العربية

أسطورة "الألمان العاديون": مراجعة لكتاب دانيال غولدهاغن ( جلادو هتلر الراغبون في القتل)

لقد مر أكثر من نصف قرن بقليل على انهيار الرايخ الثالث الهتلري ، ولا تزال البشرية تكافح من أجل السيطرة على إرثها من الرعب والوحشية. مشاهد القتل الجماعي التي تم الكشف عنها في ربيع عام 1945 مع افتتاح معسكرات الإبادة النازية هي صور لن تمحى من الوعي البشري. لكن لا يكفي أن الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في أوشفيتز وتريبلينكا وبيرجن بيلسن وبوخنفالد وداشاو لا ينبغي أن تُنسى أبداً. ولا يقل أهمية فهم مغزى تلك الجرائم ومعناها.

هنا نواجه مشكلة رهيبة فعلى الرغم كل ما قيل وكُتب عن الهولوكوست ، فإنه يظل حدثاً غامضاً بشكل غريب. صحيح أنه تم جمع قدر هائل من البيانات التجريبية حول الهولوكوست. ولدينا معلومات مفصلة حول كيفية قيام النازيين بتنظيم وتنفيذ ' حلهم النهائي' ،أي  قتل ستة ملايين يهودي أوروبي. ومع ذلك ، فإن القضايا الأساسية لفهم الهولوكوست و أصوله التاريخية ، وأسبابه السياسية ، وأخيراً مكانته في تاريخ القرن العشرين قد تم التعامل معها بشكل سيئ ، باستثناءات قليلة جداً. هذا في حقيقة الأمر حالة لا تطاق. السؤال الأساسي الواحد الذي طرحه الهولوكوست ، 'لماذا حدث ذلك؟' هو بالضبط ما يصعب الحصول على إجابة عليه.

تم تبرير هذا الموقف في كثير من الأحيان بالحجة القائلة بأن الهولوكوست حدث فظيع لدرجة أنه يتحدى التفسير المنطقي. إذا لم يعد من الممكن ، كما قال أدورنو ، كتابة الشعر بعد أوشفيتز ، فمن المفترض أيضاً أنه لم يعد من الممكن وضع ثقة كبيرة في قدرة االمؤرخين  على فهم القوى التي تحرك النشاط الاجتماعي  أو بشكل أكثر دقة ، نشاط  الإنسان المعادي للمجتمع. نٌظر إلى العلوم التاريخية والنظرية السياسية على أنها عاجزة في وجود مثل هذا الشر الذي لا يسبر غوره.

الهولوكوست واليأس.

وبالتالي ، بالنسبة لأولئك الذين يتبنون هذا الرأي ، لا يوجد شيء ذو أهمية كبيرة يمكن اكتسابه من دراسة الأسس الاقتصادية والبنية الطبقية والنضالات السياسية للمجتمع الأوروبي والألماني قبل مجيء الرايخ الثالث. ففي أحسن الأحوال ، لن يقدم مثل هذا النهج العلمي المادي أكثر من معلومات أساسية عن البيئة الاجتماعية العرضية التي اكتسبت فيها قوى الشر البشري ، التي استقرت في أعماق روح الإنسان أو نفسيته، الهيمنة ، كما يجب عليها حتماً، التغلب على كل قيد  ناتج عن التأثيرات الأخلاقية للحضارة.

في العقد الخامس  من القرن الماضي ، كتبت رواية عززت هذه الرؤية القاتمة لحالة الإنسان. أنا متأكد من أن معظمكم على دراية برواية 'سيد الذباب' لوليام جولدينج ، التي جادل فيها بأن الهمجية هي الشرط الطبيعي للبشرية. حرروا مجموعة من تلاميذ المدارس العاديين من القيود العادية للحضارة وسيعودون ، في غضون أسابيع قليلة ، إلى حالة القتل الوحشي. انبثق هذا العمل الكاره للبشر من الاستنتاجات التي توصل إليها غولدينغ من تجارب الحرب العالمية الثانية. وكتب لاحقاً: 'أي شخص مر خلال تلك السنوات ، دون أن يفهم أن الإنسان ينتج الشر كما تنتج النحلة العسل ، لا بد أنه أعمى أو لديه مشكلة في عقله'.[2]

عكست شعبية رواية سيد الذباب الحيرة واليأس الناجمين عن أهوال الحرب العالمية الثانية. تعزز هذا المزاج بالعلاقات السياسية التي نشأت في أعقاب الحرب. ففي الواقع أصبح من الصعب الدخول في مناقشة حول طبيعة الرايخ الثالث بعد عام 1945 عما كان عليه من قبل. ففي البيئة السياسية الرجعية للحرب الباردة ، لم يعد يُعتبر مناسباً، خاصة في الولايات المتحدة ، الإسهاب بجدية في العلاقة بين الفاشية والرأسمالية الحديثة.

وفي العقد الثالث من القرن الماضي ، أدرك الأشخاص المتعلمون سياسياً وذوي الوعي الطبقي أن صعود الفاشية الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى كان استجابة مباشرة من المجتمع الرأسمالي للأخطار الثورية التي شكلتها الحركات العمالية الاشتراكية الجماهيرية. لقد أظهرت الأمثلة الخاصة بإيطاليا موسوليني وألمانيا هتلر وإسبانيا فرانكو بوضوح شديد أن الفاشية كانت ، في جوهرها ، التعبئة السياسية المضادة للثورة للطبقات الوسطى الغاضبة ، لصالح الرأسمالية ، والبرجوازية الصغيرة ، ضدحركة  العمال الاشتراكية. فحين وصلت الفاشية إلى السلطة ، كفت الطبقة العاملة ع أن تكون موجودة كقوة سياسية واجتماعية منظمة.

وفي العقد الثالث  من القرن الماضي ، لم تكن العلاقة بين الرأسمالية والفاشية هي وحدها التي كانت مفهومة على نطاق واسع. ولطالما حذر الاشتراكيون من أن الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية ، التي دمرت الطبقات الوسطى ودفعت بها إلى أحضان الفاشية ، هددت اليهود بالإبادة الجسدية.

وكما كتب ليون تروتسكي عام 1940:

إن فترة ضياع التجارة الخارجية وتراجع التجارة الداخلية هي في نفس الوقت فترة اشتداد فظيع للشوفينية وخاصة معاداة السامية. في عصر صعودها ، أخرجت الرأسمالية الشعب اليهودي من الغيتو واستخدمته أداة في توسعها التجاري. إن المجتمع الرأسمالي المتحلل اليوم يسعى لإخراج الشعب اليهودي من كل مسامه. سبعة عشر مليون فرد من أصل ملياري شخص يسكنون الكرة الأرضية ، أي أقل من 1٪ ، لم يعد بإمكانهم العثور على مكان على كوكبنا! وسط مساحات شاسعة من الأرض وعجائب التكنولوجيا ، التي غزت أيضاً سماء الإنسان وكذلك الأرض ، تمكنت البرجوازية من تحويل كوكبنا إلى سجن قذر.[3]

لدرجة أن المناقشة الصريحة للأصول الحقيقية ، والقواعد الطبقية والأهداف السياسية للفاشية كانت مقيدة بالمصالح لسياسية السائدةلحكومة الولايات المتحدة ، ونشأ فراغ فكري شجع على تسلل المفاهيم غير التاريخية وغير العلمية تماماً عن الفاشية والرايخ الثالث والمحرقة. كان لهذا عواقب بعيدة المدى على الوعي الشعبي. فبعد أن تم انتزاع المحرقة من سياقها التاريخي والسياسي ، أصبحت المحرقة غير مفهومة. كان الوعي العام بالهولوكوست مشروطاً أكثر فأكثر بالإثارة الاستغلالية ، والتفاهات الأخلاقية الرخيصة ، والقلق الوجودي.

إذا كان يمكن استخلاص أي درس من الهولوكوست ، فهو أن الإنسان قادر ، إذا أعطي نصف فرصة فقط  على همجية لا توصف ؛ وأنه من الوهم أن نعتقد، بعد قتل ستة ملايين إنسان بدم بارد، في التقدم وكمال الإنسان. بهذه الطريقة ، تم استخدام الهولوكوست لتبرير الوضع الراهن بعد الحرب واستنكار النضال من أجل عالم أفضل.

لا أرغب في الإشارة إلى أنه لم يتم إنتاج أي أعمال ذات قيمة علمية على مدى الخمسين عاماً الماضية. كان هناك عدد من المؤرخين الذين قدموا دراسات بارزة حول جوانب مختلفة من النظام النازي والمحرقة. لكن الوعي العام بالكاد تأثر بالبحث الذي أجراه هؤلاء المؤرخون البارزون ، الذين لا يتم متابعة أعمالهم بشكل عام ، خاصة في الولايات المتحدة ، إلا من قبل المتخصصين في هذا المجال.

