العربية

ليون تروتسكي ومصير الإشتراكية في القرن العشرين رد على البروفسور إيريك هوبسباوم

إهداء

قبل سنة ونصف من الآن، كان لي فرصة الحضور إلى محاضرات البروفسور فادين روغوفين في أستراليا. وعند ختام المحاضرة الثانية في ملبورن، أتيحت لي مناقشة شديدة الأهمية، حول دور ليون تروتسكي، مع صديقة عظيمة وداعمة للحركة. وخلال النقاش خطرت على بالي مجموعة من الأفكار ناقشتها معها. قالت أنها تأمل أنه ذات يوم سيكون لدي فرصة لصياغة تلك الأفكار في محاضرة خاصة بي. قلت لها أنني أتطلع لمثل هذه الفرصة. للأسف فإن تلك الصديقة، جودي تينينباوم، والدة ليندا تينينباوم المشاركة في هذه المدرسة الصيفية، ماتت في وقت مبكر من هذا العام. كان ذلك خسارة كبيرة لكل من عرفها مننا. وعلى هذا أود إهداء هذه المحاضرة لذكراها. وهذا من وجهة نظري مسؤولية وديناً أود بسرور تسديده لتلك التي طالما رحبت بي بحرارة كبيرة في رحلاتي إلى أستراليا وأتيح لي حظ زيارتها.

* * * 

خسارة التفاؤل 

في عام 1899 كتب فرانتز ميهرينغ المنظر الماركسي العظيم في الإشتراكية الديمقراطية الألمانية، أنه في حين كان القرن التاسع عشر قرن أمل، فإن القرن العشرين سيكون قرن الإنجاز الثوري. لمح مهرينغ إلى أن مسيرة التقدم التاريخي يمكن أن تمر عبر مسارات أكثر تعقيداً مما كان متوقعاً، وأنه لا يوجد نبي قادر على التنبؤ بالمستقبل بيقين مطلق. ' لكنه' أعلن، ' أن البروليتاريا الواعية طبقياً ستجتاز عتبة القرن العشرين بشجاعة مبهجة وثقة بالنفس تدعو للاعتزاز'.

عبرت كلمات ميهرينغ عن التفاؤل الواسع الذي شعرت به الحركة الإشتراكية عشية القرن العشرين. لقد تحدث عن حركة كانت مقتنعة بحماس بالمهمة التاريخية للاشتراكية. كان قد مر بالكاد أكثر من خمسين سنة منذ كتابة ماركس وأنجلز البيان الشيوعي.  وقبل ذلك بأربعين سنة فقط عاش ماركس في لندن بوصفه منفياً ثورياً فقيراً ومعزولاً.وسبق ذلك بعشرين عام بالتحديد إقدام بيسمارك على نزع الصبغة القانونية عن معظم النشاط الإشتراكي في ألمانيا. إنما مع اقتراب القرن التاسع عشر من خاتمته، تمكن الحزب الإشتراكي الديمقراطي من الإستمرار ليصبح أضخم حزب سياسي في البلاد. وعدا عن هذا، وفي ما يتجاوز حدود ألمانيا، صارت الإشتراكية حركة دولية قوية، ضمت في صفوف أنصارها عدد لا يحصى من رجال ونساء إتصفوا بشجاعة غير عادية، وبرؤية، وبأصالة حقيقية في حالات ليست بالقليلة.

إن التفاؤل الذي أعطاه الإشتراكيون تعبيراً ثورياً قد إنتشر وسط المجتمع، بما في ذلك وسط الفئات البورجوازية المثقفة من الطبقة الوسطى. ففي مذكراته التي حررها الكاتب النمساوي شتيفان تزفايغ بعد إندلاع الحرب العالمية الثانية، تذكر كما يمكن لشخص تذكر صديق راحل، الثقة التي كانت سائدة عند عتبة القرن الجديد:

في مثاليته الليبرالية كان القرن التاسع عشر مقتنعاً بثقة أنه كان على الدرب المستقيم والواضح للوصول إلى أفضل عالم ممكن. وإن تأمل المرء الحقب السابقة، بحروبها ومجاعاتها وثوراتها، بوصفها زمن كان فيه الشعب غير ناضج وغير مستنير بما يكفي... هذا الاعتقاد بـ 'تقدم' لا يمكن قطعه أو إيقافه امتلك في هذا العصر سلطة الدين؛ كان المرء يؤمن ' بالتقدم' أكثر من إيمانه بالعهد القديم، وبدا هذا الإنجيل مدعماً تماماً بالمعجزات اليومية التي ينتجها العلم والتكنولوجيا.[2]

لم يتمكن إلا قدر محدود جداً من هذا الإيمان من تجاوزصدمات القرن العشرين، الذي بدا في بعض الأحيان مقبرة لكل أماني البشر. ففي الضوء الرهيب لما وقع، الحربان العالميتان، وحمامات الدم الإقليمية التي لا تحصى، والثورات الفاشلة، والهولوكوست، فإن نزعة تفاؤل السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر تلاشت بحيث عُد تفاؤل السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر تعبيراً عن إيمان ساذج في المنطق البشري، وإعتقاد غير مسوَّغ بالتقدم.

ومع اقترابنا من الألفية الجديدة  نجد أن هناك القليل من المنطق في الإعتقاد أن المستقبل سيرى تحسناً جذرياً في ظروف البشر. بل على الغالب ثمة أمل غير مستقر وهش في أنه في القرن الواحد والعشرين سيُعفى البشر من فظائع القرن الأخير. إنه لواقع محزن أن نهاية القرن الوشيكة ستثير قبل أي شيء آخر، شعوراً بالإرتياح، كما لو أن يوماً مميزاً بصعوبته ومضايقاته شارف على خاتمته.

وليس من الصعب تخيل المواضيع التي ستهيمن على نهاية القرن العشرين مولدة  ضربات إرتدادية ستقصفنا قريباً: لقد كان القرن العشرون قرناً من الفظائع التي لا يمكن تخيلها من عمليات قتل جماعية والبهيمية الشمولية. ولا يمكن إنكار أن هذا الوصف مناسب إلى حد ما ، إنما من الوارد أن يكتسي سمة التفاهة من خلال الإفراط في استخدامه أو إساءة استخدامه. وتتحول هذه العبارات على أيدي وسائل الإعلام إلى لسعات تفسد الوعي بدلاً من إنارته. وإذا حكمنا على ما ظهر حول الموضوع، يمكن للمرء توقع أن عنف مآسي القرن العشرين سيتم إستلهامه بهدف تدمير كل 'الإيديولوجيات'، ولا سيما ، الماركسية، وبالتالي إثبات عبث أي نقد ثوري للنظام الإجتماعي القائم.

لقد شهد هذا القرن أضخم الإنتفاضات في تاريخ العالم. ولم يحدث قبل ذلك أبداً أن كانت الجماهير فاعلة على هذا المستوى الدرامي، وبمثل هذا القدر من الوعي العالي. وبالمقابل، لم يسبق  أبداً استخدام القوة والعنف بمثل هذا القدر من إنعدام الرحمة لقمع حركات الجماهير الثورية.  وبشكل عام يفشل وعاظ وسائل الإعلام البورجوازية، خلال دفاعهم عن النظام الرأسمالي، في ملاحظة أفظع الجرائم حيث تم إقترافها بشكل مباشر ( كما هو الحال في ألمانيا واسبانيا) أو بشكل غير مباشر ( كما حدث في الإتحاد السوفيتي) .

