموجهة إلي، أنا المتهم الرئيسي، ومدبر المؤامرة، قد بٌنيت على شهادة زائفة ، فهل تستحق القضية أي اهتمام؟[8]

وإذا اعتمدنا أي معيار موضوعي لمصداقية التهمة فإن قانونية اجراءات المحاكمة في موسكو كانت قد تلقت ضربة مدمرة. لكن على الرغم من هذا تم الحكم على كل المتهمين، باستثاء اثنين منهما، بالإعدام. وقد تم الحكم على الناجيين راديك وسكولينكوف بعشرة سنوات سجن، لكن سرعان ما تم قتلهما في السجن.

و أطلق تروتسكي من المكسيك نداء لإنشاء محكمة دولية  تحقق بشكل مسستقل في ادعاءات المدعي العام الستاليني. ففي خطاب ألقي بالإنجليزية أمام كاميرات الأنباء صرح تروتسكي:

إن المحاكمة التي أقامها ستالين ضدي مبنية على اعترافات زائفة تم انتزاعها بطرق حديثة مشابهة لمحاكم التفتيش، لمصلحة العصابة الحاكمة. لم يشهد التاريخ جرائم أرهب لجهة النوايا والتنفيذ من محاكمات موسكو لزينوفييف وكامنييف، وبياتاكوف وراديك. إن تلك المحاكمات لم تتطور من الشيوعية أو الاشتراكية، بل من الستالينية، أي من الاستبداد غير الخاضع للمحاسبة الذي فرضته البيروقراطية على الشعب! 

ما هي مهمتي الرئسية الآن؟ إنها كشف الحقيقة. ولإظهار وإثبات أن المجرمين الحقيقيين يخبئون تحت عباءة (موجهي الاتهام). ما هي الخطوة التالية في هذا الاتجاه؟ إنها إنشاء لجنة تحقيق أمريكية وأوروبية، وبالنتيجة لجنة دولية مكونة من أشخاص يتمتعون، دون أي شك، بالسلطة وبثقة الجمهور. و أتعهد بتقديم كل ملفاتي إلى مثل هذه اللجنة، وكذلك آلاف الرسائل الشخصية والرسائل المفتوحة التي تعكس تطور تفكيري وأفعالي يوماً بيوم دون أي ثغرات. فليس لدي ما أخفيه! وهناك عشرات الشهود في الخارج يمتلكون وقائع  و وثائق لا يمكن تقدير قيمتها ستسلط الضوء على افتراءات موسكو. ويجب أن يفضي عمل لجنة التحقيق إلى إقامة محاكمة معاكسة عظيمة. إن المحاكمة المعاكسة ضرورية لتنظيف الجو من جراثيم الخداع، والقذف، والتزوير، والافتراءات، التي مصدرها شرطة ستالين، الغيبو، التي سقطت إلى مستوى الغستابو النازي. 

أيها النظارة المحترمون! قد يكون لديكم مواقف متنوعة تجاه أفكاري ونشاطي السياسي خلال الأربعين سنة المنصرمة.  لكن التحقيق غير المنحاز سيؤكد أنه لا يوجد ما يلوث شرفي، لاشخصياً ولا سياسياً. وأنا مقتنع بعمق أن الحق في صفي، ونا أحيي من القلب سكان العالم الجديد.[9]

ولدت محاكمات موسكو رد فعل مذهل عبر العالم. إن مشهد الثوريين القدامى ذائعي الصيت، ومؤسسي الإتحاد السوفيتي، يعترفون بدخولهم في تحالف مع ألمانيا النازية بهدف قتل ستالين وإعادة الرأسمالية قد صدم الرأي العام. هل يمكن أن يكون المتهمين مذنبون بتلك الجرائم؟ هل كانت محاكمات موسكو ممارسة قانونية للعدالة؟ إنما وعلى الرغم من التشكيك الواسع بالمحاكمات فإن دعوة تروتسكي لتشكيل لجنة تحقيق دولية واجهت معوقات سياسية جدية.

قامت الأحزاب الشيوعية في سائر أرجاء العالم، العاملة تحت إشراف الشرطة السرية السوفيتية، بشن حملة دولية لدعم تلك المحاكمات، لا سيما بين صفوف الفئات الراديكالية والفئات اليسارية الليبرالية في الأنتلجنسيا الأوروبية والأمريكية.

وحظيت جهود الستالينيين في الولايات المتحدة بدعم صحيفة نيويرك تايمز، حيث أعلن مراسلها في موسكو والتر دورانتي عن ثقته بقانونية المحاكمات والاعترافات. واقترح على أولئك الذين راودتهم شكوك حول صحة الاعترافات قراءة دستويفسكي وتعلم المزيد حول أسرار' الروح السلافية'. وكان هناك مدافع بارز آخر عن المحاكمات هو سفير الولايات المتحدة في الإتحاد السوفيتي، جوزيف دافيس، الذي أعلن أنه كان مقتنعاً بذنب المتهمين. 

وكانت محاكمات موسكو،  حدثاً أكبر بكثير مما تم توقعه بشكل عام، بوصفها مرحلة حاسمة في الحياة السياسية الأمريكية، لاسيما بالنسبة لليبرالية وهي إحدى أهم مكوناتها. ولإدراك هذا يجب على المرء مراجعة الظروف المحيطة على المستوين الداخلي والدولي، التي جرت خلالها محاكمات موسكو.

الليبراليون الأمريكيون ومحاكمات موسكو

لقد تم إلى حد بعيد تناسي المدى الذي حول فيه، الكساد العظيم الذي بدأ في أواخرعام 1929 ، المناخ الفكري والسياسي داخل الولايات المتحدة. إنما لم تواجه الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية مثل هذه الأزمة الجوهرية. فأزمة الانفصال عام 1860-1861 وضعت استمرار الإتحاد موضع تساؤل. كما أن انهيار وول ستريت والكساد العظيم وضع مشروعية النظام الرأسمالي الأخلاقية وقابليته للحياة موضع تساؤل. وفي أيامنا هذه، حين يتم تمجيد مضاربي وول ستريت الناجحين و كبار رجال الأعمال في وسائل الإعلام الشعبية بوصفهم التجسيد البشري لكل ما تعتز به أمريكا، يصعب تصور زمن كان مثل هؤلاء الأفراد  يتعرضون لإدانة علنية من قبل الرئيس فرانكلين ' ديلانو روزفلت بوصفهم 'أشرار يمتلكون ثروات هائلة.' وتحول تعبير الرأسمالية في الولايات المتحدة إلى كلمة تشوبها القذارة. 

لم تكن ليبرالية الأنتلجنسيا الأمريكية مستندة إلى مفاهيم سياسية واقتصادية واضحة المعالم . وكانت غير متبلورة حالها حال المصطلح في حد ذاته، الذي لا يعني بشكل عام شيئاً سوى التزام غامض لتحسين متدرج في الظروف الاجتماعية والحد من الفساد في السياسة الحضرية. وقد ولد الكساد ضمن هذا الوسط الاجتماعي شيئاً من الشعور بإلحاح الوضع، وزيادة الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية بل وحتى درجة من التعاطف مع السياسات الراديكالية.