وإذا كان هذا فقط للفت الانتباه إلى المستوى المنخفض للوعي السياسي- التاريخي الحديث ، فاسمحوا لي أن أشير إلى أنه من غير المعتاد أن نجد في الأعمال المعاصرة للدراسات التاريخية أي إشارة على الإطلاق إلى كتابات ليون تروتسكي حول موضوع النازية بين عام 1930. وعام 1934 ، على الرغم من أنه لم يفهم أي رجل آخر في عصره بوضوح خطر الفاشية الألمانية وإمكاناتها التدميرية أكثر منه.

غولدهاغن والألمان

الأعمال التي تجذب أكبر قدر من الاهتمام هي بالتحديد تلك التي تترك دون منازع ، أو تعزز في الواقع ، أسوأ التحيزات والأفكار الخاطئة. إن كتاب دانيل غولدهاغن ناجح للغاية 'جلادو هتلر الراغبون في القتل و الألمان العاديون والمحرقة' وموقفهم من المحرقة يندرجون ضمن هذه الفئة.

يسهل تلخيص الموضوع الرئيسي لكتاب غولدهاغن. يكمن سبب الهولوكوست في عقلية ومعتقدات الألمان. مجموعة قومية ضخمة هي الشعب الألماني ، مدفوعة بأيديولوجية ألمانية فريدة معادية للسامية ، نفذت مشروع جرماني هو الهولوكوست. 

أصبح القتل المنظم لليهود هواية وطنية ، شارك فيها جميع الألمان الذين أتيحت لهم الفرصة بسرور وحماس.

قتل الألمان اليهود لأنهم استهلكوا ، كألمان ، من قبل معاداة السامية الجرمانية التي لا يمكن السيطرة عليها. شكلت كراهية اليهود أساس النظرة العالمية المقبولة عالميا للشعب الألماني .

كانت سياسة النظام ذات أهمية ثانوية فقط. أصر غولدهاغن على أن مصطلحات مثل 'النازيين' و 'رجال القوات الخاصة' هي 'تسميات غير مناسبة' لا ينبغي استخدامها عند الإشارة إلى القتلة. يبدو أن غولدهاغن يقترح أن العلاقة السببية الأساسية الوحيدة بين الرايخ الثالث وإبادة اليهود هي أنها سمحت للألمان بالتصرف ، دون قيود ، كألمان ، وفقاً للمعتقدات الألمانية.

كما كتب غولدهاغن:

أنسب تسمية ، بل في الواقع الاسم المناسب العام الوحيد للألمان الذين ارتكبوا الهولوكوست هو 'الألمان'. كانوا ألماناً تصرفوا باسم ألمانيا وقائدها ذو الشعبية العالية أدولف هتلر.[4]

حتى لا أصرف الانتباه عن تدفق رؤى غولدهاغن المذهلة ، لن أسهب في الحديث عن حقيقة أن هتلر نفسه كان نمساوياً ، أو أن نظرياته العنصرية كانت مسروقة من كتابات الكونت الفرنسي من القرن التاسع عشر، جوبينو ، أو أن بطله السياسي ، موسوليني ، كان إيطالياً ، أو أن كبير أيديولوجيه ، ألفريد روزنبرغ ، انحدر من إقليم بحر البلطيق في روسيا القيصرية ، أو أن أقرب رفيق هتلر ، رودولف هيس ، ولد في مصر.

بدلاً من التأمل في الآثار المترتبة على مثل هذه التناقضات المحرجة ، دعونا ننتقل بسرعة إلى استنتاج غولدهاغن:

لقد حركت معاداة السامية آلافاً من الألمان 'العاديين' ، وكانت ستحرك ملايين آخرين ، لو تم وضعهم بشكل مناسب ، لقتل اليهود. ليست المعاناة الاقتصادية ، ولا الوسائل القسرية للدولة الشمولية ، ولا الضغط النفسي الاجتماعي ، ولا الميول النفسية الثابتة ، ولكن الأفكار عن اليهود التي كانت منتشرة   في  ألمانيا ، وقد دفعت  على مدى عقود الألمان العاديين إلى قتل الرجال والنساء والأطفال اليهود العزل بالآلاف ، بشكل منهجي وبدون شفقة.[5]

باستخدام نسخة فجّة من نظرية المعرفة الكانطية ، جادل غولدهاغن مراراً وتكراراً بأن معاداة السامية كانت  تقريباًجزءاً لا يتجزأ من الجهاز المعرفي للألمان 'عقيدة اللا سامية' ، كما كتب ، 'لم يتم في الأساس تحديها في ألمانيا'.[6]

سأدرس بعض الشيء في وقت لاحق إلى حد ما الدرجة التي استندت إليها حجج غولدهاغن على الحقائق. لكن ، أولاً ، أود أن أبدي بعض الملاحظات حول طريقة تفكيره وتحليله.

السمة الأكثر شيوعاً للفكر المبتذل هي ميله إلى تبسيط واقع معقد ومتعدد الأوجه بتعريفات واسعة للغاية وغير متبلورة وأحادية البعد. يسعى الفكر العلمي إلى تحديد ودراسة العناصر المتنوعة والمتضاربة التي تتكون منها كل ظاهرة في تفاعلها المتبادل. ويحاول تطوير المفاهيم التي تعبر بدقة عن التعقيد ، أي الطبيعة المتناقضة للواقع الذي ينعكس في ذهن العالم.

من ناحية أخرى ، يلجأ التفكير المبتذل إلى تعميمات فارغة تتجاهل التناقضات الداخلية الأساسية التي تشكل بنية الظاهرة التي يفترض تحليلها. تُعرف هذه التعميمات الفارغة ، في الفلسفة ، بالهويات المجردة ، أي الهويات التي يُستبعد منها كل الاختلاف الداخلي. إنها مجردة ، بالمعنى السيئ للكلمة ، لأنها تمثل تصورات عقلية غير كافية للواقع . إن العالم المادي ببساطة لا يتكون من مثل هذه الظواهر غير المتمايزة داخلياً. 

كل 'هوية' تحتوي على اختلاف داخل ذاتها. هنا يكمن الخلل الأساسي للفكر المبتذل فهو يعمل بمفاهيم أحادية الجانب من أدنى مرتبة ، بهويات مجردة كهذه غير قادرة على تقديم تمثيل علمي وصادق للواقع. 

'الألمان العاديون'

يشار إلى الخلل المنهجي في كتاب البروفيسور غولدهاغن في عنوانه 'جلادو هتلر الراغبون في القتل : الألمان العاديون والمحرقة'. لنتوقف عند هذا الحد: ما المقصود بعبارة 'الألمان العاديون؟' لأولئك من الراغبين  في الحصول على مثال كتابي عن 'هوية مجردة' ، هذا هو الأمر.  لكن هذه فئة واسعة للغاية، ويمكنها أن تضم الجميع تقريباً  على الأرجح باستثناء الألمان من أصل يهودي. بعد كل شيء ، ما الذي يجعل أي ألماني بعينه 'عادياً'؟ هل هو مقاس كبير وولع بالسجق الالماني والسويربراتن ؟ هل هو شعر أشقر وعيون زرقاء وميل لأخذ حمام شمسي عراةً ؟ هل هي موهبة فلسفية مبهمة وشغف لمغني Wagnerian السوبرانو الذين يزنون 300 باوند؟ لا يمكن أن يكون لمفهوم مبني على مثل هذه الصور النمطية الحمقاء والتعسفية أي قيمة علمية في إدراك الواقع الموضوعي.

ولكن إذا حاولنا أن ندرج في تعريفنا خصائص اجتماعية أكثر جدية ، فإن عدم قيمة مفهوم 'الاعتيادية' يصبح واضحاً على الفور. ففي عام 1933 امتلك المجتمع الألماني بنية طبقية معقدة. هل كان 'الألماني العادي' في وقت وصول هتلر إلى السلطة عامل مصنع ، أو صاحب متجر مدمر ، أو عضو محبط من البروليتاريا الرخوة ، أو فلاحاً مثقلاً بالديون ، أو من فئة اليونكر من سادة الأرض في شرق بروسيا ، أو أحد أقطاب الصناعة؟

إذا تم تجميع كل هذه العناصر من الفئات الاجتماعية المتنوعة معاً بوصفهم  'الألمان العاديين' ، فهذا يعني ببساطة أن مفهوم 'الاعتيادية' لا يعكس التناقضات والصراعات الداخلية في المجتمع الألماني كما كان قائماً في عام 1933.  بالتالي، ما قدمه غولدهاغن  لقرائه ليس فحصاً علمياً للمجتمع الألماني كما تم تشكيله بالفعل في عام 1933 ، ولكن بالأحرى، وأنه لمن غير السار أن نقول هذا،صورة مثالية لمجتمع متماثل الجينات يدعم بشكل غير نقدي الأسطورة النازية عن الشعب الألماني الموحد ، الذي يحدده بالعرق والدم.