لم يفتقر القرن العشرين إلى المآسي. إنما كانت هذه المآسي تعبيراً عن ضخامة المهام التاريخية التي تم التصدي لها. فللمرة الأولى وضعت البشرية على أجندتها، إلغاء المجتمع الطبقي، بوصفه مهمة عملية. سعى الناس لوضع حد لمرحلة ما قبل التاريخ البشري. وقد مثلت ثورة أكتوبر 1917 البلشفية، على الرغم من المصير اللاحق الذي واجهه الإتحاد السوفيتي، نقطة علام لا يمكن مسحها في التقدم التاريخي للإنسان. ومهما كانت مفاهيم مثل 'الحتمية' غير ملائمة لموضوع هذه الأيام، لكننا نعتقد بأن أقوى الميول لتطور الإنسان المحكوم بالقانون بوصفه كائناً اجتماعياً وجد تعبيراً ضرورياً عنه ،حتى وإن كان عابراً، في ثورة أكتوبر. ونحن مقتنعون أن تجديد الجهد لإكمال ما بدأ في 1917 هو أمر حتمي.

ويجب أن تكون المهمة السياسية والفكرية العليا في زماننا هي دراسة ثورة أكتوبر 1917، أول ثورة بروليتارية إشتراكية، وتداعياتها، ليس فقط في روسيا السوفيتية، بل في سائر أرجاء العالم. ويمثل هذا في مجمله العنصر الأهم في مجموع التجارب الإستراتيجية التي إستخلص منها ماركس الدروس النظرية والعملية التي ستقود الطبقة العاملة خلال القرن الحادي والعشرين. إن المناقشة الجادة لآفاق الإشتراكية، وبالتالي لآفاق مستقبل الجنس البشري، يجب أن تتضمن تفحص ثورة أكتوبر.  يمكن تأييد هذه الثورة أو معارضتها، إنما لا يمكن تجاهلها. إن الإجابات التي يقدمها المرء لقضايا الأيام الحالية مرتبطة بشكل لا يقبل الفصم بتقييم المرء لثورة أكتوبر، وتداعياتها، ومصيرها  ومشروعيتها.

إن كانت ثورة أكتوبر محكومة بالفشل، وإن كان إستيلاء البلاشفة على السلطة، كان منذ البداية، محاولة قاتلة؛ وإن كانت الستالينية هي النتيجة الحتمية للبلشفية؛ وإن كانت جرائم الحقبة الستالينية تدفقت بالتحديد من مفهوم ' ديكتاتورية البروليتاريا'؛ وإن كان إنهيار الإتحاد السوفيتي النهائي شاهداً على إفلاس الإقتصاديات الإشتراكية، عندها يجب الإعتراف بأن الماركسية عانت من حالة ضياع مدمر سياسياً و فكرياً وأخلاقياً. وهذه هي، في الوقت الحالي، الرؤية المهيمنة وسط الأكاديميين الجامعيين. وبالمقابل إن كانت ثورة أكتوبر تضمنت فعلياً إحتمالات أخرى؛ وإن لم تكن الستالينية نتيجة البلشفية، بل نقيضها؛ وإن كان صعود الستالينية قد قوبل بمعارضة من قبل الماركسيين ، عندها يكون الوضع التاريخي للإشتراكية الثورية مختلفاً للغاية.

إن اللجنة الدولية للأممية الرابعة تتمسك بالموقف الثاني. وهذا يقحمنا بالضرورة في صراع لا يقتصر فقط على المدافعين الصريحين والمكشوفين عن الرجعية، بل ومع مزاج التشاؤم، وهبوط المعنويات والعزوف السياسي الذي نجده عند الكثيرين، الذين عدوا أنفسهم، على الأقل حتى وقت قريب، إشتراكيين.

أما في صفوف أولئك الذين تأثروا بالستالينية، فإن إنهيار الإتحاد السوفيتي، وهو حدث فشلوا تماماً في توقعه، قد غير موقفهم من ثورة أوكتوبر ومن موقعها في التاريخ بشكل جذري. إن ردة الفعل هذه، كما لاحظ ليون تروتسكي ذات مرة، لا تكتفي بفرض نفسها بل وتصبح مقنعة. إن العديد ممن كانوا على مدى زمن طويل أصدقاء للإتحاد السوفيتي، وربما إن أردنا تحديداً أكثر كانوا أصدقاء البيروقراطية السوفيتية، ممن عبروا عن إعجاب كبير بلينين و' بثورة أكتوبر العظمى'،  وظنوا أنهم تقدميون إلى حد بعيد بسبب قيامهم بهذا، صاروا ينظرون الآن إلى ثورة أكتوبر على أنها كارثة كان يجب ألا تقع. ويرون أن الإستيلاء على السلطة كان خطأً رهيباً. وإن هناك أي دروس يمكن إستخلاصها من ثورة أكتوبر 1917  وتداعياتها، فهو أن المشروع الثوري الإشتراكي بأسره، كما تصوره ماركس وطبقه لينين، قد تم دحضه بشكل مأساوي لا يمكن رده. 

هذا هو المنظور الذي برز من كتاب للمؤرخ البريطاني، إيريك هوبسباوم الذي كان طوال أعوام عضواً في الحزب الشيوعي. حمل الكتاب عنوان' حول التاريخ'، ويتضمن مقالات متنوعة ومحاضرات كتبها على مدى ربع القرن الأخير. وفي حين غطت الكتابات مجموعة واسعة من المواضيع، لكن الموضوع المهيمن في ذلك الكتاب كان الدلالة التاريخية لثورة أكتوبر.

وحيث سيكون لدي الكثير من الأشياء القاسية لأقولها حول كتاب البروفسور هوبسباوم، إسمحوا لي أن أضع مقدمة لملاحظاتي من خلال التصريح الجلي أنه خلال مسيرته المهنية الطويلة بوصفه مؤرخاً  قد كتب العديد من الكتب البحثية القيمة. إن المجلدات التي خصصها للثورة الفرنسية ولتطور الرأسمالية في القرن التاسع عشر كانت دراسات متمكنة وحساسة. وثمة كتاب أحدث، فيه تحليل نقدي لدور النزعة القومية والدولة القومية طرح رؤى جديرة بالاهتمام في توقيت مناسب. 

ومع ذلك فإن موضوع الثورة الروسية يمثل ميدان خطر على البروفسور هوبسباوم، لأنه في هذا الميدان تأثرت أبحاثه بسياساته. إعترف هوبسباوم ذات مرة أنه بوصفه عضواً في الحزب الشيوعي في بريطانيا العظمى قد تحاشى الكتابة حول الثورة الروسية وحول القرن العشرين، لأن الخط السياسي لحزبه كان يمكن أن يمنعه من أن يكون صادقاً بشكل كامل.

لماذا اختار البقاء عضواً في حزب فرض عليه الإدلاء بأكاذيب هو سؤال لم يقدم أبداً رداً مقنعاً له. لقد كان من الأفضل له، دون أن يشكل ذلك خسارة للكتابة التاريخية، لو أنه تابع حصر نفسه في الأحداث السابقة لعام 1900.