كما نمت مكانة الإتحاد السوفيتي بشكل ملحوظ بين صفوف الأنتلجنسيا الليبرالية الأمريكية. فمع وجود 25% من القوة العاملة في البطالة، فإن عقيدة الأسواق ذاتية الضبط، والمنافسة بدون ضوابط والنزعة الفردية الصرفة كانت أقل إقناعاً مقارنة بحالها قبل أكتوبر 1929. إن الظروف التي تطورت بعد انهيار وول ستريت قوضت الافتراضات القديمة حول توافق اقتصاديات السوق مع التقدم الاجتماعي. ففي مواجهة خلفية الأزمات الأمريكية فإن النجاحات الظاهرية  للاقتصاد السوفيتي، على الرغم 'تجاوزات التجميع، ولدت احتراماً بل وحتى إعجاباً بمفهوم التخطيط الاقتصادي. وبدا بالنسبة للكثيرين من المثقفين الليبراليين أن على العالم وجوب  تعلم شيئاً ما من الإتحاد السوفيتي.

وتسارع التعاطف المتصاعد مع اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية تحت تأثير التغيير الهام في السياسة الخارجية السوفيتية. كما أن صعود الفاشية في ألمانيا وتنامي قوة الحركات الرجعية عبر أرجاء أوروبا كانت في أعين العديد من الليبراليين نٌذٌر لإنهيار عام للديمقراطية البورجوازية. وفي تلك اللحظة الحرجة، ومن منطلق الليبرالية الديمقراطية فإن أهمية الإتحاد السوفيتي في سياسات العالم تغيرت بشكل درامي. ففي عام 1935، وخلال المؤتمر السابع للأممية الشيوعية أعلن الإتحاد السوفيتي عن سياسة ' الجبهات الشعبية.'فتحت الخوف من الخطر الذي مثلته ألمانيا النازية، قررت البيروقراطية السوفيتية، من الآن فصاعداً، توجيه طاقاتها نحو بناء تحالفات مع القوى الإمبريالية الديمقراطية وهي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. وكانت النتيجة الحتمية لهذه السياسة، حث الأحزاب الشيوعية المحلية ، على التحالف مع الأحزاب الليبرالية والتقدمية التي أشير إليها بوصفها' بورجوازية ديمقراطية' ودعمها بأي طريقة ممكنة. وتم التخلي عن تعريف الأحزاب والسياسيين والحكومات وتحليل مواقفهم على أساس المصالح الطبقية التي يخدمونها. وصار المرجح هو تقييمها إن كانت ' فاشية ' أو ' ضد الفاشية.' كان على الأحزاب الشيوعية التضحية باستقلال الطبقة العاملة سياسياً وبالاشتراكية بوصفها هدفاً لمصلحة ما كان حقيقة هو مقتضيات السياسة الخارجية السوفيتية.

وبهدف تطبيق هذه السياسة، باشر الإتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية الوطنية بالحكم بعدوانية على الأنتلجنسيا الليبرالية والراديكالية في أوروبا وفي الولايات المتحدة. واكتست سياسة الأحزاب الشيوعية يوماً بعد يوم تلوناً ليبرالياً متصاعداً، وبرز  هذا بشكل خاص بدعم الستالينيين الأمريكيين لروزفلت وللصفقة الجديدة. وكان هناك العديد من الليبراليين الذين شعروا بالإطراء نتيجة الاهتمام الجديد الذي خصهم به الستالينيون، وكانوا سعداء لمعرفة أن آرائهم واهتماماتهم تؤخذ بجدية. وبدا أن  تماهيهم الشخصي مع الإتحاد السوفيتي، على الأقل في نظرهم، تغطية على واقع افتقارهم لأي برنامج ملموس لعمل راديكالي في الولايات المتحدة.

إن الإعجاب الليبرالي بإنجازات السوفييت لم يدل على دعم تغيير ثوري داخل الولايات المتحدة. بل كان بعيداً عن هذا. فقد مال معظم المثقفين الليبراليين إلى النظر إلى تحالف مع اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية بوصفه وسيلة لتعزيز أجندتهم الخاصة الخجولة للإصلاح الاجتماعي في الولايات المتحدة ولحصر الفاشية في أوروبا. كف الإتحاد السوفيتي عن أن يكون مصدر خوف بوصفه ناشراً لانتفاضات ثورية. وقد فهم الليبرواليون أن  هزيمة تروتسكي دلت على تخلي الإتحاد السوفيتي عن الطموحات الثورية الأممية. ومع حلول منتصف العقد الثالث من القرن العشرين كان النظام السوفيتي قد حظي باحترام سياسي. 

وعند تفحص الاستجابة الليبرالية لمحاكمات موسكو يجب أن يظل حاضراً في الذهن واقعة سياسية شديدة الأهمية. فقبل شهر واحد من بدء المحاكمة الأولى اندلعت الحرب الأهلية الاسبانية في يوليو 1936. كانت اسبانيا مهددة من قبل الفاشية ، التي كان انتصارها سيقود حتماً إلى نشوب حرب عالمية ثانية.  نٌظر إلى روسيا السوفيتية بوصفها أهم حليف للقوى الجمهورية المناهضة للفاشية. كان هناك قلة من المثقفين الليبراليين ممن مالوا لتفحص الدلالة الحقيقية للسياسات الستالينية في اسبانيا بعناية. وجهل معظمهم الطرق التي استخدمها الستالينيون، عبر الإرهاب السياسي، لتدمير الحركة السياسية للطبقة العاملة وضمان انتصار فرانكو في النهاية. فعلى السطح، ولم يكلف إلا قلة من الليبراليين أنفسهم  عناء النظر أعمق من ذلك، بدا أن الإتحاد السوفيتي هو الصخرة التي تستند إليها كل آمال القوى ' التقدمية' لقهر الفاشية في اسبانيا.

ولهذا جوبه نداء تروتسكي لتشكيل لجنة دولية  مستقلة للتحقيق في محاكمات موسكو بمعارضة واسعة من الإنتلجنسيا الليبرالية، لا سيما في الولايات المتحدة. بادرت صحيفتين من أهم الصحف التي تمثل رؤية هذا الوسط ، وهما ذا نيو ريبوبليكان و ذا ناشيون، بدعم المحاكمات ومعارضة النداء لتحقيق مستقل. تكبدت  صحيفة ناشيون عناءً كبيراً  بهدف دعم المحاكمات، وافترضت أن أولئك الذين يعبرون عن الشكوك لم يكونوا، ببساطة، مطلعين على نظام العدالة الجنائية في الإتحاد السوفيتي، وكتبت الصحيفة ' إن القانون العام السوفيتي يختلف عن قانوننا في العديد من الجوانب الجوهرية'.[10]

أما مالكوملم كولي، محرر صحيفة ذا نيو رببليك، فكان مثالاً عن الكسل الفكري،  والغباء السياسي المرعب السائد بين الليبراليين الأمريكيين. وهو كان شخصية بارزة في الأدب الأمريكي. ويمكن حتى اليوم أن تجده في العديد من مختارات الروايات الأمريكية الهامة وحتى ضمن الروايات التي يعاد طبعها بوصفه كاتب المقدمة. وقد عرض هذا الليبرالي الحضري الراقي رأيه ذا الإعتبار في محاكمات موسكو في مقال حمل عنوان ' سجل محاكمة' نشر في عدد السابع من أبريل 1937 من صحيفة ذا نيو رببليك:

بناء على كل المعطيات فإن الكتاب الأكثر إثارة الذي قرأته هذا العام هو سجل حاضر المحاكمة التي عٌقدت مؤخراً في موسكو، وتٌرجم إلى الإنكليزية من قبل مفوضية الشعب للعدالة. باشرت قراءته بدافع من الواجب نظراً لأني سمعت الكثير من المحاججات حول المحكمة، ولأني قرأت الكثير من الهجمات ضد حسن نية المحاكم السوفيتية، وأردت أن أعرف أكبر قدر ممكن من المصادر الأصلية. تعلمت الكثير، وإنما تابعت القراءة بشكل أساسي نتيجة لإعجابي الصافي بالمادة. وإذا حكمنا على الأمر من وجهة نظر أدبية فإن' قضية المركز التروتسكي المعادي للسوفييت' هي توليفة غير عادية بين قصة بوليسية وبين تراجيديا راقية تليق بعهد إليزابيت مع لمسات هزلية. ويمكنني تقبل أنه عرض مفبرك فقط عند افتراض أن مارلوفيه ووبستر كان لهما يد في إعداده. وإذا حٌكم عليه بوصفه معلومات، فإنه أجاب على معظم الأسئلة التي خطرت ببالي بعد قراءة تقارير الصحف المختصرة حول المحكمة.