بعد اختيار مفهوم 'الألماني العادي' أساساً لتحليله بالكامل ، يضطر غولدهاغن إلى استبعاد أي شيء أو أي شخص من كتابه قد يشكك في صحة هذه الصورة النمطية. وكان رده على الشبح النازي المتمثل في ، اليهودي الأبدي ، كعدو لا هوادة فيه للشعب الألماني ، هو شبح ، الألماني الأبدي ، عدو الشعب اليهودي الثابت الذي لا يعرف الهوادة.

بعد أن افترض أمة بدون أي نوع من التمايز الداخلي ، بخلاف التقسيم الثابت بين الألمان واليهود ، اضطر غولدهاغن إلى فرض أمة بدون تاريخ حقيقي. لا توجد أي إشارة تقريباً إلى الأحداث والشخصيات التي حددت مسار التطور الألماني في الأعوام المئة التي سبقت وصول هتلر إلى السلطة.

غابت الحركة الاشتراكية، تقريباً، عن كتاب غولدهاغن . لم يتم العثور على إشارة واحدة ، في  هذا الكتاب المؤلف من 622 صفحة ، إلى كارل ماركس ، وفريدريك إنجلز ، وفرديناند لاسال ، وأوغست بيبل أو فيلهلم ليبكنخت. لم يتم العثور على كلمة واحدة عن القوانين المناهضة للاشتراكية لعام في 1878-1890 التي طبقها نظام بسمارك. كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أول حزب جماهيري في التاريخ ، و احتل بحلول عام 1912 أكبر عدد من المقاعد في الرايشستاغ الألماني ،و لم يُذكر إلا بشكل عابر. ولا توجد إشارة إلى ثورة 1918 أو لانتفاضة رابطة سبارتاكوس.

لا يمكن تفسير هذه الإغفالات على أنها سهواً. لا يستطيع غولدهاغن التعامل مع الحركة الاشتراكية الألمانية لأن وجودها التاريخي يمثل تفنيداً لنظريته بأكملها. مع ذلك ، وبدون فحص ظهور الحركة العمالية الاشتراكية الألمانية ، من المستحيل فهم طبيعة وأهمية معاداة السامية الحديثة.

معاداة السامية السياسية

من المؤكد أن العداء لليهود ليس ظاهرة حديثة ، ناهيك عن أن تكون ظاهرة محصورة في ألمانيا. ولكن في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر فقط ظهرت معاداة السامية كحركة سياسية متميزة وقوية ، ليس فقط في ألمانيا ، ولكن في عدد من البلدان الأوروبية. لا جدال في أن نمو الحركات السياسية المعادية للسامية كان متجذراً في العمليات الاجتماعية المعقدة المتعلقة بتطور الرأسمالية الصناعية الحديثة.

كان أهمها ظهور طبقة اجتماعية جديدة وقوية للغاية ، هي البروليتاريا الصناعية. فبحلول العقد السابع من  القرن التاسع عشر ، وبالتأكيد بعد كومونة باريس عام 1871 ، تم الاعتراف بوجود طبقة عاملة جماهيرية ، متأثرة بشكل متزايد بالأيديولوجية الاشتراكية ،  بوصفها تهديد ثوري محتمل للمصالح الرأسمالية.

رداً على هذا الخطر ، سعت الطبقات المتميزة، البرجوازية وملاك الأراضي الذين لا يزال من أصحاب المصالح القوية إلى تنمية قاعدة جماهيرية للدفاع عن النظام الاجتماعي القائم. ومن المفارقات أن القاعدة الجماهيرية للدفاع عن الرأسمالية ضد الحركة العمالية الاشتراكية انبثقت من عناصر الطبقة الوسطى التي تم تقويض وضعها الاجتماعي والاقتصادي بشكل مطرد بسبب عمليات التطور الصناعي الحديث.

بدأ الكساد الحاد في ألمانيا في عام 1873 مع انهيار سوق الأسهم المذهل الذي ألحق خسائر فادحة بشكل خاص بمدخرات مستثمري الطبقة الوسطى. تطورت المشاعر الجماعية ضد سياسات بسمارك القائمة على التجارة الحرة وسياسة عدم التدخل بسرعة إلى حد ما. إن التورط المؤسف لعدد كبير من المضاربين اليهود في الفضائح التي أحاطت بانهيار سوق الأوراق المالية قد وفر بؤرة لغضب الطبقات الوسطى المشوشة.و في هذه الحالة ، اكتست مماهاة اليهودي بشرور الرأسمالية الحديثة أهمية سياسية جديدة.

مما لا شك فيه أن حساسية  جماهير البرجوازية الصغيرة لمثل هذه النداءات قد سهلتها التحيزات الدينية القديمة. لكن الظروف المحددة ، التي أوجدها التطور الرأسمالي ، وجهت هذه التحيزات القديمة إلى خطوط رجعية للغاية ومنحتها قوة مدمرة رهيبة.

اكتسب الكتاب المعادون للسامية مثل أوتو جلاغو ورودولف ماير وويلهلم مار ، الذين صوروا اليهود على أنهم تجسيد للجشع الرأسمالي ، جمهوراً كبيراً بين الفئات اليائسة في الطبقة الوسطى الألمانية من التجار الصغار والحرفيين والعاطلين عن العمل والمهنيين المتعصبين.

إن الجهد المبذول لتوجيه المشاعر المشوشة المناهضة للرأسمالية للفئات الوسطى من المجتمع  الألماني وتحويله إلى غضب ضد اليهود قد وجد له أرضية سهلته نتيجة  التحسينات الهامة في الوضع الاجتماعي لليهود الألمان خلال القرن التاسع عشر.  وكتب المؤرخ روبرت ويستريتش ، 'بحلول العقد السابع من  القرن التاسع عشر ، ظهر اليهود كبورجوازيين بامتياز في مجتمع لم يكن بعد  بورجوازياً بشكل كامل ، بوصفهم مجددين مبتكرين في أمة لم يتم تحديثها بعد.' [7]

ووفقاً للأرقام التي قدمها فيستريش ، كان 22٪ من الموظفين العاملين في البنوك وبورصات الأوراق المالية عام 1882 من اليهود. و في وقت مثل فيه اليهود أكثر بقليل من واحد في المئة من السكان الألمان ، لكنهم مثلوا 43.25 في المئة من مالكي ومديري المؤسسات المصرفية والائتمانية. سيطراليهود على بعض أعظم البنوك في ألمانيا ، مثل بنك بليشرودر في برلين ، واربورغ في هامبورغ ، وأوبنهايم في كولن وروتشيلد في فرانكفورت. في أوائل القرن العشرين ، لاحظ الخبير الاقتصادي الشهير فيرنر سومبارت أن 25 في المائة من أعضاء مجالس الإدارة في عشرة فروع رئيسية للصناعة الألمانية كانوا من اليهود. 

ومن السمات المهمة الأخرى لنجاح يهود ألمانيا موقعهم البارز في المهن التي تتطلب مهارة. فبحلول عام 1882 ، كان 11.7 بالمائة من جميع الأطباء ، و 8.6 بالمائة من الصحفيين و 7.9 بالمائة من جميع المحامين من اليهود. كما تشير هذه الأرقام ، كان الشباب اليهود يدرسون في الكليات بأعداد كبيرة.

قدم هذا النجاح أسباباً إضافية للنداءات المعادية للسامية نتيجة تقلقل أوضاع الفئات الوسطى  الألمانية ، التي استاءت من المنافسة اليهودية.