تاريخ مغاير للوقائع

إن أهم وثائق كتاب هوبسباوم محاضرة قدمها في ديسمبر 1996 كان عنوانها 'هل نستطيع كتابة تاريخ الثورة الروسية؟'

في بداية المحاضرة ذكر البروفسور هوبسباوم نقطة في محلها: ' إن أعنف النقاشات حول تاريخ القرن العشرين في روسيا لم تكن حول ما حدث، بل حول ما كان يجب أن يحدث.'  [3]وذكر أن الاتحاد السوفيتي يثير مسألة التاريخ المعاكس للوقائع، وهذا يعني أنه من خلال التعامل مع وضع تاريخي خاص،فإلى أي حد يكون من الممكن إصدار أحكام تتصف بالمصداقية حول ما لم يحدث، أو حول ما كان يجب أن يحدث. أصاب هوبسباوم حين لاحظ أن مناقشة التاريخ السوفيتي يطرح عدد لا يحصى من القضايا المعاكسة للوقائع. ومن بين كل الأسئلة المعاكسة للوقائع ثمة سؤال هو أكثرها أهمية ومفاده هل كان هناك إمكانية لأن تتبع الثورة الروسية طريقاً مختلفاً بشكل ملموس عن ذلك الذي قاد إلى الديكتاتورية الستالينية.

على الرغم من أنه كتب بصفته شخص متعاطف مع الثورة، و مقتنع بأن سياسات لينين والحزب البلشفي نتجت عما عدّوه الواقع الصعب للوضع السياسي القائم في 1917، وأنهم صعدوا إلى السلطة بالإعتماد على موجة عارمة بل ويصعب مقاومتها من الدعم الشعبي إنما خلص لاحقاً إلى عدم وجود أسس للإعتقاد بأن الثورة كان يمكن أن تمضي في مسار مختلف فعلياً عما حدث فعلاً.

فبالتعارض مع ريتشارد بايبس، الذي رأى في ثورة اكتوبر مؤامرة بائسة فُرضت على الشعب الروسي من قبل عقائديين إشتراكيين عديمي الرحمة، فإن هوبسباوم أقر بالسيرورات السياسية التي كانت فاعلة في الثورة. ومع ذلك فقد فشل في تقديم أي تقييم جوهري لدور العامل الذاتي للأحزاب، والسياسات، وللقادة السياسيين، ولوعي الجماهير، إلخ..ضمن السيرورات التاريخية. إن هوبسباوم، بوصفه مؤرخاً جاداً، عرف أن العوامل الذاتية قائمة وتمارس تأثيرها على نتائج الأحداث. إنما ما قاله حول العلاقة بين العوامل الموضوعية والذاتية، مشوش، وغير متماسك، وغير دقيق، وغامض. وقد أقر من خلال كتابات حول لينين وستالين، أنه  ' من دون إسهامات هذين الرجلين الفردي، من المؤكد أن تاريخ الثورة الروسية كان ليكون مختلفاً تماماً.' [4] ومع ذلك ، فقد فشل في قول أي شيء محدد للغاية حول ما كان يمكن أن يكون مختلفًا في ذلك التاريخ.

لم يُنكر هوبسباوم أن لينين لعب دوراً هاماً في الثورة الروسية. لكنه شديد التحفظ في تصور بدائل معاكسة للوقائع في سيناريو تاريخي لا يتضمن لينين. وكتب هوبسباوم أنه لو لم يرجع لينين من سويسرا إلى روسيا في 1917، فإن المرء لا يستطيع القول أن الأمور كان يمكن أن تجري بشكل شديد الإختلاف ولا القول بأنها ستكون مختلفة.' ' و لا يمكنك المضي قدماً بإستثناء الغوص في الخيال.'[5]

وفي مقطع آخر من محاضرته، وفي إشارة إلى الدور التاريخي لستالين، ذكر هوبسباوم أنه

يمكن للمرء أن يطرح بشكل ملموس أنه كان هناك مجالاً  لقدر أقل أو أكبر من القسوة في مشروع مخطط الدولة السوفيتية للتصنيع فائق السرعة، لكن إن كان إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية ملتزماً بمثل هذا المشروع ، ومهما كان مدى ضخامة التزام الملايين الأصيل به، فقد كان لا بد له أن يكتسي سمة قمعية، حتى ولو كان إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية تحت قيادة شخص أقل انعداماً للرحمة وفظاظة من ستالين.[6]

وفي كلا المقطعين، نجد أن المفهوم الأساسي هو أن العامل الذاتي لم يكن قادر على حمل أي دلالة حاسمة. إن هذا الخط من الطرح، في محاضرة مخصصة لتحري وجود بدائل تاريخية أمام الثورة الروسية، يتحول إلى تبرير صريح للستالينية.  إن هوبسباوم يطرح الأمر وفق التالي: أن الحزب البلشفي إستولى على السلطة عام 1917 على أمل أن تأتي الثورة في ألمانيا، التي إعتقد لينين أنها قريبة، لنجدة روسيا السوفيتية. وقد كان هذا خطأ مدمر في الحسابات السياسية. وبغض النظر عن أن قناعات لينين كانت عكس هذا، حيث لم كن هناك آفاق جدية لثورة ألمانية عند نهاية الحرب العالمية الأولى. كما أن القول بأن الطبقة العاملة الألمانية تعرضت للخيانة من قبل قادة الإشتراكية الديمقراطية عام 1918 لم يعدُ أن يكون سوى أسطورة بالنسبة لهوبسباوم. 'ثورة أوكتوبر ألمانية، أو أي شيء يشبهها، لم يكن بالأمر الجدي وبالتالي لا يمكن أن تتعرض للخيانة'.[7]

إن هذا الحكم ينبئنا بالمزيد حول التشاؤم التاريخي لهوبسباوم أكثر مما يخبرنا حول الظروف التي سادت في ألمانيا عام 1923. وهو بكل بساطة يقلل من إحتمال أنه كان من الوارد نجاح ثورة في ألمانيا دون أن يقدم أي تفحص للوضع السياسي الفعلي الذي كان قائماً في ذلك البلد. وتتوفر دراسات قيمة حول ' أكتوبر الألماني' طرحت بشكل مقنع أن نتيجة الأزمة الحادة التي قامت في ألمانيا في خريف 1923 إرتبطت بأفعال الحزب الشيوعي. وهذا هو الطرح الذي صاغه تروتسكي عام 1924 في أعقاب الإنهيار السياسي الذي تسبب به قرار الحزب الشيوعي، في الدقيقة الأخيرة، إلغاء التمرد الذي كان مخطط له. [8]

تنبع أخطاء هوبسباوم، على المستوى النظري، من عدم إكتراث قدري حول تاثير السياسات الذاتية على مسار الأحداث. أود إقتباس مقطع يلخص طرح هوبسباوم ويظهر كيف أن مقاربته أحادية الجانب تحولت إلى دفاع عن الستالينية. نظراً لأنه لم يكن هناك من فرصة أمام نسخة ألمانية من أكتوبر 1917' فإن الثورة الروسية كانت محكومة ببناء الإشتراكية في بلد واحد متخلف سيتم تدميره قريباً...'  [9]وعليه فإن البلاشفة إستولوا على السلطة السياسية في 1917' ببرنامج غامض إلى حد بعيد حول الثورة الإشتراكية.[10]  بالمناسبة، يبدو هنا أن هوبسباوم يناقض نفسه من خلال الإقرار بالدور الحاسم للعامل الذاتي، فهو أشار إلى تداعيات تاريخية مدمرة لخطأ لينين.  وبغض النظر عن مدى صدق قناعاته ومدى نبل نواياه، لكنه راهن وفشل. وكانت النتيجة اشتراكية في بلد واحد.'أعلن هوبسباوم أنه من وجهة نظر التاريخ يجب الانطلاق مما حدث أما الباقي فتخمينات.'[11]