إنما قبل مناقشة الشهادة، يجدر بي شرح موقفي تجاه الشؤون الروسية كما تطورت خلال العامين الأخيرين. أنا لست 'ستاليني' باستشناء مدى تعاطفي العميق مع أهداف الإتحاد السوفيتي، ومدى اعتقادي بأن ستالين ومكتبه السياسي اتبعا بشكل عام سياسات أكثر حكمة من السياسات التي طرحها أعدائه... إنما دون أن اكون موال لستالين فأنا بالتأكيد ضد تروتسكي. إن معارضتي له تعود جزئياً لمسألة طباعي فأنا لم أٌعجب أبداً بمثقفي المدن الكبرى من هذا النمط، وإرجاعهم كل مسألة  إنسانية إلى قياس منطقي أخرق يكونون فيه دائماً على حق في كل نقطة، ويكونون مٌحقين بشكل عجائبي، ويكون معارضيهم أغبياء دوماً وعٌرضة للتحقير. لم أٌعجَب أبداً بكتب تروتسكي... إنما أنا قبل كل شيء ضد تروتسكي لأسباب سياسية. فقد بدا لي على مدى سنوات عديدة أن كره ستالين هو مبدأه الأساسي، وأن شعار' الثورة الدائمة' من المرجح أن يٌدمر الثورة بشكل دائم، من خلال مهاجمة الاشتراكية وإضعافها حيث هي قائمة الآن في بلد واحد.

...إن ستالين مع كل أخطائه ومثالبه، يمثل الثورة الشيوعية. أما تروتسكي فصار ممثل ' ثورة ثانية' تحاول إضعاف ستالين في مواجهة هجمات القوى الفاشية' .[11] 

إن هذا المقال، بكل ما فيه من تملق وبراعة، كان تعبيراً مؤسفاً عن كل ما كان فاسداً في الليبرالية الأمريكية الحديثة.  لقد تم في موسكو التشهير علناً بثوريين قدامى ثم جرى قتلهم لكن أشخاص مثل كولي وجدوا طرقاً لإضفاء سمة عقلانية على الفظائع وتجميل وجهها. إنهم (الليبراليون) يقيمون القضايا الأخلاقية والتاريخية الكبرى على أساس مصالحهم الاجتماعية الضيقة وعلى اهتمامات فردية بائسة. وطالما توافقت السياسة الدولية للنظام الستاليني مع أجندتهم السياسية الخاصة، فإن الليبراليين من أمثال كولي شعروا بما عدوه نشاطات' مزعجة' لتروتسكي وعارضوها. كان تحليله لتناقضات المجتمع السوفيتي يولد بين صفوفهم شعوراً بالانزعاج. كان تروتسكي من خلال تركيزه على سمة الثورة المضادة لدى النظام الستاليني يدخل في حياة  أشخاص مثل كولي تعقيدات سياسية وأخلاقية غير ضرورية.

جون ديوي ولجنة الدفاع عن ليون تروتسكي

على الرغم من المعارضة الستالينية وعداء فئات واسعة من الأنتلجنسيا الليبرالية، شكلت الحركة التروتسكية لجنة دفاع.وقد وجدت دعماً بين صفوف فئة صغيرة من الليبراليين ومن اليساريين الراديكاليين. وكان من بين أبرز المدافعين عن تروتسكي الكاتب جيمس ت. فاريل، مؤلف ثلاثية ستادس لونيغان. وحققت اللجنة أعظم إنجازاتها حين أقنعت جون ديوي، الذي كان في الثامنة والسبعين من العمر وقتها وأبرز فيلسوف أمريكي بترأس اللجنة. وافق ديوي على السفر إلى المكسيك وترأس لجنة تحقيق فرعية كٌلفت بتدوين شهادة تروتسكي المتعلقة بالتهم الموجهة إليه في محاكمات موسكو.

كان جون ديوي( 1859-1952) على مدى عقود كثيرة، ممثلاً لتيار ديمقراطي أصيل ومثالي في الليبرالية الأمريكية. وهو كان الرائد الفكري للجماعة الليبرالية التي وجه إليها مقالاته ومحاضراته. وبالتضاد مع كل أولئك الذين سموا أنفسهم ليبراليين، كان ديوي يتعامل مع قناعاته الديمقراطية بجدية حقيقية.  إن قراره المشاركة بنفسه في لجنة الدفاع عن ليون تروتسكي، وأن يصبح رئيسها، عبر عن عمق المثالية الديمقراطية المتغلغلة في فكره.

انضم ديوي إلى لجنة الدفاع عن ليون تروتسكي لأنه، في المقام الأول،  اقتنع بأنه يجب عدم حرمان تروتسكي من حق رد الاتهامات ضده. لم يتصف ديوي بنمط انتهازيي موقف (نصف نصف) من الديمقراطية والحقيقة التي كانت سمة العديدين من ليبراليي الجبهة الشعبية. ففي نظر أشخاص مثل مالكوم كولي، كانت الحقيقة شيئاً ممتازاً بشكل عام. وكان مناسباً بشكل خاص عند الدفاع عنها بكل البلاغة التي تستحقها. إنما كانت مشكلتهم مع الحقيقة تبرز فقط عندما تقف في طريق اهتماماتهم الشخصية والسياسية الأكثر إلحاحاً، مثل أوضاعهم المهنية، ومستوى معيشتهم ومصير الحزب الديمقراطي.

أما اهتمام ديوي بالمواضيع التي أثارتها محاكمات موسكو فلم يكن أكثر من اهتمام قناعته الصادقة بالتفكير الحضري الليبرالي. وإذا أردنا صوغ التعبير بشكل آخر، فإن اهتماماته بالحريات المدنية كان مرتبطاً بانشغاله بمسائل أعمق  في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. تحدث ديوي باسم سلالة من الفكر الليبرالي الأمريكي المقتنع بعمق بالتقدم الاجتماعي ولم يفترض التطابق بين الديمقراطية واقتصاديات السوق. وكان مقتنعاً أن الديمقراطية بلا عدالة اجتماعية كانت قذيفة جوفاء. عارض ديوي ( الصفقة الجديدة) على أساس أنها لا تقدم شيئاً أكثر من علاجات إصلاحية تحافظ على الرأسمالية كما هي. ففي بداية العقد الثالث من القرن العشرين عمل ديوي بقوة إنما بدون فاعلية، على تشكيل حزب سياسي ثالث معارض للحزبين الرأسماليين القائمين. وهو رأى في الركود دليلاً غير قابل للضحد عن فشل الرأسمالية.