في عصر مبكر ، ركزت المشاعر المعادية لليهود على سمات اليهود الحصرية المفترضة ، ودور دينهم وتقاليدهم في جعلهم منفصلين عن عامة الشعب. احتجت معاداة السامية السياسية الجديدة الآن على الاندماج المفرط لليهود في الحياة الوطنية. وكانت هذه الاحتجاجات مدعومة بنظريات عرقية علمية زائفة سادت شائعة جداً في أواخر القرن التاسع عشر. وترافقت الدعوات الديماغوجية للنضال ضد الرأسمالية اليهودية مع نداءات هستيرية للدفاع عن العرق الجرماني ضد خطر الهيمنة السامية. وأعلن فيلهلم مار أن 'الصراع بين' السامية 'والجرمانية كان' مصيراً تاريخياً عالمياً 'لا رجوع فيه.[8]

لم تكن معاداة السامية السياسية محصورة في ألمانيا حيث تطورت ظاهرة مماثلة في فرنسا، نظر مؤيدوها إلى معاداة السامية باعتبارها الوسيلة الأكثر فاعلية لتعبئة الدعم الجماهيري ، ليس فقط ضد البروليتاريا الاشتراكية الناشئة ، ولكن أيضا ضد جميع عناصر الديمقراطية الليبرالية. فعلى أساس معاداة السامية ، كان من المقرر تشكيل إجماع وطني جديد يتجاوز الانقسامات الطبقية التي أوجدتها عملية التصنيع الرأسمالي الذي استندت إليها الدعوة الاشتراكية. كما أن المنظر الرجعي ، موريس ، تصور معاداة السامية  بوصفها وسيلة لإعادة دمج البروليتاريا في جسد الأمة فكتب: 'على المرء أن يقمع البروليتاريا'. 'يجب على المرء أن يعطي هؤلاء الناس شيئاً ما للدفاع عنه ، وشيئاً ما  ليتغلبون عليه'. كان من المقرر أن يتحقق هذا المشروع القومي من خلال الثورة المعادية لليهود.

أعلن الرجعي اللدود تشارلز موراس أنه لا يمكن تحقيق وحدة وطنية متكاملة بدون استخدام معاداة السامية ، التي سهلت قمع العداوات الطبقية. ' بدا كل شيء مستحيلاً أو صعباً للغاية بدون المظهر الإلهي لمعاداة السامية فهي  تسمح بترتيب كل شيء وتنعيمه وتبسيطه. إذا لم يكن المرء معادياً للسامية على أساس النزعة الوطنية ، فسيصبح كلك من خلال إحساس بسيط بوجود هذه الفرصة '.

كانت هذه هي الخلفية الأيديولوجية التي انفجرت على أساسها قضية دريفوس في فرنسا عام 1894. أصبح ضابط الجيش اليهودي الثري المتهم زوراً بالتجسس لصالح ألمانيا مركزاً للتحريض اللاذع المعاد للسامية. وشهدت أكثر من سبعين بلدة ومدينة أعمال شغب معادية لليهود من قبل الغوغاء الذين صرخوا ، 'الموت لليهود!' وتعرضت المعابد للهجوم ونهب المتاجر المملوكة لليهود وتعرض اليهود للضرب في الشوارع.

كما هو الحال في ألمانيا ، استمدت الحركة المعادية للسامية دعمها الشعبي بشكل أساسي من الطبقة الوسطى ، لا سيما من أصحاب المتاجر وشرائح أخرى من الشركات الصغيرة والهامشية. لا توجد إشارات إلى قضية درايفوس أو الحركات المعادية للسامية في فرنسا في كتاب الأستاذ غولدهاغن.

إن الفرضية المركزية لجلادي هتلر الراغبين في القتل هي أن معاداة السامية كانت مقبولة عالمياً من قبل جميع شرائح المجتمع الألماني. ذهب البروفيسور غولد هاغن إلى حد الإصرار على أنه لا يوجد دليل وثائقي مهم أو موثوق به على وجود أدنى معارضة لمعاداة السامية في ألمانيا. إن إمكانية الإدلاء بمثل هذا البيان في كتاب يزعم أنه عمل بحث علمي أمر مذهل.

نضال الاشتراكية الديمقراطية ضد معاداة السامية

إن تاريخ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية ، في السنوات التي مثلت فيها حركة جماهيرية ثورية للطبقة العاملة ، من العقد السابع من  القرن التاسع عشر إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914 ، هو تاريخ نضال مستمر ضد معاداة السامية. اقتضت مقتضيات النضال السياسي في الطبقة العاملة موقفاً عنيداً تجاه جميع أشكال الدعاية المعادية للسامية. وبصرف النظر عن المبادئ الديمقراطية والاعتبارات الأخلاقية ، رأى الحزب الاشتراكي الديمقراطي أن ارتباط معاداة السامية بالخطاب الديماغوجي المناهض للرأسمالية محاولة لإرباك الطبقة العاملة وإخضاعها للممثلين السياسيين للطبقة الوسطى.

سعى تشكيل أدولف ستويكر لحزب العمال الاجتماعي المسيحي المعاد للسامية بشكل صريح إلى استخدام اصطياد اليهود، وسيلة لإبعاد الطبقة العاملة عن الاشتراكية الديمقراطية  ذات النفوذ المتزايد، وحتى إن  كانت غير قانونية. ففي إطار معارضة لستويكر ، شنت الاشتراكية الديمقراطية حملة قوية لتثقيف الطبقة العاملة بالطبيعة الرجعية لمعاداة السامية. في البيان الرسمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي لانتخابات عام 1881 ، أعلن الحزب:

أصبحت  فضيحة الاضطرابات المعادية للسامية ممكنة لأول مرة بعد قانون مناهضة الاشتراكية. أنهم لم يفترضوا أن مدى المطاردة العامة لليهود يرجع فقط إلى الاشتراكيين الديمقراطيين ، الذين حذروا الطبقة العاملة من هذا النشاط المشين، النابع من الدوافع الأسوأ ... [11]

كان للهجوم المضاد الذي شنه الحزب الاشتراكي الديمقراطي تأثيراً سياسياً وأخلاقياً كبيراً على الطبقة العاملة. تم تفريق التجمعات المعادية للسامية من قبل العمال ، وتعرض ستويكر للسخرية. وجدت معارضة الحزب الاشتراكي الديمقراطي لمعاداة السامية رمزاً قوياً في اختياره لرجل الأعمال اليهودي الاشتراكي ، بول سينغر ، مرشحاً للرايشستاغ في منطقة مهمة في برلين. زفي انتخابات عام 1887 ، حصل سنجر على أصوات أكثر من أي مرشح آخر في المدينة.

كتب فيستريش: 

كانت معارضة معاداة السامية وسام شرف للحركة العمالية. ... إن الحملة الشرسة التي شنها الاشتراكيون الديمقراطيون الألمان ضد حركة أدولف ستويكر في برلين أدت إلى حد كبير إلى تحصين الطبقة العاملة ضد معاداة السامية. لم يقض  هذا على التحيز ضد اليهود في الحركة العمالية ولكنه همشها سياسياً. كان النضال ضد ستويكر كفاحاً في سبيل الاشتراكية الديمقراطية ، وتأكيداً على الحقوق الديمقراطية للطبقة العاملة نفسها.[12]

إن الدور الذي لعبه الحزب الاشتراكي الديمقراطي في النضال ضد معاداة السامية منحه في النهاية دعماً واسعاً من شريحة واحدة من السكان الألمان نظرت إلى أنشطتها على مدى سنوات عديدة بتحفظ ملحوظ ، وهي الطبقة الوسطى اليهودية. وعلى الرغم من الدور الهام الذي لعبه قسم صغير ولكنه مهم من المثقفين اليهود الألمان منذ الأيام الأولى للحركة الاشتراكية ، فإن الغالبية العظمى من الطبقة الوسطى والبورجوازية اليهودية ، ظلت لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية الشخصية الفجة ، ظلت في معزل عن الاشتراكية الديمقراطية. وهناك سبب إضافي وراءالموقف العدائي الذي تبناه العديد من اليهود تجاه الحزب الاشتراكي الديمقراطي تمثل في  الرغبة ، التي ولدت ربما بسبب انعدام الأمن الداخلي ، في إظهار ولائهم لنظام القيصر فيلهلم، بأكبر قدر ممكن من التباهي.

ومع ذلك ، بحلول مطلع القرن ، أصبح من المستحيل على اليهود الألمان تجاهل حقيقة أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي هو الوحيد الذي عارض معاداة السامية بشكل قاطع. ففي الواقع ، كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي هو الحزب الوحيد الذي اختار يهوداً مرشحين عنه  في الرايشستاغ.و في انتخابات 1903 ، فاز الحزب الاشتراكي الديمقراطي ، ولأول مرة ، بجزء كبير من أصوات اليهود الألمان.

هذا ، بالمناسبة ، عنصر مهم آخر في التاريخ السياسي لألمانيا قبل عام 1933 لم يشر إليه البروفيسور غولدهاغن.

معاداة السامية في روسيا القيصرية  

نتيجة لنضال الحزب الاشتراكي الديمقراطي ، انخفض التأثير السياسي للأحزاب المعادية للسامية بشكل حاد بين منتصف العقد التاسع من القرن التاسع عشر واندلاع الحرب العالمية الأولى. في السنوات الأولى من القرن العشرين ، اندلعت أعنف حملات معاداة السامية ليس في  ألمانيا ، ولا حتى في فرنسا ، ولكن في روسيا.