هذا مفهوم تبسيطي حول ' ما قد حدث'، في حال التعامل معه بأنه لا شيء أكثر من نشرة في الجريدة اليومية ، فهو لا يعدو عن أن يكون بالتأكيد سوى جزء صغير من السيرورة التاريخية . فبعد كل شيء، لا يجب على التاريخ الإقتصار ببساطة بالإنشغال ' بما حدث' بل يجب عليه أيضاً، وهذا أكثر أهمية إلى حد بعيد،الإنشغال بلمذا وقع هذا الحدث أو ذاك أو لماذا لم يقع، وبما كان من المفترض أن يقع. ففي اللحظة التي يتعامل المرء مع حدث ، أي ما 'قد حدث'، يترتب عليه التعامل مع السيرورة والسياق. صحيح أنه في عام 1924 تبني الإتحاد السوفيتي سياسة ' الإشتراكية في بلد واحد' . لقد 'حدث هذا'. لكن معارضة 'الإشتراكية في بلد واحد' ' أيضًا حدثت'. إن الصراع بين البيروقراطية الستالينية والمعارضة اليسارية، الذي لم يقل عنه هوبسباوم كلمة واحدة، ' قد حدث'. وبقدر ما إستَبعَدَ عمداً،  قوى المعارضة  التي سعت إلى منح سياسات الإتحاد السوفيتي إتجاهاً مختلفاً، أو  تجاهلها بوصفها غير هامة، فإن تعريفه ' لما حدث'لا يمثل شيئاً أكثر من تبسيط أحادي الجانب، وأحادي البعد، وبراغماتي و سوقي لواقع تاريخي شديد التعقيد. فبالنسبة لهوبسباوم، البدء ' بما حدث' يعني ببساطة البدء والإنتهاء 'بمن انتصر'.

إنما حتى راوي الأحداث التاريخية صاحب الضمير الأنقى لا يمكنه التعامل إلا مع جزء صغير ' مما حدث'. إن دراسة التاريخ وكتابته تتضمن دائماً درجة مهمة من الإنتقاء والتخصص، ومع ذلك، فعلى الأقل يجب أن يكون ذلك مطابقاً للسيرورات التاريخية. وبعد كل شيء فإن ' ما حدث' يمكن أن يتم تحديده بتعابير من الخيارات السياسية التي تم رفضها من قبل أولئك الذين طبقوه. ومع ذلك فإن هوبسباوم يتصرف كما لو أن السياسات التي طرحها تروتسكي لم يعد لها أهمية تاريخية ما أن رفضها الحزب الشيوعي وتم طرده ونفيه.

إذا غرق المرء في خضم النثر الأكاديمي فلن يكون أمامه سوى مقاربة التاريخ بطريقة دنيوية أحادية الإتجاه. 'لقد إنتصر ستالين'، هذا  يخبرنا به هوبسباوم، وأنه لا جدوى من التفكير بما كان يمكن أن يحدث طالما أنه لم يحدث. إن الذهاب أبعد 'مما حدث'يعني دراسة السيرورة التاريخية في كل نطاق إحتمالاتها الملموسة، أكثر من أن يكون تخمين، والهروب من الواقع التاريخي،والهرب إلى أحكام لا تستند إلى دعم و أوهام تولد الرضا عن الذات. 

لكن إذا دمجنا في ' ما حدث' العناصر المناقضة والخلافية في السيرورة التاريخية، فإن الخليج الواقع بين ' ما حدث' و 'ما لم يحدث' لا يكون عميق الأغوار بالقدر الذي طرحه هوبسباوم. وبعد كل شيء فإن دراسة السيرورة التاريخية بطريقة أكث كمالاً يمكن على الأقل  أن تحول قسم 'مما لم يحدث' إلى ' ما كان يمكن أن يحدث'.

إن التعامل مع ' ما كان يمكن أن يحدث' على قاعدة دراسة البدائل المتاحة أمام صناع القرارات ليس تخميناً فارغاً. وإذا استبعدنا ' ما كان يمكن أن يحدث' من تعاملنا مع التاريخ، فحقيقة لن يكون هناك، على الإطلاق، سبب لدراسة التاريخ فبعد كل شيء  من المفترض أن يعلمنا التاريخ شيئاً ما.

خلال النصف الأول من القرن العشرين إختبرت البورجوازية الدولية عدداً ليس بالقليل من الكوارث الكبرى. وقد قامت البورجوازية بدراسة متأنية لتلك التجارب وتعلمت منها شيئاً ما. وكان جون ماينارد كينز ناقداً صارماً لإتفاقيات السلام التي تلت الحرب العالمية الأولى. تأثرت البورجوازية بالكوارث التي ولدتها إتفاقيات فيرساي وتبنت مفاهيم كينز بوصفها قاعدة سياساتها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وبطبيعة الحال هناك حدود لدراسة البدائل التاريخية، أي 'الطرق التي لم يتم أخذها'، يتحول بعدها الأمر إلى تخمينات غير مقبولة. كما أنه، من منطلق منهجي فإن دراسة البدائل يمكن أن تقلل من شأن أو حتى أن تتجاهل عوامل أخرى كان من الممكن أن تحدد بشكل كبير إمكانية أن يتخذ التطور التاريخي شكلاً مختلفاً بشكل كبير عما وقع فعلاً. من المؤكد أن الماركسيين كتبوا إنتقادات صائبة تحديداً حول مثل هذه المقاربات  التخمينيىة  غير المشروعة لدراسة التاريخ.

العوامل الموضوعية والعوامل الذاتية في التاريخ

لم يقم هوبسباوم بتقديم إعتراض تحذيري وصائب، فبالأحرى فإنه تبنى في دراسته للثورة الروسية وللإتحاد السوفيتي مقاربة حتمية إلى أقصى حد، وموضوعية إلى حد مبالغ فيه وقدرية : لم يكن هناك بدائل ملموسة ' لما حدث'. وقد تم تبرير ها على قاعدة المماهاة التبسيطية بين سيرورات الثورة الإجتماعية وتلك الخاصة بالطبيعة.

إنما في هذه المرحلة يجب علينا ترك التخمين والرجوع إلى الوضع الذي قام في روسيا خلال الثورة. إن الثورات الجماهيرية الكبرى تندلع من الأسفل، وكانت روسيا سنة 1917 على الأرجح المثال الأكثر إثارة للدهشة في التاريخ، فهي كانت بطريقة ما 'ظاهرة طبيعية'. كانت الجماهير مثل الزلازل، ومثل الفيضانات العارمة، لا سيما، أنه كما جرى في روسيا، كانت البنى الفوقية الحكومية والهيئات الوطنية تفككت تقريباً، وخرجت إلى حد بعيد من تحت السيطرة.[12]