طرح ديوي، بسذاجة مؤكدة، أنه ما من أمر جوهري في الليبرالية، وفق فهمه لها، يتطلب ربط مصيرها بالنظام الرأسمالي. وشدد على أن المبادىء الديمقراطية التي تعتنقها الليبرالية الأمريكية وعلى رأسها الالتزام بالمساواة الاجتماعية، هي في صراع غير قابل للتوافق مع التطور المعاصر للرأسمالية. وأقر ديوي أن الليبرالية في تطورها التاريخي كانت تعبيراً عن مصالح اقتصادية بورجوازية وأنها الرؤية العامة للعالم. أما المثل الديمقراطية التي دافعت عنها الليبرالية في القرن التاسع عشر فدخلت في صراع مع الحقائق الاجتماعية والسياسية لرأسمالية القرن العشرين.  أما الذين فشلوا في التعرف على التغير في الظروف التاريخية فصاروا، في نظر ديوي، ' شبه ليبراليين'، يخصون الديمقراطية بتمجيد لفظي، في حين يشرعنون اقتصاديات السوق وكل الظلم الاجتماعي والبؤس الذين تولدهما.

لم يكن ديوي ماركسياً أو ثورياً. وهو رفض بشكل واضح الصراع الطبقي بوصفه الطريق الذي يجب، أو يمكن أن تتحقق الاشتراكية من خلاله. ولم يكن أبداً قادر على الرد بشكل يرضيه هو أو يرضي أي أحد آخر حول كيفية تحقيق الاشتراكية. لكن هذا ليس موضوعنا هنا. وما يفاجىء المرء في الكتابات السياسية والاجتماعية للسيد العجوز ديوي هو المدى الذي كان مستعداً للوصول إليه في انتقاداته للرأسمالية الأمريكية أكثر من أي ممثل    ' لأنتلجيسيانا الليبرالية المعاصرة' ، لدرجة أنه يمكن للمرء أن يتحدث حتى في الوقت الحاضر عن مثل هذه التكتلات الاجتماعية.

ومع تسلمه رئاسة اللجنة، أدان ديوي فقدان الاستقامة الفكرية لدى أولئك الليبراليين الذين عارضوا حق تروتسكي في الدفاع عن نفسه. وصرح بأنه يستحيل فصل قضية التقدم الاجتماعي عن النضال في سبيل الحقيقة التاريخية، وأن القضايا التي تواجه الليبراليين الذين يتعاطفون مع الإتحاد السوفيتي لا يمكن تفاديها. وفي كلمة قدمها قبل فترة قصيرة من سفره إلى المكسيك أعلن ديوي:

إما أن يكون ليون تروتسكي مذنباً في بالتآمر لتنفيذ عمليات قتل بالجملة وتخريب منهجي مع تدمير حياة وممتلكات، وفي الخيانة على قاعدة أقصى حد من الدناءة من خلال التآمر مع الأعداء السياسيين والاقتصاديين لاتحاد الجموريات السوفيتية الاشتراكية بهدف تدمير الاشتراكية؛ أو أنه بريئ. إن كان مذنباً، فما من عقوبة يمكن أن تكون شديدة القسوة. وإن كان بريئاً، فما من طريقة يمكنها تبرئة النظام القائم في روسيا السوفيتية من تهمة الافتراء، والاضطهاد الممنهج والتزوير. تلك خيارات مزعجة أمام المؤيدين لجهود بناء دولة اشتراكية في روسيا. إن أسهل مسار واقله تطلباً للجهد هو تحاشي مواجهة هذه الخيارات. إنما النكوص عن مواجهة ما هو مزعج يمثل نقطة الضعف الثابتة لدى الليبراليين. وهم على الأرجح لا يظهرون الشجاعة إلا حين تسير الأمور بسلاسة ثم يتهربون حين تتطلب الظروف المزعجة قراراً وعملاً. لا يمكنني تصديق أن هناك ليبرالي أصيل واحد، في حال واجه الخيارات، سيقبل أن الاضطهاد والتزوير يمثلان قاعدة صلبة لبناء مجتمع اشتراكي قابلة للاستمرار[12].

 وختم ديوي كلمته مقتبساً كلمات كتبها زولا في فترة قضية درايفوس: ' بدأت الحقيقة مسارها ولا شيء يمكن أن يوقفها'.

سافر ديوي إلى المكسيك في أبريل 1937. لم يستطع أحد إرغامه عن القيام بهذه المهمة، على الرغم من نداءات عائلته وأصدقائه، الذين خافوا من الإدانة الصادرة عن الحزب الشيوعي الأمريكي وحتى من مخاطر مادية يمكن أن ينظمها الحزب. استغرق استجواب تروتسكي أكثر من اسبوع،من العاشر من أبريل 1937 وحتى السابع عشر منه. وغطت شهادة تروتسكي ما يقارب 600 صفحة مطبوعة، وقدمت عرض مفصل لحياة تروتسكي السياسية وقناعاته.

مثل تروتسكي وديوي تبايناً رائعاً. كان الأول كان تجسيداً حقيقياً للاندفاع الثوري والطاقة، رجل وقف في مركز الأحداث الأكثر إضطراباً في التاريخ الحديث، متمكناُ من الدياليكتيك يستخدم استعارات صادمة لتسليط الضوء على العوامل السياسية والاجتماعية المعقدة التي قادت إلى محاكمات موسكو. في حين كان ديوي رجلاً مختلفاً تماماً، يانكياً عتيقاً من فرومونت، متزن ومقتصد في تعليقاته، رجل من قاعات الجامعات، لا رجل تجمعات جماهيرية وميادين قتال. والآن وعلى الرغم من كل تبايناتهما في الطباع وفي المفاهيم السياسية، تشاركا بالتزام شديد بالحقيقة التي عداها النابض الرئيس الفكري والأخلاقي في التقدم. 

وقد قرظ  تروتسكي، ديوي على طريقته . ففي جلسة الاستماع الأخيرة في مكسيكو، قدم تروتسكي دفاعاً استغرق أربع ساعات عن حياته ومعتقداته وسمعته. إن كلمته التي زاد من فصاحتها واقع أنها ألقيت باللغة الإنكليزية وتطلبت من الخطيب العظيم القدر الأكبر من التركيز الفكري، قوبلت بصمت.

' أعضاء اللجنة المحترمين' أعلن تروتسكي في ختام كلمته: 

إن تجربة حياتي التي لم تنفتقد النجاحات والهزائم لم تقتصر على عدم تدمير إيماني بمستقبل الإنسانية الجلي والبراق، بل على العكس فهي أضفت عليه طابعاً عصياً على التدمير. إن هذا الإيمان بالعقل، بالحقيقة، وبالتضامن الإنساني، حملته معي ، وأنا في الثامنة عشر إلى أحياء العمال في بلدة نيكولايف في روسيا الريفية، وقد حافظت على هذا الإيمان بشكل كامل وتام. لقد صار أكثر نضجاً، لكن ليس أقل حماساً. إن مجرد واقع تشكيل لجنتكم، وواقع أن من ترأسها رجل سلطة أخلاقية لا تتزعزع، وهو رجل بحكم سنه يجب أن يكون له الحق في البقاء خارج المناوشات في الساحة السياسية، في هذه الحقيقة أرى تعزيزًا جديدًا ورائعًا حقًا للتفاؤل الثوري الذي يشكل العنصر الأساسي في حياتي.

السيدات والسادة في هذه الهيئة! السيد المحامي فينيرتي! وأنت مدافعي  وصديقي جولدمان! اسمحوا لي أن أعرب لكم جميعًا عن امتناني الحار الذي لا يحمل في هذه الحالة طابعًا شخصيًا. واسمحوا لي في الختام أن أعبر عن احترام

أجاب ديوي على هذا ، 'أي شيء سأقوله سيكون هبوطاً' ، وسرعان ما أوصل جلسة الاستماع إلى نتيجة كريمة.