كانت المذابح الدموية التي حدثت في روسيا بمثابة رد مباشر من النظام القيصري على الحركة الثورية المتنامية للطبقة العاملة. رعت الحكومة تشكيل فرق شبه عسكرية يمينية ، تُعرف باسم المئة السود ، لإرهاب الطبقة العاملة.

كتب المؤرخ أورلاندو فيجس:

كما هو الحال مع الحركات الفاشية في أوروبا ما بين الحربين ، جاء معظم دعم تلك الحركات من تلك العناصر المتخلفة  المليئة بالمرارة التي إما فقدت ، أو كانت خشيت أن تفقد ، وضعها البرجوازي الصغير  في التسلسل الهرمي الاجتماعي نتيجة للتحديث والإصلاح مثلا الفلاحين المقتلعين الذين أُجبروا على دخول المدن كعمال مياومين؛ وأصحاب المتاجر الصغيرة والحرفيون الذين تعرضوا لضغوط بسبب المنافسة من الشركات الكبرى ؛ والمسؤولون ورجال الشرطة من الرتب الدنيا ... والوطنيون بجميع أنواعهم منزعجون من مشهد العمال 'المبتدئين' والطلاب واليهود الذين تحدوا سلطة القيصر التي منحه إياها الرب .[13]

رد نظام القيصر نيقولا الثاني على الحركة الثورية عام 1905 بإطلاق موجة من الرعب كان اليهود هدفاً رئيسياً لها. وفي الأسبوعين اللاحقين لإصدار بيان القيصر في أكتوبر 1905 ، الذي تعهد بدعم إنشاء المؤسسات الديمقراطية ، وقعت 690 مذبحة. قُتل ثلاثة آلاف يهودي خلال هذه الفترة. وأودت مذبحة أوديسا بحياة 800 يهودي. وجٌرح خمسمئة وشرد أكثر من 100 ألف شخص. سرعان ما ثبت أن المذابح تم تنظيمها بمساعدة مباشرة من الحكومة.  تم وصف الآليات السياسية للمذابح في إحدى الصحف الاشتراكية في ذلك الوقت:

الصورة القديمة المألوفة! الشرطة تنظم المذبحة مسبقاً. حرّضت الشرطة على ذلك: فق طبعت منشورات في مكاتب الطباعة الحكومية دعت إلى ذبح اليهود. ولما تبدأ المذبحة ، تكون الشرطة غير نشطة. تنظر القوات بهدوء إلى مآثر المئة السود. لكن في وقت لاحق ، تسهم  هذه الشرطة بالذات في مهزلة ملاحقة ومحاكمة مرتكبي المذابح. تنتهي التحقيقات والمحاكمات التي يجريها مسؤولو السلطة القديمة دائماً بالطريقة نفسها: تطول القضايا، ولا يُدان أي من مرتكبي المذابح ، وفي بعض الأحيان يتم عرض اليهود والمثقفين الذين تعرضوا للضرب والتشويه أمام المحكمة ، وتمر شهور ويتم نسيان القصة القديمة ، المتجددة دوماً ، حتى المذبحة التالية[14].

كاتب هذا المقال ، الذي كتب في يونيو 1906 ، هو لينين. 

بدلاً من السماح لأطروحته عن تفرد معاداة السامية الألمانية بأن تتأثر بتدخل الحقائق التاريخية ، يتجنب غولدهاغن ببساطة أي إشارة إلى أسوأ حالات اندلاع العنف ضد اليهود في أوروبا قبل تأسيس الرايخ الثالث.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، التي انتهت باندلاع الثورة في ألمانيا وانهيار نظام هوهنزولرن الملكي ، أصبح استخدام معاداة السامية كأداة للتنظيم السياسي مرة أخرى عاملاً جادًا. كانت قوة معاداة السامية ، التي لعبت دورًا رئيسيًا في دعاية النازيين ، متناسبة بشكل مباشر مع يأس البرجوازية الصغيرة والارتباك السياسي للطبقة العاملة.

لقد أصيبت البرجوازية الصغيرة بصدمة ودمرت بسبب الأحداث التي أعقبت هزيمة ألمانيا في الحرب. جمهورية فايمار ، التي تأسست على أساس ثورة محصورة، ترنحت من أزمة إلى أخرى.

كتب تروتسكي:

أصابت فوضى ما بعد الحرب الحرفيين والباعة المتجولين والموظفين المدنيين بقسوة لا تقل عن القسوة التي أصابت العمال. ... ففي الحرارة البيضاء للجو الذي تسببت فيه الحرب والهزيمة والتعويضات والتضخم واحتلال الرور والأزمات والحاجة واليأس ،  انتفضت البرجوازية الصغيرة  ضد كل الأحزاب القديمة التي خدعتها. إن المظالم الحادة لأصحاب الأعمال الصغيرة لم تنج أبداً من الإفلاس ، وكذلك كان حال أبنائهم الجامعيين الذين ليس لديهم وظائف ، وبناتهم بلا مهور ولا خاطبين ، لذا طالبوا بالنظام واستخدام قبضة  من حديد .[15]

معاداة هتلر للسامية

لقد عبّر هتلر عن اليأس والقلق والصدمات التي عانت منها هذه الأوساط ، التي خشيت إلى الأبد من الانزلاق إلى صفوف البروليتاريا. كان هتلر نتاجاً للطبقة الوسطى الدنيا ، وقد أمضى سنوات تكوينه في فيينا ، حيث تشكلت نظرته للعالم من خلال الصحافة اليمينية الرخيصة وحيث اكتسب كراهيته المستمرة للطبقة العاملة والاشتراكية. كانت معاداة هتلر للسامية ، وفقاً للكاتب الألماني المناهض للفاشية ، كونراد هايدن ، نتيجة ثانوية لكراهيته المتعصّبة للبروليتاريا.

أوضح هايدن موقف هتلر بالعبارت التالية:

كره هتلر كل المجال العظيم للوجود الإنساني المكرس للانتقال المنتظم للطاقة إلى منتج ؛ وكان يكره الرجال الذين سمحوا لأنفسهم بالإمساك بهم وسحقهم في عملية الإنتاج هذه. طوال حياته ، كان العمال بالنسبة له صورة مرعبة ، كتلة مروعة كئيبة ... كل ما قاله لاحقاً من منصة المتحدث لإغراء العامل اليدوي كان أكاذيب محضة.[16]

وهنا يكمن المفتاح لفهم هوس هتلر الشيطاني باليهود. شرح هتلر في كتابه كفاحي كيف أن تحوله إلى معاداة السامية جاء نتيجة لقاءاته مع الحركة العمالية. كان أول اتصال هتلر باليهود عن طريق العمال. اكتشف بعد ذلك ، بدهشه ، أن العديد من اليهود لعبوا أدواراً بارزة في الحركة العمالية. كتب هايدن: 'اتضح الأمر في نظره'. فجأة اتضحت 'المسألة اليهودية'. ... الحركة العمالية لم تعارضه إلا لأنها كانت بقيادة يهود. لقد صده اليهود لأنهم قادوا الحركة العمالية '[17]

وخلص هايدن إلى أن هناك شيئاً واحدا مؤكداً ، 'لم يكن روتشيلد ، الرأسمالي ، بل كارل ماركس ، الاشتراكي ، الذي أشعل معاداة أدولف هتلر للسامية.' [18]

لو درس البروفيسور غولدهاغن سيرة هايدن عن هتلر بعناية ، لكان من الممكن أن يستفيد فكرياً . لكنه ربما كتب بعد ذلك عملاً مختلفاً تماماً ، الذي ربما لم يكن ليحقق أرباحاً مالية كبيرة مثل كتاب جلادي هتلر المستعدين. ففي الحياة ، يتخذ المرء الخيار الذي أراده.

كانت معاداة السامية بلا شك قوة فعالة في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك ، وبغض النظر عن مزاعم غولدهاغن ، فإن كراهية اليهود لا تستطيع ، بحد ذاتها ، أن توفر القاعدة السياسية اللازمة لصعود هتلر إلى السلطة. لم يصل النازيون إلى السلطة عن طريق ركوب موجة لا تُقاوم من معاداة السامية حيث أثبتت الدراسات الدقيقة للقواعد الاجتماعية للحزب النازي أن جاذبية معاداة السامية ظلت محدودة قبل عام 1933. ففي الواقع ، اكتشف النازيون أن معاداة السامية فقدت بالفعل من جاذبيتها في مناطق معينة من ألمانيا ، وتم توجيه القادة المحليين إلى كبح جماح نقدهم اللاذع المعادي لليهود ، بل وحتى ، في بعض الأحيان ، تم استبعاد جميع الإشارات المعادية للسامية من خطاباتهم.