ثمة فارق رئيسي بين الزلازل والفيضانات من جهة، والثورات من جهة أخرى. إن الفكر لا يتدخل لا في حركة الصفحات التكتونية ولا في الأنهار. فالأرض لا تقرر أن تهتز كما أن النهر لا يقيس تداعيات فيضانه على ضفتيه. أما في الثورة الإجتماعية فيمثل الوعي عاملاً هائلاً.  [13]إن الثورات تتضمن إسهاماً من الفكر البشري بدءاً من الثوري الذي سخر كل حياته لتحضيرها، إلى العامل البسيط الذي قرر أن ظروف الحياة صارت عصية على التحمل إلى حد دفعه للنضال ضد النظام القائم، إن الثورة الإجتماعية فعل واع. فمهما كانت قوة العوامل الموضوعية 'الخالصة'، وهذا يشمل الإقتصاد والتكنولوجيا إلخ...، فإن القوى الكامنة خلف الإنفجار الإجتماعي ( مع الإشارة إلى أنه في المجتمع لا وجود لظاهرة موضوعية بشكل خالص) لأن كل حدث يتطلب تدخل البشر، إن الوضع الثوري يجب أن يشير إلى أن الدوافع الموضوعية وصلت إلى عقل الإنسان وترجمت إلى أشكال مركبة من التفكير السياسي. إن المقارنة بين الثورات الإجتماعية ومختلف الظواهر الطبيعية المدمرة، على الرغم منصحته ضمن إطار معنى محدد، إنما هو أكثر الإستعارات التي تم إساءة إستخدامها. وما لم تتم الإشارة إلى الفرق بين أفعال الطبيعة وأفعال الإنسان، فإن الإستعارة لا تخدم سوى إضفاء غموض على السيرورة التاريخية وتشويهها وتزويرها.

كتب هوبسباوم:

بجب علينا الكف عن التفكير في الثورة الروسية وفق مفردات البلاشفة أووفق أهداف ونوايا أي أحد آخر، أو وفق إستراتيجيتهم طويلة المدى، وغير ذلك من الإنتقادات الماركسية لممارساتهم.[14]

إن قبل المرء توجيهات هوبسباوم، سيكون ببساطة من المستحيل تقديم سردية متماسكة حول الثورة الروسية، ناهيك عن فهمها. إن هذا يفضح عجزه عن أن  يفهم بدقة أن هذا يتعلق بأهم موضوع في  التطور التاريخي في القرن العشرين: الدور غير المسبوق للوعي في صنع التاريخ. إن بروز الأحزاب الإشتراكية عبر عن ظاهرة تاريخية جديدة ما كان من الوارد أن تكون ممكنة إلا من خلال تداخل صيرورتين مترابطتين هما بروز الطبقة العاملة و تطور الماركسية. 

بل أنه حتى عند نهاية القرن التاسع عشر، كان برنامج الثورة الإشتراكية مُسجل على يافطات الأحزاب السياسية. قام قادة الأحزاب الإشتراكية الجدد المتسلحين فكرياً بماركس وإنغلز وممتلكين معرفة بقوانين التطور الإجتماعي، ببذل جهد لتحضير الطبقة العاملة  لثورة ضد الرأسمالية تكون محكومة بلعب دور قيادي وحاسم فيها.

ممتلكة رؤية مبنية على العلم حول قوانين التطور الإجتماعي، وبالتالي قادرة على أن تفسر بشكل معاصر، وهو أمر كان حتى ذلك الوقت مستحيلاً إلى حد ما، أهمية وتداعيات الأحداث السياسية حين وقوعها، إن تحليلات، وآفاق، وإستراتيجيات، وبرامج المنظمات السياسية لعبت دوراً إجمالياً غير مسبوق في السيرورة التاريخية. كف التاريخ عن أن يقع ببساطة. بل تم توقعه وتحضيره ، وتوجيهه بشكل واع  إلى حد كان حتى ذلك الحين مستحيلاً. إن جيل الماركسيين الذي دخل النشاط السياسي في السنوات الختامية من القرن التاسع عشر أو في السنوات الأولى من القرن العشرين توقع الثورة بوصفها نتيجة التناقضات الإجتماعية الإقتصادية التي حُددت وحُللت. لقد تصوروا عملهم السياسي أو عمل معارضيهم في إطار تداعياته اللاحقة بالنسبة للثورة وعلى أساس ذلك. ولا يمكن إلا ضمن هذا السياق فهم لمذا خص الجدل الماركسي تلك الأهمية لكشف المصالح الطبقية التي كانت مختلف السياسات تخدمها، ولتحديد ' الطبيعة الطبقية' للإتجاهات السياسية.

إن الثورة الروسية كشفت الدلالة الموضوعية للأهداف،وللنوايا، وللإستراتيجيات لدى كل الأحزاب و الإتجاهات السياسية التي كانت، بشكل أو بآخر، ناشطة في روسيا قبل 1917. إن ما قام به اللاعبون الأساسيون بين أبريل وأكتوبر 1917، حين إصطفوا لخوض المعركة الحاسمة، كان قد تم توقعه في الصراعات النظرية والسياسية الكبيرة التي وقعت خلال العقدين السابقين.

ويبدو أنه من المعقول  وصف الثورة الروسية على أنها كارثة عصية على التحكم جعلت خطط الفئران والبشر عديمة الدلالة. إنما إن كان الوعي يدخل في الحسابات بقدر قليل، وإن كان عامل البصيرة النظرية غير هام وسط الحقبة الثورية، عندها كيف يمكن للمرء تقييم دور لينين وتروتسكي، قبل وخلال 1917 ولا سيما بعد ذلك؟

في أعقاب ثورة 1905، سعت مختلف أجنحة الإشتراكية الديمقراطية الروسية إلى تحديد مهام الطبقة العاملة على ضوء تجارب ذلك الحدث. إن الإجابات التي طرحتها لم تُحدد فقط بالإعتماد على دورها الخاص في الأحداث التي وقعت، بل وعلى أساس المسار المستقبلي للثورة الروسية. أصر هوبسباوم  على' أن ما هدف إليه لينين وما قام به في الحزب كانا عديمي الصلة'.[15]

لكن هذا  الإدعاء قد تم تكذيبه من خلال واقع بسيط هو أنه بدون إعادة توجيه الحزب البلشفي في ربيع 1917 على قاعدة 'أطروحات أبريل'، أي تبني الخط الإستراتيجي الذي صيغ سابقاً من قبل تروتسكي لما كان هناك إستيلاء على السلطة من قبل البلاشفة. إن الثورات هي في الواقع أحداث قوية؛ إنما السياسة والبرنامج، وهما نتاج الوعي، يلعبان فيها دوراً حاسماً.

سعى هوبسباوم إلى التقليل من دور الوعي في السيرورة الثورية ، بل حتى إلى إنكاره. وكتب ربما لم يكن لدى لينين إستراتيجية وأفق يتجاوز عملية الإختيار، يوماً بيوم، للقرارات الضرورية للإستمرار في الوقت القائم وبين تلك التي تحمل مخاطر كارثة فورية. من هو القادر على توقع التداعيات بعيدة المدى المحتملة على الثورة، الناتجة عن قرارات إتخذت الآن أو في أي مكان آخر وكان يمكن أن تنهي الثورة ولا يكون هناك عواقب أخرى يمكن النظر فيها؟ [16]

إن هذا التصوير للينين على أنه سياسي واقعي سوقي، يستجيب بشكل براغماتي معتمداً على الحدس للأحداث حين تقع، بالكاد يكون منطقياً حتى وفق الشكل الذي طرحه هوبسباوم. إن الدفاع عن الثورة يتطلب مفهوماً إستراتيجياً شاملاً، وإنجازه يرتبط بإمتلاك رؤية واعية لبنية المجتمع الروسي  الطبقية ولديناميكياته. من الجلي تماماً أن لينين وتروتسكي كانا رجلين منشغلين جداً خلال مرحلة الثورة والحرب الأهلية. لكنهما لم يتوقفا عن التفكير. إن دراسة كتاباتهما، وقبل كل شيء دراسات مناشير وخطب تروتسكي العظيمة التي تم إعدادها لمؤتمر الأممية الشيوعية ما تزال تثير الإعجاب بعمق واتساع رؤيتها الإستراتيجية. فمن بين كل القوى العاملة في خضم هيجان الثورة والحرب الأهلية كان البلاشفة الوحيدين القادرين على صوغ خط إستراتيجي وفر يافطة وحدت عشرات ملايين الناس. وكما لاحظ إدوارد هاليت كير محقاً فإن نجاح البلاشفة في الثورة إرتبط إلى حد ليس بالقليل بواقع أن عبقرية لينين كانت خلاقة بشكل عميق أكثر من أن تكون ذات سمة تدميرية.