نتائج لجنة ديوي

عاد المفوضون إلى الولايات المتحدة. بعد تسعة أشهر أصدروا نتائج مفصلة دحضت كل جانب من جوانب القضية التي قدمها النظام الستاليني في محاكمات موسكو. اسمحوا لي أن أذكر أهم النتائج:

• النتيجة رقم 16: “نحن مقتنعون بأن الرسائل المزعومة التي نقل فيها تروتسكي تعليمات تآمرية مزعومة إلى مختلف المتهمين في محاكمات موسكو لم تكن موجودة قط ؛ وأن الشهادة عليهم محض تلفيق '.

• النتيجة رقم 17: 'نجد أن تروتسكي طوال حياته المهنية كان دائماً معارضاً ثابتاً للإرهاب الفردي. ووجدت اللجنة كذلك أن تروتسكي لم يأمر أبدًا أيًا من المتهمين أو الشهود في محاكمات موسكو باغتيال أي معارض سياسي '.

• النتيجة رقم 18: 'وجدنا أن تروتسكي لم يأمر المتهمين أو الشهود في محاكمات موسكو بالتورط في التخريب والتدمير والإلهاء. على العكس من ذلك ، فقد كان دائماً مدافعاً ثابتاً عن بناء الصناعة الاشتراكية والزراعة في الاتحاد السوفيتي وانتقد النظام الحالي على أساس أن أنشطته كانت ضارة ببناء الاقتصاد الاشتراكي في روسيا. إنه لا يؤيد التخريب كوسيلة لمعارضة أي نظام سياسي '.

• النتيجة رقم 19: 'وجدنا أن تروتسكي لم يأمر أبداً أياً من المتهمين أو الشهود في محاكمات موسكو بالدخول في اتفاقيات مع قوى أجنبية ضد الاتحاد السوفيتي. على العكس من ذلك ، فقد دافع دائماً بلا هوادة عن الدفاع عن الاتحاد السوفيتي ، كما كان أيضاً أشد المعارضين الأيديولوجيين للفاشية التي تمثلها القوى الأجنبية التي اتهم بالتآمر معها '.

• النتيجة رقم 20: 'على أساس كل الأدلة نجد أن تروتسكي لم يوص أبداً أو يخطط أو يحاول استعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفيتي. على العكس من ذلك ، كان دائمًا معارضًا بلا هوادة لاستعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفيتي ولوجودها في أي مكان آخر.'

لخصت اللجنة النتائج التي توصلت إليها بالنتيجة التالية: 'لذلك نجد أن محاكمات موسكو هي مؤامرة وافتراء . لذلك نجد أن تروتسكي وسيدوف غير مذنبين.[14]

أوضح تروتسكي نقطة مفادها أن اللجنة كان من الممكن أن تقتصر على اكتشاف أنه غير مذنب بالتهم الموجهة إليه. لقد ذهبت إلى أبعد من ذلك ، قائلاً بشكل لا لبس فيه أن محاكمات موسكو كانت مؤامرة. في الواقع ، وجدت اللجنة أن منظمي المحاكمات ، وخاصة ستالين ، كانوا من بين أسوأ المجرمين في تاريخ العالم. قام ستالين وشركاؤه بتسخير إطار المتابعة من قبل الدولة من أجل توفير غطاء قانوني لقتل ليس فقط المتهمين في المحاكمة ، ولكن أيضاً مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء الآخرين.

آمل الآن أن تفهم سبب احتجاج حزب المساواة الاشتراكية علناً على إعادة التأهيل المجانية من قبل ريتشارد بايبس لمحاكمات موسكو. أدت الإجراءات الجنائية لستالين إلى إضفاء الشرعية على الإرهاب الذي أودى بحياة مئات الآلاف من الأرواح ووجه ضربة مروعة لقضية الاشتراكية الدولية. استهلك الكفاح من أجل فضح المحاكمات السنوات الأخيرة من حياة تروتسكي. لكن محاكمات موسكو فقدت مصداقيتها أخيراً. حتى البيروقراطية السوفيتية ، قبل وقت قصير من سقوطها في عام 1991 ، اضطرت إلى الاعتراف بأن الإجراءات كانت مهزلة قانونية. بعد أكثر من خمسين عاماً على إعدامهم ، تم إعادة اعتبار جميع ضحايا المحاكمات رسمياً.

في ضوء هذا التاريخ ، لا يمكننا أن نلاحظ برباطة جأش محاولة بايبس لإعادة تأهيل محاكمات موسكو لصالح أجندته السياسية الرجعية. عندما تُقال الأكاذيب عن مثل هذه الأحداث ، تُوجه ضربة للوعي التاريخي للبشرية. يغضب كل واحد منا عندما نقرأ أو نسمع عن محاولات إنكار حقيقة الهولوكوست. وراء إنكار مقتل ستة ملايين يهودي على يد الفاشية ، التحضير لأعمال إبادة جماعية في المستقبل.و الحدث التاريخي الحديث الذي يحمل أقرب مقارنة بالهولوكوست هو الإرهاب الستاليني ضد الطبقة العاملة الاشتراكية والمثقفين في الاتحاد السوفيتي.

كانت كل من المحرقة التي نظمها النازيون والإرهاب العظيم الذي نظمه الستالينيون نتاج إجرامي لرد فعل معاد للثورة على الحركة السياسية الجماهيرية للطبقة العاملة الاشتراكية في جميع أنحاء أوروبا. صحيح أن الأسس الاقتصادية والاجتماعية للنظام النازي والستاليني كانت مختلفة تماماً. لكن في توجههما السياسي ، جسدت كل من الستالينية الروسية والفاشية الألمانية استجابة قومية رجعية للأممية الاشتراكية التي أصبحت ، تحت تأثير الماركسية ، قوة جبارة في الطبقة العاملة الأوروبية خلال العقود الأولى من القرن العشرين. سعى هتلر وستالين ، كل على طريقته الخاصة ، إلى تدمير الأساس السياسي والفكري والثقافي والأخلاقي الذي أسسته الماركسية عبر الأجيال في حركة الطبقة العاملة. استخدم هتلر أساليب الإبادة العرقية. كان ستالين أكثر دقة: فقد استندت الإبادة الجماعية التي ارتكبها إلى عملية الاختيار السياسي. وحدد أولئك الذين يعكسون ، من خلال إنجازاتهم السياسية أو الفكرية ، تأثير التقاليد الاشتراكية التي ألهمت ثورة أكتوبر ، وأمر بتدميرهم.

لنعد الآن بشكل مباشر أكثر إلى القضية التي أثيرت في عنوان هذه المحاضرة: علاقة محاكمات موسكو بأزمة الحياة السياسية الحالية في الولايات المتحدة. لقد كان للمحاكمات تأثيراً عميقاً ودائماً على تطور الحياة السياسية في هذا البلد. لقد تركت المغازلة الانتهازية لقسم من الليبراليين في الجبهة الشعبية مع الستالينية نكهة سياسية مريرة. بالمعنى الأساسي ، كان العديد من المثقفين الليبراليين محرجين بشدة من محاكمات موسكو ، إن لم يكن قد فقدوا مصداقيتهم تماماً. بحلول المحاكمة الثالثة في مارس 1938 - هذه المرة كان بوخارين هو المتهم الرئيسي - كان من المستحيل تقريباً الحفاظ على الادعاء بأن كل شيء كان على ما يرام مع نظام العدالة السوفيتي. ومع ذلك ، لم يكن المدافعون الليبراليون السابقون عن الستالينية يميلون إلى الاعتراف بصدق بأنهم ارتكبوا خطأ أو فحص سبب خطأ حكمهم. بدأ مزاج جديد في الظهور داخل هذه الدوائر. بدأ المعجبون الليبراليون بالستالينية الآن في الاعتراف بأن المحاكمات ربما كانت صورة زائفة للعدالة. لكن الأحداث المؤسفة في موسكو ، حسب زعمهم ، أظهرت ما حدث عندما تم السعي للتغيير الاجتماعي من خلال الأساليب الثورية. 'العنف يولد العنف!' 'محاكمات موسكو نشأت من اللاأخلاقية ، إن لم تكن اللاأخلاقية ، من البلشفية.' 'ما حدث عام 1937 بدأ عام 1917!' 'قد يكون ستالين سيئاً ، لكن تروتسكي كان سيصبح أسوأ!'