على أي حال ، فإن قياس كمية معاداة السامية التي كانت قائمة في ألمانيا عام 1933 لن يفسر انتصار النازيين. فعلى الرغم من أن انتشار معاداة السامية مثير للاشمئزاز ، إلا أنه كان عاملاً واحداً فقط ولم يكن الأهم بأي حال من الأحوال  في الحياة السياسية في ألمانيا. إن النظام السياسي ، سواء أكان يمينياً أم يسارياً ، ليس مجرد نتاج مجموع كل تحيزات وأحقاد السكان. إنه، في التحليل النهائي ، تعبير عن علاقة معينة تم تشكيلها في سياق الصراعات الاجتماعية والسياسية بين الطبقات الرئيسية في المجتمع. وفي محصلة  تلك النضالات ، تعتبر شخصية القيادة السياسية للطبقات المتصارعة ، والبرنامج الذي تستند إليه هذه النضالات ، عوامل حاسمة.

إذا كان من الممكن تحديد الكمية الدقيقة لمعاداة السامية في أي بلد ، فإن مثل هذا القياس سيثبت على الأرجح أن هذا السم لم يكن أقل وفرة في روسيا عام 1917 مما كان عليه في ألمانيا عام 1933. ومع ذلك ، لعبت الحسم السياسي والوضوح لدى البلاشفة دوراً حاسماً في تمكين الطبقة العاملة من ترسيخ سلطتها السياسية على قطاعات كبيرة من البرجوازية الصغيرة الحضرية والريفية ، تلك الشريحة ذاتها من المجتمع التي لم تكن معروفة بتعاطفها مع اليهود. 

ولم تنته نضالات عام 1917 في روسيا بانتصار الفاشيين ، ولكن بانتصار الاشتراكيين السياسي.

هزيمة الثورة الألمانية

لم يكن انتصار الفاشية نتاجاً مباشراً وحتمياً لمعاداة السامية ، بل نتيجة لعملية سياسية شكلها الصراع الطبقي. ففي تلك العملية ، كان العامل الحاسم هو أزمة الحركة الاشتراكية الألمانية ، التي كانت ، كما يجب الإشارة إليه، جزءاً من أزمة سياسية أوسع في الاشتراكية الدولية.

لم يكن صعود هتلر لا يقاوم كما أن انتصاره لم يكن حتميا. لم يتمكن النازيون من الوصول إلى السلطة إلا بعد أن أظهرت الأحزاب الاشتراكية والشيوعية الجماهيرية نفسها ، خلال فترة ما بعد الحرب بأكملها ، بوصفها مفلسة سياسياً وغير قادرة تماماً على تزويد الجماهير المذهولة بطريقة للخروج من الكارثة التي تسببت بها  الرأسمالية.

لا يسعنا إلا أن نستعرض بإيجاز أزمة الحركة العمالية الألمانية في إطار هذه المحاضرة.

ففي أغسطس 1914 ، وقت اندلاع الحرب العظمى ، تخلت الاشتراكية الديمقراطية عن مبادئها الثورية وصوتت لدعم اعتمادات الحرب للحكومة الألمانية. هذه الخيانة ، كانت نتاج سنوات من الانحطاط الانتهازي ، و شكلت نهاية الحزب الاشتراكي الديمقراطي كحزب ثوري. فمن تلك النقطة فصاعداً ، عملت الاشتراكية الديموقراطية بشكل أكثر علنية بوصفها دعامة للحكم البرجوازي. تم تأكيد دخول الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى معسكر البرجوازية من خلال أحداث 1918-1919.

كرست الحكومة الاشتراكية الديمقراطية التي وصلت إلى السلطة من خلال ثورة نوفمبر 1918 نفسها بالكامل لنزع السلاح السياسي والمادي للطبقة العاملة والحفاظ على الحكم الرأسمالي. ففي يناير 1919 ، نظمت قمع انتفاضة سبارتاكوس وأجازت قتل كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ.

قدم انتصار الثورة البلشفية الإلهام السياسي لتأسيس الحزب الشيوعي الألماني لكن ، منذ البداية ، ابتلي الحزب بأزمة لا تنتهي في القيادة السياسية. بمعنى ما ، لم يتعاف الحزب أبداً من خسارة روزا لوكسمبورغ. لم يكن هناك قائد ذو خبرة ومهارة مماثلة ليحل محلها. إن تطوير القيادة السياسية الثورية ، كما أثبتت تجربة الحزب البلشفي ، هو عملية طويلة وصعبة تتطلب سنوات وليس شهوراً.

وهكذا ، كان الحزب الشيوعي الألماني غير مستعد تماماً للأزمة الثورية التي برزت في عام 1923 ، في أعقاب الاحتلال الفرنسي لمنطقة الرور.كما  أدى اندلاع التضخم الجامح إلى تدمير الطبقات الوسطى ، وتقويض سلطة الاشتراكية الديمقراطية الإصلاحية ، وأدى إلى تصاعد قوي في دعم الحزب الشيوعي الألماني.

كانت جميع شروط الثورة الاجتماعية متوفرة في ألمانيا باستثناء واحدة أي  قيادة ناضجة وحاسمة سياسياً. وحين وصلت الأزمة إلى ذروتها في أكتوبر 1923 ، كان من المتوقع على نطاق واسع أن يحاول  الحزب الشيوعي الألماني تنظيم الإطاحة بحكومة فايمار. وفي الواقع ، تمت صياغة خطط التمرد ، ليتم إلغاؤها في اللحظة الأخيرة من قبل القيادة المترددة وغير الحاسمة للحزب الشيوعي الألماني.  في هامبورغ ، حيث لم يتم إبلاغ العمال الشيوعيين بتغيير الخطط ، وبدأ التمرد، لكن تم قمع هذا العمل المنعزل بسهولة. واستعادت الحكومة البرجوازية ، التي كانت مقتنعة قبل أيام فقط أن الإطاحة بها حتمية ، أعصابها. ومرت الأزمة واستقر الحكم البرجوازي.

وفي السنوات التي تلت ذلك ، تشكلت الحياة السياسية للحزب الشيوعي الألماني من خلال التأثير المتزايد للبيروقراطية الستالينية في الاتحاد السوفيتي وقمع المعارضة اليسارية بقيادة ليون تروتسكي. كان لانتصار الستالينية في الاتحاد السوفياتي عواقب مأساوية على الحزب الشيوعي الألماني وعلى الطبقة العاملة.

انتهت الفترة القصيرة من الاستقرار والازدهار التي أعقبت هزيمة الطبقة العاملة في عام 1923 بانهيار وول ستريت في أكتوبر 1929 وبداية الكساد العالمي. انهارت الصناعة الألمانية ، وفقد الملايين وظائفهم ودمرت الطبقة الوسطى. كانت هذه هي الظروف التي مكنت الحزب النازي من الحصول على دعم جماهيري بسرعة كبيرة.

صعود هتلر إلى السلطة

لكن كلاً من الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الشيوعي الألماني ، أي المنظمتين السياسيتين للطبقة العاملة ، ظلا عاملين  هائلين في السياسة الألمانية حيث حظي  هذان الطرفان بولاء ملايين العمال. وفي مواجهة خطر الثورة المضادة الفاشية ، كانت المهمة الإستراتيجية الملحة للحركة العمالية هي توحيد قواها في صراع مشترك ضد النازيين.

ومع ذلك ، التزم قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالدفاع عن نظام فايمار البرجوازي ، وعارضوا كل تعاون سياسي مع الحزب الشيوعي الألماني ، حتى بغرض تنظيم دفاع موحد ضد هجمات القمصان البنية. وعلى الرغم من الموقف المعرقل للاشتراكيين الديمقراطيين ، كانت مهمة الحزب الشيوعي الألماني هي دعوة قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي لقبول ،  الحاجة إلى عمل موحد من قبل كلا الحزبين ضد الخطر النازي بغض النظر عن الاختلافات السياسية. 

ومع ذلك ، التزم الحزب الشيوعي الألماني ،  اتباع تعليمات ستالين ، خطاً سياسياً لصالح الاشتراكيين الديمقراطيين والفاشيين. وفي عام 1928 ، بعد عام واحد من طرد تروتسكي والمعارضة اليسارية من الحزب الشيوعي والأممية الشيوعية ، أعلن الستالينيون فجأة بداية ما سمي بالفترة الثالثة من المعارك الثورية الحاسمة. تم تقديم هذه السياسة إلى حد كبير لاستكمال وتبرير  التجميع الزراعي في الاتحاد السوفياتي. ففي تطبيقها العملي ، تألفت الفترة الثالثة من شجب الاشتراكيين الديمقراطيين على أنهم ليسوا أكثر من ملحق للفاشية. وهكذا ،  أصر الستالينيون في ألمانيا على أن الجبهة الموحدة مع الديمقراطية الاشتراكية غير مسموح بها ، لأن الأخيرة ما كانت سوى الجناح اليساري للفاشية. وأطلق على الاشتراكيين الديمقراطيين لقب 'الفاشيين الاشتراكيين'.