إن تقليل هوبسمان من أهمية عناصر الوعي السياسي يجعل من المستحيل فهم كيف وصل البلاشفة إلى السلطة ولماذا إنتصروا في الحرب الأهلية.  إن كانت الأحزاب السياسية خاضعة لرحمة إنفجارات بركان التاريخ، فينتج عن هذا أن إنتصار البلاشفة كان إما ضربة حظ أو نتيجة لسوء طالع خصومهم، تبعاً لوجهة نظرك .

قدرية هوبسباوم

حين يُطبق موقف هوبسباوم على الحقبة ما بعد الثورية فإنه يخدم الدفاع عن الستالينية. إن مصير البلاشفة، الذي واجه قوى تاريخية عصية على التحكم لم يكونوا قادرين على الإستجابة لها إلا بإجراءات إرتجالية يائسة، قد حُسم عام 1921 وكما كتب هوبسباوم، ' في تلك الفترة كان مسارهم المستقبلي محدد بشكل مسبق بهذا القدر أو ذاك. [17]وفي مقال آخر صدر في ذات المجلد عبر هوبسباوم عن وجهة نظره بطريقة أكثر جزماً:' للأسف لا يمكن لي التفكير في أي توقع واقعي كان يمكن تصوره حول المستقبل بعيد المدى لإتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية شديد الإختلاف عما حدث فعلاً.' [18]

وعليه، فإن مسار التاريخي السوفيتي كان يمكن أن يتطور وفق خطوط أقل فظاعة، فإن مصير التاريخية كان قد حُسم بشكل أساسي عام 1921. لعب ستالين ببساطة، وبكثير من العنف، اللعبة التي إعتادها في مسار التطور السابق. تركنا هوبسباوم مع تنويع ' يساري' للأطروحات الرجعية المعيارية ومفادها أنه لم يكن هناك بديلاً عن الستالينية. هو لم يوافق على أن الشمولية الستالينية كانت النتاج الحتمي للماركسية في حد ذاتها. بل هو مال إلى طرح أن الستالينية برزت بشكل حتمي ومن دون هوادة من الظروف التي واجهها الإتحاد السوفيتي بعد 1917. وأن الحديث عن بديل للمسار الذي وقع يعني الوقوع في التخمينات. إن الظروف الموضوعية لم تسمح ببديل. كان من المكن أن تكون سياسات النظام أقل فظاعة، إنما لن يكون هذا سوى فرق في الدرجة لا في النمط.

ما هي إختلافاتنا مع هذا التقييم؟ فبعد كل شيء شدد التروتسكيون على أن الإنحدار الستاليني للحزب البلشفي وللدولة السوفيتية، كان في التحليل الأخير،نتيجة ظروف غير ملائمة. وكانت تلك الظروف ، بشكل رئيسي، هي تخلف روسيا التاريخي؛ والخراب الإقتصادي الذي تسببت به سبع سنوات متواصلة من حرب عالمية، وثورة ، وحرب أهلية، و العزلة التي فرضت على الدولة السوفيتية نتيجة هزائم الطبقات العاملة الأوروبية، ولا سيما الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى.

وفي جميع الأحوال، ثمة فرق هام بين الإقرار بالأسس المادية للستالينية وبين الإعلان أنه لم يكن من الممكن بناء على تلك الأسس إلا الخروج بنتيجة واحدة، هي الإنحدار البيروقراطي غير العكوس لإتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية وإنهياره لاحقاً في 1991. ثمة شيء صغير مفقود في هذا التصور حول التاريخ السوفيتي : دور السياسات، والبرنامج، وصراع التيارات، ودور الوعي وأهمية القرارات المتخذة من قبل أفراد، بدافع من رؤية سياسية متفاوتة الدرجة حول السيرورة التاريخية. لقد تم تحويل التاريخ إلى سيرورة مجردة وفائقة الحتمية، أي أن كل شيء كان محدداً من قبل قوى عمياء عصية على السيطرة. التاريخ جرف البلاشفة إلى السلطة، ثم ،إن لم نقل أنه جرفهم خارج السلطة، فقد قذفهم إلى طريق مسدود.

سبق لهوبسباوم أن أخبرنا أنه' يجب أن نكف عن التفكير بالثورة الروسية وفق تعابير البلاشفة أو وفق أهداف أي أحد آخرونواياه، وإستراتيجيته بعيدة المدى، وغير ذلك من إنتقادات ماركسية للممارسة'   [19].وهذا يعني فعلياً أنه لا يوجد أي سبب للإهتمام بالصراعات السياسية التي إندلعت داخل الحزب البلشفي في العقد الثاني من القرن العشرين. إن كتابات تروتسكي حول الستالينية، وإنتقادات السياسة السوفيتية، والصراع بين الإستاراتيجية بعيدة المدى التي طرحها وتلك الخاصة بالقيادة البلشفية، هي في نظر هوبسباوم ذات أهمية ضئيلة للغاية. كان مصير الإتحاد السوفيتي قد حُسم عام 1921، ولم يكن هناك أي أمر يمكن للنظام الشيوعي القيام به، بغض النظر عمن يمسك بالسلطة، يمكن أن يؤدي إلى إختلاف جوهري.

يشك المرء في أن هوبسباوم يعتقد أن ما يناقض حججه لا يرتقي إلى مستوى تخمينات التروتسكيين المتشددين. وعلى هذا لا يكون من المفاجىء أن محاضرته لم تشر على الإطلاق لصراع تروتسكي والمعارضة اليسارية. وفي الواقع، في كتاب من 300 صفحة من المحاضرات والمقالات التي كان موضوعها المركزي مكانة ثورة أكتوبر في تاريخ القرن العشرين، لم يرد اسم تروتسكي إلا مرة واحدة.

لم يعد هوبسباوم الماركسية مسؤولة عن الستالينية. لكن إن كانت الديكتاتورية الستالينية هي النتيجة المنطقية الوحيدة لثورة أكتوبر، سيكون من الصعب القول بأن إستيلاء البلاشفة على السلطة خدم  مصالح الطبقة العاملة وقضية التقدم التاريخي. ولا يبقى أمام المرء سوى إستنتاج، لمح إليه هوبسباوم بقوة، ومفاده أن ثورة أكتوبر 1917 كانت خطأً مروعاً وأنه كان على الأرجح من الأفضل لو أن كامنييف، معارض الإنتفاضة تمكن بدلاً من لينين من التفوق في النقاشات داخل الحزب البلشفي.