إلى حد كبير ، فإن نفس الحجج التي أصبحت عبارات مبتذلة تتكرر إلى ما لا نهاية على مر السنين لتشويه سمعة الاشتراكية ترجع أصولها إلى التبرير الدفاعي لليبرالية الأمريكية لتواطؤها في الأحداث المروعة في أواخر الثلاثينيات. استمرت خيبة الأمل الليبرالية من الستالينية على طول خط المقاومة الأضعف- ليس للنقد الثوري الماركسي للبيروقراطية السوفيتية ، ولكن باتجاه التخلي العام عن أي نوع من الاهتمام النشط بالاشتراكية ودعمها. أصبح هذا الاتجاه واضحاً بشكل خاص بعد التوقيع على ميثاق ستالين - هتلر في أغسطس 1939 ، والذي فسره الأصدقاء السابقون لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ليس على أنه خيانة للطبقة العاملة والاشتراكية الدولية - التي كان من الممكن أن يغفروا لها - ولكن كخيانة للسياسة الخارجية لإدارة روزفلت.

بعد الغزو النازي للاتحاد السوفيتي في يونيو 1941 ودخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية في ديسمبر التالي ، كان هناك تقارب مؤقت وانتهازي بين المثقفين الليبراليين والستالينية. يمكن لليبراليين ، دون أي خطر على سمعتهم ومهنهم ، الجمع بين الوطنية والتعبير عن المشاعر الودية تجاه الاتحاد السوفيتي. لكن هذا الوضع السعيد لم يستمر إلا حتى نهاية الحرب، أو بتعبير أدق ، حتى صاغ تشرشل استعارته 'الستار الحديدي' في خطاب ألقاه في فولتون ، ميسوري في مارس 1946.

الليبرالية والحرب الباردة

مع بداية الحرب الباردة ، تحول الرأي العام بسرعة إلى اليمين. اجتاحت معاداة شرسة للشيوعية صفوف الليبرالية الأمريكية ، وساهمت بشكل حاسم في البيئة الرجعية التي بدونها لم يكن من الممكن أن تحدث مطاردة الساحرات في أواخر العقد الرابع وأوائل العقد الخامس من القرن الماضي.

هناك العديد من الأسباب للدور المشين الذي لعبته الليبرالية الأمريكية في المساهمة في موجة رد الفعل السياسي التي كان لها مثل هذا التأثير المدمر على المستوى الفكري والمناخ السياسي للولايات المتحدة. بالتأكيد ، كان الانتعاش الاقتصادي الذي أعقب الحرب عاملاً مادياً حاسماً في إضعاف الميول السياسية الراديكالية. أدت عودة الرخاء والهيمنة الجديدة للولايات المتحدة على الشؤون العالمية إلى إحياء الثقة في آفاق الرأسمالية. بدأ ما يسمى بالقرن الأمريكي. ساهم تحسين الظروف الاجتماعية ، أو على الأقل الشعور بأن الرأسمالية الأمريكية تمتلك الموارد المادية للتعامل مع مشاكلها المحلية المستمرة ، في زيادة النزعة المحافظة والرضا عن الليبرالية.

لكن الضراوة الغريبة التي اتسمت بها معاداة الشيوعية الأمريكية ، لا سيما حقيقة أنها واجهت القليل من المقاومة المنظمة ، لا يمكن أن تُعزى حصرياً إلى البيئة المادية لازدهار ما بعد الحرب. يجب مراعاة العوامل السياسية والأيديولوجية الأخرى. بادئ ذي بدء ، لا يمكن للمرء أن يقلل من درجة نجاح خيانة الأمانة وسخرية الستالينيين الأمريكيين في جعلهم بغيضين تماماً في نظر قطاعات واسعة من الطبقة العاملة. أصبح مصطلح 'الإنسان الآلي الستاليني' جزءاً من المفردات اليومية للحركة العمالية الأمريكية، واستحضرت صورة بيروقراطي عمالي صغير ذي وجهين كان ببساطة ' يلتزم بالخط المرسوم ' دون أي اهتمام حقيقي بتأثيره على رفاهية الطبقة العاملة.

شارك الستالينيون الأمريكيون بشكل مباشر في مؤامرة الغيبو التي أدت إلى اغتيال تروتسكي في أغسطس 1940 ، وقد أيدوا محاكمة قادة حزب العمال الاشتراكي التروتسكي بتهم ملفقة بالتحريض في عام 1941. وأيدوا استخدام القوانين التي استخدمت ضدهم بعد عدة سنوات ضد خصومهم السياسيين في الحركة العمالية . على عكس الأحزاب الستالينية في أوروبا الغربية ، التي تمكنت من إنقاذ سمعتها على أساس دورها في حركات المقاومة المناهضة للنازية ، عارض الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة جميع مظاهر التشدد الصناعي أو الراديكالية السياسية خلال الحرب العالمية الثانية. وهكذا ، بنهاية الحرب ، فقد الستالينيون كل مصداقيتهم تقريباً بين أكثر قطاعات الطبقة العاملة نضالية. فقط منظمة غير مبدئية وساخرة ومخادعة مثل الحزب الشيوعي الأمريكي يمكن أن تمكن خصومها اليمينيين في بيروقراطية الحركة العمالية من الظهور كأبطال مخلصين لحقوق الطبقة العاملة الأمريكية.

لكن لا أنشطة الستالينيين الأمريكيين ، ولا سياسات الاتحاد السوفيتي ، في هذا الصدد ، تقدم تفسيراً كافياً لانحراف المثقفين الليبراليين إلى اليمين في فترة ما بعد الحرب. السؤال الذي يجب الإجابة عليه هو لماذا وجدت معارضتهم للستالينية أسلوبها الأساسي للتعبير في دعم سياسات الحرب الباردة للإمبريالية الأمريكية. يجب العثور على جزء مهم من الإجابة على هذا السؤال في فشل أساسي في فهمهم ، من الناحية النظرية والسياسية ، لأصول وطبيعة النظام الستاليني في الاتحاد السوفيتي. كان هناك تغيير جذري في موقف المثقفين الليبراليين من الاتحاد السوفيتي بين عامي 1936 و 1946. ومع ذلك ، كان هناك تواصل سياسي ونظري واضح بين المواقف المؤيدة والمناهضة للسوفييت. عندما دعموا ستالين ضد تروتسكي ، ثم ترومان ضد ستالين ، انطلق المثقفون الليبراليون من هوية الستالينية والماركسية.

وضع هذا المثقفين الليبراليين في موقف لا يمكن الدفاع عنه سياسياً وفكرياً. على أساس الصيغة السهلة القائلة بأن الستالينية تساوي الماركسية والاشتراكية ، ترك الليبراليون لأنفسهم بديلين فقط: الأول هو معارضة الستالينية من اليمين كمؤيدين للإمبريالية الأمريكية. الثانية ، لتكون بمثابة المدافعين عن الستالينية. انتهت الجمهورية الجديدة في المعسكر الأول. وانتهت الأمة في الثانية.