كانت نتيجة هذه السياسة غير المسؤولة إلى حد الإجرام  ، والتي كانت قريبة من الجنون ، أنها استبعدت تقريباً إمكانية نضال موحد من قبل الحركة العمالية الاشتراكية الضخمة ضد الفاشية.

وفي استعراضه الموجز للغاية للأحداث السياسية التي سبقت تعيين هتلر مستشاراً في يناير 1933 ، أشار غولدهاغن إلى أن النازيين حصلوا على ما يقرب من أربعة عشر مليون صوت في انتخابات يوليو 1932 ، أي 37.4 في المئة من الناخبين. وهذالرقم مكتوب بخط مائل للتأكيد على الطابع الساحق للمشاعر المؤيدة للنازية.

لم يشر غولدهاغن إلى الأصوات التي نالها  الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الشيوعي. في الواقع ، حصد الحزب الاشتراكي الديمقراطي 7.95 مليون (21.6 في المئة)من الأصوات في حين  حصل الحزب الشيوعي الألماني على 5.2 مليون (14.6 في المئة). أي أن مجموع أصوات الحزبين الاشتراكيين في ألمانيا كان قرابة 13.2 مليون ، أو 36.2٪. بعبارة أخرى ، كانت الحياة السياسية في ألمانيا مستقطبة بين الثورة الاشتراكية والثورة المضادة الفاشية.

وشهدت الانتخابات التالية ، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1932 ، التي لم يذكرها غولدهاغن ، انخفاضاً حاداً في الأصوات  التي حصل عليها النازيون بمقدار مليوني صوت حيث بلغ مجموع الأصوات التي نالوها 11.73 مليون (33.1٪). كماانخفض تصويت الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى 7.24 مليون (20.4 في المءئة) ، في حين ارتفع التصويت لصاح الحزب الشيوعي الألماني  إلى 5.98 مليون (16.9 في المئة). وهكذا تجاوز  التصويت لصالح للحزبين الاشتراكيين الآن بأكثر من نصف مليون صوت  التصويت لصالح الفاشيين. من حيث النسبة المئوية ، بلغت نسبة التصويت المشترك بين الحزب الديمقراطي الاشتراكي والحزب الديمقراطي الاشتراكي 37.3 في المئة . 

وكانت هذه الانتخابات كارثة سياسية كاملة للنازيين. لقد أظهر بوضوح أن مدهم المرتفع قد مر ، وأن تكتيكات هتلر السياسية، وكانت مزيجاً غير منتظم من الإنذارات والترددات ،قد كلفت النازيين غالياً. وذكر المؤرخ الأمريكي الشهير هنري أشبي تورنر، في دراسة حديثة عن المرحلة الأخيرة من صعود النازيين إلى السلطة:

لقد وجهت انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) ضربة مروعة لهتلر وحزبه. فبعد تعاقب متواصل من المكاسب الدراماتيكية على مدى السنوات الثلاث الماضية ، تعثر الطاغوت النازي. انشق العديد من الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لصالح النازيين في تموز (يوليو) متوقعين أنهم سيصلون إلى السلطة قريباً وسيقدمون علاجات سريعة وحاسمة لمحنة ألمانيا ، وشعروا بالإحباط  من فشل محاولة هتلر لمنصب المستشارية. [19]

بمصطلحات انتخابية بحتة ، حتى عشية تعيين هتلر مستشاراً ، مثلت الحركة العمالية الاشتراكية قوة أكبر من الفاشيين. وبوصفها قوة اجتماعية ، احتلت مناصباً حاسمة داخل الصناعة ، كانت الحركة العمالية الاشتراكية، في إمكاناتها ، أقوى بلا حدود. كما كتب تروتسكي عام 1931: 

على مقياس إحصائيات الانتخابات ، يصل وزن ألف صوت فاشي إلى ألف صوت شيوعي. لكن على صعيد النضال الثوري ، يمثل ألف عامل في مصنع كبير قوة أكبر بمئة مرة من ألف موظف تافه وكتبة وزوجاتهم و حماواتهم. يتكون الجزء الأكبر من الفاشيين من الغبار البشري

ومع ذلك ، فقد تم تجميد الطبقة العاملة سياسياً بسبب السياسات غير المسؤولة والانهزامية لقيادتها. تشبثت الاشتراكية الديمقراطية بالجثة المتعفنة لجمهورية فايمار ، وطمأنت نفسها بأن الدستور الديمقراطي سيوفر الحماية للطبقة العاملة حتى لو وصل هتلر إلى السلطة. رفض الحزب الشيوعي الألماني تغيير تكتيكاته الكارثية ، مخفياً إحباطه المتزايد وراء قناع من التفجير الديماغوجي.

بدأت اللعبة النهائية في يناير 1933. وفي النهاية اقتنعت البرجوازية الألمانية بأن الحزبين العماليين كانا مشلولين للغاية بحيث لا يمكنهما القيام بمقاومة جدية ، فدعت هتلر إلى الاستيلاء على السلطة من خلال الوسائل الدستورية. بدون إطلاق طلقة واحدة ، أصبح هتلر مستشاراً في 30 يناير 1933.

عانت الطبقة العاملة أكبر هزيمة في تاريخها ، ومهدت هذه الهزيمة الطريق أمام الكارثة التي أعقبت ذلك.

في نهاية كتابه ، كتب غولدهاغن:

كانت الثورة الألمانية النازية ... ثورة غير عادية تم تحقيقها  ، على الصعيد المحلي ، على الرغم من قمع اليسار السياسي في السنوات القليلة الأولى ، دون إكراه وعنف جماعي. ... وبشكل عام ، كانت ثورة سلمية وافق عليها الشعب الألماني عن طيب خاطر. أي أنه على الصعيد الداخلي ، كانت الثورة الألمانية النازية ، بشكل عام ، توافقية[21].

إلى أن قرأت هذه الكلمات ، لطالما ملت إلى  النظر إلى غولدهاغن كشخصية حزينة ومثيرة للشفقة نوعاً ما ، شاباً تركته دراسته لمصير يهود أوروبا مصدوماً فكرياً ، إن لم يكن عاطفياً. لكن في هذه الفقرة يظهر شيء قبيح للغاية. فباستثناء معاملتها لليهود ، كانت 'الثورة' النازية ، لا يستخدم غولدهاغن كلمة 'الثورة المضادة' ، أمراً حميداً إلى حد ما. تم إدراج إشارته إلى 'قمع اليسار السياسي' بين فاصلتين ، مما يشير إلى أنها لم تكن قضية كبيرة للغاية.

إن الادعاء بأن الغزو النازي للسلطة كان 'ثورة سلمية وافق عليها الشعب الألماني عن طيب خاطر' هو تزييف حقير. إن ما يشير إليه غولدهاغن على أنه 'قمع اليسار السياسي' يتألف ، في الواقع ، من التدمير المادي للأحزاب الاشتراكية الجماهيرية التي مثلت آمال وتطلعات ملايين العمال وأفضل عناصر المثقفين الألمان في عالم عادل وكريم. لم تكن الاشتراكية الألمانية مجرد حركة سياسية بل كانت ، على الرغم من كل تناقضاتها الداخلية ، مصدر إلهام وتعبير عن ازدهار الفكر والثقافة الإنسانيين وتطلب تدميرها الأساليب الهمجية التي تفوق فيها النازيون.

حرق الكتب ، وهروب العلماء والفنانين والكتاب من ألمانيا ، وإنشاء معسكر اعتقال داشاو واعتقال الآلاف من المعارضين السياسيين اليساريين ، وإإلغاء شرعية كل الأحزاب السياسية باستثناء الاشتراكيين الوطنيين ، وتصفية النقابات العمالية . كانت هذه  هي الإنجازات الرئيسية للنظام النازي في الأشهر الأولى من 'ثورته السلمية .

على الرغم من الإرهاب الذي أطلقه النازيون ، كانت هناك معارضة مستمرة وكبيرة.