لا يقتصر الأمر على أن طرح هوبسباوم يشكك في شرعية ثورة أكتوبر؛ بل أن صلاحية المشروع الإشتراكي بأسره قد وضع تحت غيوم شديدة القتامة. من العبث تصور أن أي ثورة إجتماعية يمكن أن تقع تحت ظروف مثالية إلى حد ضمان نجاحها اللاحق. إنما من الطبيعي أن الثورة ، التي لا يمكن تصورها دون تفكيك شامل للآليات السياسية والإقتصادية للنظام القائم وإنهيارها، هي قفزة في المجهول. والموضوع سيكون مفعم بالمخاطر. سيكون من الجنون المطبق إن لم يكن إنعدام مسؤولية إجرامي بالنسبة لمنظمة سياسية أن تزج الطبقة العاملة في إنتفاضة ثورية إن لم تكن مقتنعة بإمكانية السيطرة على الوضع، و التأثير على تطوره اللاحق وإخضاعه لأهداف البرنامج الثوري.

وفي جميع الأحوال ما هي القاعدة المنطقية لمثل هذه الثقة لو أن دروس أكتوبر 1917 وتداعياتها كانت ببساطة أن الأحزاب الثورية خضعت للظروف الموضوعية؛ وأنها كانت على الأرجح أدوات تعيسة لسيرورة تاريخية فرضت عليها تنفيذ اي أوامر صدرت بغض النظر عن مدى فظاعتها؟

وعليه فإن هوبسباوم لا يكتفي بتقديم تبريراً لما قام به ستالين ' إستجابة للظروف الموضوعية التي فُرضت عليه'، بل إنه يبرر الحجة الكلاسيكية الليبرالية البورجوازية ضد الثورة بوصفها أداة تغيير إجتماعي. لكن موقف هوبسباوم يستند، في المقام الأول، إلى منهج مغلوط، وثانياً إلى ما يشبه زلة في معالجة الوقائع. ولا يوجد ما يجمع قدريته بمنهج المادية التاريخية. لقد أشار هوبسباوم إلى الظروف الموضوعية كما لو كانت مجموعة من أوامر التقدم التي لاتترك للأحزاب والناس سوى خيار تنفيذ ما يقال لها. إن مثل هذا التصور تبسيطي إلى الحد الأقصى.

إن الإنقسامات التي شقت الحزب الشيوعي الروسي بعد 1921 تشهد على واقع أن الظروف الموضوعية ولدت مجموعة واسعة من الإستجابات. إن كيفية إستجابة قادة الحزب للمشاكل، والتيارات التي تطورت حول تلك الإستجابات لا يقتصر على عكس تقييماتهم المتباينة للظروف الموضوعية، بل ويعكس أيضاًعلاقتهم بمختلف القوى الإجتماعية التي تبادلت العداء.

مالت إستجابة ستالين ' للظروف الموضوعية' بشكل متزايد العلنية إلى عكس الموقف الإجتماعي وتمثيل مصالح البيروقراطية الحكومية النامية التي تم توظيف أعضائها من الفئة الدنيا من الطبقة الوسطى المدينية (من سكان المدن؟). بالمقابل فإن سياسات تروتسكي والمعارضة اليسارية، عبرت بشكل عال من الوعي عن مصالح البروليتاريا الصناعية. وبما ان التفكك الإقتصادي والإجتماعي الناتج عن الحرب الأهلية أضعف هذه القوة الإجتماعية بشكل جدي، وهي التي كانت النصير الرئيسي للسياسات الماركسية في إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية، فلهذا مضت شروط تطوير سياسات إشتراكية وتطبيقها في إتجاه غير ملائم. .

ومع ذلك فلا يجب مماثلة تلك  ' الشروط غير الملائمة'، بظاهرة  أرصاد جوية لا تخضع للسيطرة، بل يجب إستخدام تعابير سياسية ملموسة وبالتالي التعامل معها بوصفها تعبيراً عن صراع قوى إجتماعية متعارضة.

ومع ضعف وضع البروليتاريا الصناعية، التي بعثرتها الحرب الأهلية، واجه القادة الماركسيون معارضة متصاعدة لا تعرف الرحمة من تلك العناصر داخل الحزب وبيروقراطية الدولة الذين رأوا أن السياسات المطروحة من قبل المعارضة اليسارية تهدد ما اعتبروه مصالحهم المادية. كان هذا هو جوهر الصراع السياسي الذي اندلع داخل الحزب الشيوعي وداخل الأممية الشيوعية خلال العقد الثاني من القرن العشرين.

ماذا لو إنتصرت المعارضة اليسارية؟

سأطرح عند هذه النقطة بعض التصريحات التي سينظر إليها البروفسور هوبسباوم وبصفها تخمينات غير جائزة وتتجاوز حدود التحليل التاريخي الصحيح:

أولاً، لو ان المعارضة اليسارية إنتصرت في الصراع داخل الحزب الشيوعي الروسي، لكانت قضية الإشتراكية الأممية تعززت بشكل لا يقاس. وعلى الأقل كان يمكن تحاشي كوارث الثورات المضادة خلال العقد الثالث من القرن العشرين ، وقبل كل شيء منع إنتصار الفاشية في ألمانيا.

ثانياً، مع إنتصار المعارضة فإن سمة الإقتصاد السوفيتي والحياة السياسية كانت ستتطور وفق خطوط أكثر تقدمية بشكل لا يمكن مقارنته. وبالتالي فإن حجة إنحدار إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية إلى الشمولية البهيمية في العقد الثالث من القرن  العشرين كان محكوماً بشكل مسبق 'بالظروف الموضوعية' ببساطة ما كانت لتصمد.

إن واقع أن ' الظروف الموضوعية' صارت غير ملائمة بشكل متصاعد لتطور إتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفيتية وفق خطوط إشتراكية، كان قبل أي أمر آخر النتيجة السياسية لهزيمة تروتسكي والمعارضة اليسارية.

ثالثاً، وهذه النقطة نابعة من النقطتين السابقتين، فإن هزيمة تروتسكي والمعارضة اليسارية حضرت المسرح لكل النتائج المأساوية التي حلت بالإتحاد السوفيتي وبالطبقة العاملة الدولية وبالحركة الإشتراكية؛ الأمر الذي مازلنا  نعيش في  ظله حتى اليوم . أتمنى إضافة نقطة رابعة: ما من مناقشة حول مصير الإشتراكية في القرن العشرين تستحق أن تؤخذ بجدية إلا إذا تعاملت، بالعناية المطلوبة، تداعيات هزيمة تروتسكي. إنه لمن الضروري ألا يقتصر تعاملنا ' عما حدث في ظل ستالين' ؛ بل أن يشمل ايضاً ' ما كان ممكن أن يحدث ' لو أن تروتسكي قد انتصر.

هل هذه مغامرة تخمينية مستحيلة؟ على المرء الإعتراف بأنه من المنطقي إن كانت مثل هذه المحاولة مشروعة فكرياً. من المؤكد أن هناك خطر أنه خلال التعامل مع ما هو مخالف للوقائع أن نجد أنفسنا متورطين في تخمين لا مبرر له وفي نمط تفكير يغلب عليه طابع التمني.