أظهر مصير المثقفين الليبراليين والديمقراطيين في الولايات المتحدة استحالة الجمع بين معارضة راديكالية مبدئية لكل من الستالينية والإمبريالية دون فهم طبيعة النظام السوفيتي. في العقد الثالث من القرن العشرين ، قبل المثقفون الليبراليون ، مع استثناءات قليلة ، مماهاة الستالينية بالماركسية. بعد عشرة وخمسة عشر عاماً ، كانوا لا يزال يسيرون على أساس هذه الهوية الزائفة والرجعية. أولئك الذين عكسوا ببساطة تقييمهم للاتحاد السوفيتي ، وحولوا الإيجابيات التي كانت تُنسب إلى الستالينية في العقد الثالث من القرن المنصرم إلى سلبيات بعد عقد من الزمان ، سقطوا حتماً في صف صائدي الساحرات السياسيين والثقافيين.

في التحليل النهائي ، كان تطور المثقفين الليبراليين في أواخر العقد الرابع من القرن الماضي متجذراً في المصالح المادية للطبقات الاجتماعية البرجوازية الصغيرة التي تم تجنيد أعضاءها إلى حد كبير. كانت الخصائص الشخصية التي توجد بشكل شائع داخل هذه الطبقات الاجتماعية - الغرور ، والأنانية ، والجبن ، وما إلى ذلك - عوامل مساهمة في تحديد الدور الذي لعبه الأفراد المختلفون في هذه العملية. لكن العامل الفكري - أي غياب الفهم النظري العام لثورة أكتوبر ، وعلى وجه الخصوص ، الأصول السياسية وأهمية الستالينية - يجب عدم استبعاده. لم يكن الأوغاد والجبناء من المثقفين الليبراليين وحدهم هم الذين اصطفوا وراء الإمبريالية الأمريكية في الأربعينيات. حتى جون ديوي ، على الرغم من ذكائه ونزاهته وشجاعته ، تعثر بشدة في أعقاب المحاكمات. فضح المحاكمات ، لكنه لم يستطع تفسيرها. لجأ ديوي إلى التفاهات الفارغة حول الأساليب البلشفية التي أدت حتماً إلى جرائم الستالينية. على هذا الأساس ، في السنوات الأخيرة من حياته ، شارك ديوي مفاهيم الحرب الباردة للعديد ممن هم أدنى منه في المعسكر الليبرالي. إذا لم يترك ديوي ورائه إرثاً حقيقياً ، فذلك لأن الليبرالية الأمريكية لم يعد لديها ما تقوله كان تقدمياً عن بعد.

لقد حاولنا أن نبين كيف ساهمت العلاقة المتشابكة بين المثقفين الليبراليين والستالينية في ركود الحياة السياسية والفكرية في الولايات المتحدة. إن شلل الفكر الاجتماعي غارق في تعريفه الخاطئ للستالينية بالماركسية. أكاذيب العلماء الزائفين مثل بايبس، التي تضخمت إلى الدرجة التاسعة من قبل وسائل الإعلام المخدرة للعقل ، تعمل على تعزيز السياسات الرجعية والامتثالية في الولايات المتحدة. بدون فهم صعود وانهيار وسقوط ثورة أكتوبر - التي لا يمكن تحقيقه إلا على أساس الدراسة الدقيقة للنضال الذي خاضته الحركة التروتسكية ضد الستالينية - لا يمكن إيجاد طريقة للخروج من هذا الطريق المسدود.

التوافق الفكري وأزمة المجتمع في الولايات المتحدة

تتجلى الحاجة إلى التعامل مع هذه المشكلة من خلال حالة الحياة السياسية المعاصرة. تمر الولايات المتحدة بأزمة اجتماعية تظهر بوادرها لكل من يرغب في فتح عينيه والتحلي بالصدق مع نفسه. ومع ذلك فمن المستحيل عملياً إيجاد أي تساؤل جاد عن النظام الاقتصادي السائد. بالطبع ، لا يمكن توقع شيء من هذا القبيل من وسائل الإعلام. ولكن حتى في المجلات الأكثر انتقائية ، لا يصادف المرء تقريباً أي شيء باستثناء الأفكار الفظة  والدنيوية والمبتذلة. نادراً ما يكون هناك حتى اقتراح بإيجاد بديل للرأسمالية. وحتى حين يصادف المرء ، عن طريق الصدفة تقريباً ، كاتباً أو محاضراً يبدو أنه يحاول قول شيء ذكي ، يشعر المرء أن هذا الفرد منخرط في الرقابة الذاتية ، مع الحرص على عدم تجاوز حدود ما هو ممكن و مسموح به في إطار الرأسمالية.

استمر هذا الركود الفكري لفترة طويلة ، وبالكاد يُذكر أن الشكوك الجادة في جدوى الرأسمالية كنظام اجتماعي لم تكن غير عادية داخل طبقة واسعة من المثقفين الليبراليين حتى فترة ما بعد الحرب. بالنسبة للطلاب الذين اتبعوا نظاماً غذائياً من التوافق الفكري والسياسي ، قد يكون من المفاجئ جداً التقاط عدد من الكتابات السياسية لجون ديوي منذ أوائل العقد الثالث. لم يكن ديوي ماركسياً. لم يكن ثورياً. في الواقع ، لا يمكن اعتباره اشتراكياً إلا مع تحفظات شديدة. ولكن عند قراءته في سياق الركود والامتثال اليوم ، يبدو هذا العميد الموقر للتقليد الليبرالي القديم أكثر راديكالية مما كان عليه في أيامه ، وبالتأكيد أكثر شجاعة وبعيداً إلى اليسار من أي اتجاه يعرف نفسه اليوم على أنه ليبرالي أو حتى راديكالي .

إذا ذهب المرء إلى المكتبة وتصفح مجلداً من كتابات ديوي السياسية والاجتماعية ، فسوف يجد المرء فقرات من المحتمل أن تمنعه ​​، لو كان على قيد الحياة وكتب مثل هذه الأشياء اليوم ، من العمل في أي جامعة أمريكية كبرى ، أو على الأقل ، يحكم عليه بالعزل والتعتيم.

اسمحوا لي أن أذكر مقطعاً مميزاً واحداً كٌتب خلال فترة الكساد:

عندما تنتهي الأزمة الحالية في سماتها المثيرة الخارجية ، وعندما تعود الأمور إلى حالة أكثر راحة نسبياً تسمى 'الحياة الطبيعية'، فهل سينسون؟ هل سيهنئون أنفسهم برضا عن النفس على الكرم الذي خفف به المجتمع من الضائقة؟ أم أنهم سيحددون أسباب ضائقة البطالة وتعديل النظام الاجتماعي؟ إذا فعلوا الأول ، فسوف يتكرر وقت الاكتئاب عاجلاً أم آجلاً مع تجدد العنف حتى يتم تغيير النظام الاجتماعي بالقوة. البديل هو الاعتراف بمسؤولية المجتمع عن الشر كما أن الإرادة من خلال البصيرة المخطط لها والاختيار المتعمد يغير الهيكل الاقتصادي والمالي للمجتمع نفسه.

فقط التغيير في النظام سيكفل حق كل شخص في العمل ويمكّن الجميع من العيش بأمان[15].