كتب المؤرخ ف. كارستن:

لم تكن أقلية كبيرة من الاشتراكيين الديمقراطيين والشيوعيين على استعداد للانصياع وقبول أي شيء بشكل سلبي يمكن أن يأمرهم به النظام الجديد. كان الرعب الواسع الذي رافق 'الاستيلاء على السلطة' والاعتقالات الجماعية في الأشهر الأولى كافياً لتنبيههم . استجابت أعداد كبيرة من خلال تشكيل مجموعات تحت الأرض ، وإعداد وتوزيع منشورات وأوراق تحت الأرض وضحد الدعاية النازية المزعجة قدر المستطاع. ففي عامي 1933 و 1934 نشأت مئات المجموعات السرية في جميع أنحاء ألمانيا وفي كثير من الأحيان تم تصفيتها بسرعة متساوية من قبل الجستابو. ... تشير التقديرات الموثوقة إلى أن الحزب الشيوعي الألماني قد فقد بين عامي 1933 و 1935 حوالي 75000 عضواً راحوا  إلى السجن كما قتل عدة آلاف منهم .وهذا يعني أن حوالي ربع الأعضاء المسجلين في عام 1932 فٌقدوا.[22] 

أدى الإرهاب النازي إلى ترهيب وإرعاب ملايين الألمان. تراجعت قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة ، التي أصابها الاكتئاب والإحباط بسبب الانهيار المخزي لمنظماتهم ، إلى حالة اللامبالاة. ومع ذلك ، حتى في مواجهة همجيةالنازيين التي لا ترحم ، كانت هناك معارضة نشطة كبيرة للنظام بين العمال.

كما أوضح كارستن:

حتى لو كان غالبية العمال قد عقدوا سلاماً مع النظام النازي ، يظل صحيحاً أيضاًأن معظم أولئك الذين سُجنوا لأسباب سياسية انتموا إلى الطبقة العاملة. من أصل 21823 ألمانيًا مسجونين في كعتقل شتاين فاشيه في دورتموند بسبب جرائم سياسية ، كانت الغالبية العظمى من العمال. ومن بين 629 شخصاً سجنوا في سولينجن لمشاركتهم  في المعارضة السياسية ، كان هناك أكثر من 70 في المئة من العمال ويفترض أن العديد من ربات البيوت الـ 49 المدرجات في القائمة انتمين أيضًا إلى الطبقة العاملة. أما في أوبرهاوزن في الرور فقارت النسبة  من 90 في المئة. أما بالنسبة للمناطق الأقل تصنيعاً ، فكانت النسبة أقل بلا شك ، لكن الطبقة العاملة الألمانية قدمت بالتأكيد الجزء الأكبر من أولئك الذين عانوا بسبب قناعاتهم السياسية. وفي السنوات من 1933 إلى 1944 ، تم اعتقال 2162 شخصاً في إيسن بسبب نشاطهم السياسي اليساري و 1721 شخصاً في دوسلدورف ، من بينهم 297 امرأة. كماأُعدم في سجن براندنبورغ 1807 شخصاً لأسباب سياسية خلال الحرب كان 775 منهم من العمال أو الحرفيين. لقد كان سجلاً يدعو للفخر. لم يتمكنوا من الإطاحة بالنظام ، لكن كانت تلك مهمة مستحيلة. وحين حاولت الدوائر العسكرية والمحافظة ذلك في عام 1944 فشلت بدورها.و لم يستسلم النظام في نهاية المطاف إلا بعد حرب خاسرة ، وحتى في سقوطه اجتاح العديد من خصومه. فبالنسبة للديكتاتورية ، لم تكن المعارضة المفككة سوى مصدر إزعاج ، لكنها، مثل الأقليات الأخرى، تعرضت للاضطهاد بلا رحمة  [[23.

لم تذكر حقائق مثل هذه في كتاب جلادو هتلر المستعدين. بل أن  غولدهاغن ولد انطباعاً بأنه لا يهتم بشكل خاص بتأثير الفاشية على أي شخص آخر غير اليهود. هذه القسوة مستمدة من نظرته الضيقة والمريرةفهو تصور الهولوكوست كجريمة ارتكبها الألمان 'العاديون' ضد اليهود ، وهو غير مهتم بشكل خاص بما قد يفعله الألمان ببعضهم البعض. على أي حال ، فإن نظرته لا تسمح له بالاعتراف بوجود أي معارضة كبيرة لهتلر بين الألمان. 

هذا ليس خطأ بالمعنى الواقعي فقط. المفارقة في موقف البروفيسور غولدهاغن هو أنه جعله غير قادر على فهم سبب المحرقة أو أهميتها العالمية والتاريخية العالمية.

الاشتراكية ومصير اليهود

كان مصير اليهود كشعب مضطهد تاريخياً ومصير الطبقة العاملة مرتبطين بشكل لا ينفصم ومأساوي. مهد سقوط الحركة الاشتراكية الألمانية الطريق أمام تدمير يهود أوروبا. إن الحقوق الديمقراطية لليهود ، بل حتى حقهم في الوجود ، تعتمد على القوة السياسية للطبقة العاملة. لم يبدأ القتل الجماعي لليهود في عام 1933. فقبل أن يتم تنظيم جريمة بهذا الحجم وإعدامها ، كان على النازيين إرهاب وتدمير العناصر الحيوية الفكرية والتقدمية والإنسانية في المجتمع الألماني.

كانت المحرقة ، في التحليل النهائي ، الثمن الذي دفعه الشعب اليهودي وجميع البشرية مقابل فشل الطبقة العاملة في الإطاحة بالرأسمالية.

هذا درس لا يجب نسيانه. ونحن نعيش في عالم تتخذ فيه تناقضات الرأسمالية أبعاداً متفجرة مرة أخرى.  يتم تهميش جماهير الناس ، إن لم يتم فصلهم تماماً عن العملية الإنتاجية ، من خلال العمليات الهوسية للرأسمالية العالمية. ففي كل دولة أوروبية تقريباًو ، تبلغ نسبة البطالة 10٪ أو أعلى. بدون تطوير بديل حقيقي للجنون الاجتماعي للسوق الرأسمالية العالمية ، فإن ضحايا الرأسمالية المرتبكين معرضون لصخب الديماغوجيين اليمينيين.

مؤخراً ، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً عن عودة ظهور معاداة السامية في روسيا:

فتحت تأثير الإحباط من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة التي أعقبت انهيار الشيوعية والاتحاد السوفيتي في عام 1991 ، وبدفع من السياسيين المستعدين للاستفادة من استيائهم ، يعود كثير من الناس إلى كبش الفداء التقليدي أي  اليهود.[24]

ما هي قيمة عمل غولدهاغن في مواجهة الخطر الذي تشكله مثل هذه التطورات؟

في ظل ظروف الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والتفكك ، ستكتسب الدروس السياسية المستفادة من العقد الثالث من القرن العشرين مرة أخرى علاقة معاصرة ملحة. هذا هو السبب في أنه من الضروري دراسة واستيعاب الأصول والأسباب الحقيقية للهولوكوست.

[1] Lecture delivered April 17, 1997 at Michigan State University in East Lansing

[2] Andrew Michael Roberts, The Novel: From Its Origins to the Present Day (London: Bloomsbury, 1993), p. 173. 

[3] Will Reissner, ed., Documents of the Fourth International: The Formative Years 1933–40, (New York: Pathfinder Press, 1973), p. 312. 

[4] Daniel Goldhagen, Hitler’s Willing Executioners: Ordinary Germans and the Holocaust, (New York: Alfred A. Knopf, 1996), p6 

[5] Ibid., p. 9 

[6] Ibid., p. 33

[7] Robert S. Wistrich, Socialism and the Jews: The Dilemmas of Assimilation in Germany and Austria-Hungary (London and Toronto: Associated University Presses, 1982), p. 56. 

[8] Quoted in Socialism and the Jews, p. 53. 

[9] Quoted in Zeev Sternhell, Neither Right Nor Left: Fascist Ideology in France, trans. David Maisel (Princeton: Princeton University Press, 1986), pp. 45–46. 

[10] Ibid., p. 46. 

[11] Quoted in Socialism and the Jews, p. 94. 

[12] Ibid., pp. 94-101

[13] Orlando Figes, A People’s Tragedy: A History of the Russian Revolution (New York: Viking Press, 1996), pp. 196–197.

[14] V.I. Lenin, Collected Works, Volume 10 (Moscow: Progress Publishers, 1972), p. 509.

[15] Leon Trotsky, The Struggle Against Fascism in Germany (New York: Pathfinder Press, 1971), pp. 523–524.

 [16] Konrad Heiden, Der Fuehrer, (Boston: Houghton Mifflin, 1944), p. 58. 17 Ibid., p. 66.

[17] Ibid., p66.

[18] Ibid.

[19] Henry A. Turner, Hitler’s Thirty Days to Power: January 1933 (New York: Addison-Wesley, 1996), pp. 14–15. 

[20] The Struggle Against Fascism in Germany, p. 164.  

[21] Hitler’s Willing Executioners, p. 456.

[22] F.L. Carsten, The German Workers and the Nazis (Aldershot: Scolar Press, 1995), p.180. 

[23] Ibid., p. 182. 

[24] Available: http://www.nytimes.com/1997/04/15/world/success-may-be-bad-for-jews-as- old-russian-bias-surfaces.html?pagewanted=all&src=