مثل هذه الحقائق الواضحة نادراً ما يتم التحدث بها اليوم. إن مناقشة جميع الأسئلة الاجتماعية والسياسية قد أفسدتها كذبة عظيمة واحدة: تعريف الماركسية بأنها الستالينية. في يومنا هذا على وجه الخصوص ، يُعلن انهيار الاتحاد السوفيتي على أنه الدليل النهائي على أن الاشتراكية غير قابلة للحياة وأنه لا يمكن أن يكون هناك بديل للرأسمالية. التأثير السياسي لهذه الكذبة هو منع أي محاولة جادة للتعامل مع الأزمة الاجتماعية المتفاقمة. حتى عندما يتم الاعتراف بوجود هذه الأزمة ووصفها ، لا يتم تقديم حل جدي. خذ على سبيل المثال الكتاب الذي نشر مؤخراً من قبل الاقتصادي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ليستر ثورو ، مستقبل الرأسمالية. هذا الكتاب مليء بالبيانات الاقتصادية اللافتة للنظر التي تظهر بوضوح فشل الرأسمالية كنظام اجتماعي.

لكن ثورو لا يتوصل إلى هذا الاستنتاج. إنه من أولئك الذين يحرصون على فرض رقابة على نفسه. ومع ذلك ، يقدم ثورو توثيقاً صادماً لتزايد عدم المساواة والفقر العام. ويشير إلى أن جميع المكاسب التي تحققت في أرباح الذكور خلال الثمانينيات ذهبت إلى أعلى 20 في المائة من القوة العاملة. ذهب 64 في المائة من هذا المكاسب إلى أعلى 1 في المائة. ارتفع أجر المديرين التنفيذيين في قائمة الخمسمئة الأكثر ثراء من 35 إلى 157 ضعف رواتب عامل الإنتاج العادي. يلاحظ ثورو التراجع الكبير في الأجور الحقيقية للذكور خلال ربع القرن الماضي. على الرغم من ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 29 في المائة منذ عام 1973 ، فقد انخفض متوسط ​​الأجور بنسبة 11 في المائة. فقط أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة العليا وما فوقها شهدوا ، من حيث الدخل الحقيقي ،  تحسناً حقيقياً في مستويات معيشتهم خلال هذه الفترة الممتدة. من ناحية أخرى ، عانى أولئك الموجودون في الدرجات الدنيا بشكل رهيب. انخفضت الأجور الحقيقية للعمال الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة والعشرين والرابعة والثلاثين بمقدار الربع منذ أوائل العقد السابع من القرن الماضي. بالنسبة للعمال الشباب الذين تقل أعمارهم عن أربعة وعشرين عاماً ، ارتفعت نسبة الذين يكسبون أقل من مستوى الفقر الرسمي لأسرة مكونة من أربعة أفراد من 18 بالمائة في عام 1979 إلى 40 بالمائة في عام 1989.

ربما تكون الحقيقة الأكثر بروزاً التي قدمها ثورو هي ما يلي: يشير إلى أن الفترة بين 1950 وعام 2000 ، إذا استمرت الاتجاهات الحالية حتى نهاية هذا العقد ، ستمثل نصف القرن الأول في التاريخ الأمريكي عندما تكون مستويات المعيشة في الواقع انخفضت من حيث القيمة الحقيقية. يذكر ثورو أنه لا توجد سابقة فعلية للموجة الهائلة لتقليص حجم الشركات وإعادة الهيكلة التي كان لها مثل هذا التأثير الكارثي على مستويات المعيشة على طيف واسع جداً من السكان العاملين.

كان تأثير التقليص وإعادة الهيكلة قاسياً وطويل الأمد. فمن بين أولئك الذين فقدوا وظائفهم في الموجة الأولى من التقليص في العقد الثامن من القرن العشرين ، لم يدخل  ثانية  12 في المائة إلى القوة العاملة قط وظل 17 في المائة عاطلين عن العمل لمدة عامين على الأقل. ومن بين 71 في المائة أعيد توظيفهم ، حصل 31 في المائة على تخفيض في الأجور بنسبة 25 في المائة أو أكثر. يكتب ثورو أيضًا عن 'البروليتاريا المتخلفة' الآخذة في التوسع من الأشخاص المشردين والعاطلين عن العمل بشكل مزمن. 40 في المائة من الرجال غير المتزوجين المشردين كانوا في السجن.

لخص نمو الضائقة الاجتماعية وعدم المساواة على النحو التالي:

لم تشهد أي دولة لم تشهد ثورة أو هزيمة عسكرية مع احتلال لاحق زيادة سريعة أو واسعة النطاق في عدم المساواة كما حدث في الولايات المتحدة في العقدين الماضيين. لم يشهد الأمريكيون من قبل النمط الحالي لتخفيضات الأجور الحقيقية في مواجهة ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي].16[

وأخيراً ، استنتج ثورو:

في غياب أي رؤية يمكن أن تولد جهود إعادة الهيكلة الهائلة التي ستكون ضرورية للبدء في الحد من عدم المساواة ورفع الأجور الحقيقية ، ماذا يحدث؟ إلى أي مدى يمكن أن يتسع عدم المساواة وتنخفض الأجور الحقيقية قبل أن ينفجر شيء ما في الديمقراطية؟ لا أحد يعلم ، لأنه لم يحدث من قبل. لم يتم خوض التجربة أبداً [17].

السؤال الذي يطرح نفسه هو بالضبط لماذا لا توجد 'رؤية' لتوجيه نوع إعادة الهيكلة الاجتماعية الهائلة التي من الواضح أنها ضرورية للغاية. توضح الإجابة التي قدمها ثورو النقطة ذاتها التي سعيت إلى توضيحها في هذه المحاضرة. فقد كتب ، 'للرأسمالية ميزة حالية تتمثل في أنه مع موت الشيوعية والاشتراكية ، ليس لديها نظام اجتماعي معقول كمنافس نشط. من المستحيل أن تكون هناك ثورة على أي شيء ما لم تكن هناك أيديولوجية بديلة '. [18]

أوضح استنتاج ثورو تأثير تعريف هوية الستالينية بالاشتراكية. إن إعادة بناء حركة عمالية ثورية على أساس المبادئ الماركسية والتقاليد الاشتراكية الحقيقية تتطلب نضالًا عنيدًا ضد مزيفي التاريخ. سيتم كسب هذه المعركة ، لأنه إذا أثبت التاريخ أي شيء ، فهو ، على المدى الطويل ، الحقيقة أقوى من الأكاذيب.

[1] Lecture delivered on April 23, 1996 at Michigan State University in East Lansing.

[2] Available: http://www.nytimes.com/1996/03/24/books/the-seeds-of-his-own- destruction.html?pagewanted=all&src=pm.

[3] Ibid.

[4] V.I. Lenin, Collected Works, Volume 36 (Moscow: Progress Publishers, 1966) p. 595.

[5] Available: http://www.nytimes.com/1996/03/24/books/the-seeds-of-his-own- destruction.html?pagewanted=all&src=pm

[6] Ibid.

[7] See Appendices 1and 2 beginning on page 383.

[8] Writings of Leon Trotsky 1936–37, (New York: Pathfinder Press, 1978), pp. 173–174.

[9] Ibid., pp.179–80. Also available: http://www.youtube.com/watch?v=b3nD5bFm3Jg.

[10] The Nation, February 2, 1937.

[11] The New Republic, April 7, 1937, pp. 267–269.

[12] Jo Ann Boydston, ed., The Later Works of John Dewey, 1925–1953, Volume 11, (Carbondale: Southern Illinois University Press, 1987) p. 318.

[13] The Case of Leon Trotsky: Report of Hearings on the Charges Made Against Him in the Moscow Trails (New York: Merit Publishers, 1968), pp. 584-585.