عند تصور مسارات بديلة للتطور التاريخي يجب علينا ألا نتجاوز مجموعة من الإحتمالات كانت واردة في ذلك الوقت. كما يجب علينا التمسك بحس راسخ، مستند إلى دراسة شاملة للأسس الإقتصادية وفهمها، والمستوى التقاني والتركيب الطبقي في مجتمع محدد، لحدود التي يمكن ضمنها للنشاط الذاتي أن يؤثر في ذلك المحيط القائم موضوعياً ويغيره.

إنحرافان تاريخيان: إنكلترة في 1592 وفرنسا في 1794.

يمكن،على سبيل المثال، لمؤرخ لعصر سلالة تودور إن إهتم بالأمر، التفكير بما كان يمكن أن يحدث لو أن كاثرين أوف آراغون، زوجة هنري الثامن الأولى، أنجبت مولوداً ذكراً. أي تأثير كان سيحدث على تطور إنكلترة؟ ثمة بعض الافتراضات المهذبة الممكنة إنما لا يمكننا المضي بعيداً قبل أن نجد أنفسنا في ميدان له سمة تخمينية عالية. من المرجح أن يكون صحيحاً واقع أنه لو أن كاثرين أنجبت صبياً، وأن هذا الصبي تجاوز الطفولة، لما وجدت نفسها محكومة بالطلاق من زوجها الشهواني. ولهذا فإنه  من الوارد، لكن  ليس مؤكداً على أي وجه، أن سنوات حكم هنري المتبقية  ما كانت لتكون، على الأقل في ما يتعلق بحياته الشخصية، متعددة الألوان كما صارت.

وفي جميع الأحوال، هل يمكننا المضي قدماً لنستنتج  أنه لو أن إنكلترا تحاشت أزمة الزواج الملكية، لكانت ستظل بلداً كاثوليكياً؟ هذا بالتأكيد طرح يتصف بقدر عال من التخمين وخاضع للتساؤل. إن الصراع حول الطلاق أشعل أزمة سياسية كانت متجذرة بشكل عميق في السيرورة الإجتماعية- الإقتصادية التي كانت منتشرة عبر أرجاء أوروبا. إن السؤال المهم فعلاً والجوهري الذي  يجب الإجابة عليه حين دراسة حكم هنري الثامن هو بالتحديد لماذا أن ما بدأ بوصفه أزمة لا تتصف بفرادة خاصة حول وراثة السلطة تحول إلى صراع بين الكنيسة والدولة مع تداعيات ثورية. فعلى هذه الخلفية كانت دوافع الأفراد، الذين كانوا إلى حد بعيد غير واعين للأبعاد التاريخية لأفعالهم، لا تبدو أنها كانت حاسمة إلى هذا الحد. وحتى إذا مضينا قدماً عدة قرون لنصل إلى حقبة الثورة الفرنسية، نجد ان الشخصيات التاريخية إستجابت بقدر محدود من الوعي لوطأة القوى التاريخية التي ضغطت عليها. من المؤكد أن هناك تباين كبير بين الوعي التاريخي لروبسبييرمقارنة بوعي هنري الثامن بل وحتى أوليرفر كرومويل. في المرحلة الأخيرة من القرن الثامن عشر كان الإدراك الواعي للقوى والمصالح الإجتماعية بالتأكيد أشد حدة مما كان عليه قبل قرن أو قرنين. إنما قوة الضرورة التاريخية لم تكن قد ترجمت بعد إلى أشكال ملائمة من التفكير العلمي، وهو الإنجاز الذي لم يصبح ممكناً إلا مع تطور الرأسمالية وبروز الطبقة العاملة. وعليه، ففي كل مرحلة من الثورة الفرنسية وعلى الرغم من بريق شخصياتها القيادة، لكن الأحداث تشكلت تحت ضغط قوة الضرورة التاريخية المتفوقة.

إن هذا لا يعني أن الأمور لم يكن من الوارد أن تسير بشكل مختلف. ويمكن للمرء تخيل أي عدد من 'وقائع مضادة' كان يمكن أن تغير مسار الأحداث. لكن بالإستناد إلى مستوى التطور الإجتماعي والمستوى الذي كان ما يزال محدوداً من تبصر المرء في قوانين التطور التاريخي الأساسية، فإن هذه التغيرات في مسار الأحداث لم تكن ستتطرح من قبل اللاعبين السياسيين ذاتهم بأي شكل يقارب وجود فهم واضح للتداعيات التاريخية لأفعالهم.

ففي فرنسا عام 1794، لم يكن هناك أسس موضوعية، وبالتالي لم يتوفر المستوى المتوافق معها من التبصر العلمي بحيث يتم تحديد واع  للوضع، وبالتالي للتصرف على أساس فهم منطق السيرورات الإجتماعية الإقتصادية، بهدف التاثير على مسار التطور التاريخي. ما من شك أن أعضاء لجنة السلامة العامة تصرفوا بوعي، ومع إحساس غير سائد بالقوة الإجتماعية الناشطة في الثورة. فروبسبيير على سبيل الماثل، كان بالتأكيد مدركاً  أنه كان هناك داعمون لدانتون ضمن فئات البورجوازية. وهو تحسس المخاطر التي يمكن أن تنتج عن المواجهة مع المتساهلين. لكن لا يمكن أن يكون روبسبيير مدركاً، وفق المفهوم الحديث، للتداعيات التاريخية لأفعاله. ما كانت الشروط المسبقة لتطور المادة التاريخية نضجت بعد، أما القوى الحقيقية التي وجهت السلوك التاريخي فكانت ما تزال تُعد وتُفسر بأشكال إيديولوجية غامضة متنوعة ( المنطق، وحقوق الإنسان، الشرف، والإخاء)

بروز الوعي التاريخي الذاني.

وعليه فإن أي مناقشة لمسارات تاريخية بديلة للثورة الفرنسية تميل بسرعة  لتصبح فرضيات ذات سمة تخمينية عالية. وبقدر ما تعجز الشخصيات القيادية عن التنبؤ بتداعيات أفعالها الخاصة، بقدر ما نقدر الإدعاء بأي درجة من الثقة أن إنتصار جناح من اليعاقبة بدلاً من غيره كان ليغير بشكل جوهري المسار التالي للتاريخ.، ناهيك عن القدرة على تحديد كيف كان ليغيره بدقة.

ومع مجيء الماركسية خضعت علاقة الإنسان بتاريخه الخاص إلى تحول عميق حيث حاذ الرجل على قدرة تفسير تفكيره وأفعاله بوعي بتعابير  اجتماعية- اقتصادية، وبذلك، امتلك القدرة على تحديد موقع نشاطه الخاص ضمن سلسلة من السببة التاريخية.

ولهذا فإن إعتبار وجود نتائج بديلة للصراع داخل الحزب الشيوعي الروسي وداخل الأممية الشيوعية ليس محاولة تخمينية يائسة. هنا لم يكن الحال كما كان عليه في فرنسا قبل 130 سنة، أي أجنحة سياسية تتلمس طريقها في الظلام، تحركها قوى اجتماعية – اقتصادية لم تكن تدري بها، وتحدد وتسوغ أفعالها إلى حد بعيد بتعابير مثالية.

فبالأحرى، دخل ليون تروتسكي والمعارضة اليسارية الصراع مزودين بفهم بعيد المدى بشكل غير عادي للتداعيات التاريخية للقضايا التي واجهت الإتحاد السسوفيتي والحركة الإشتراكية الدولية. ففي تحليله لكل من تناقضات السياسة الداخلية لإتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفيتية وكذلك على المستوى الدولي وفي التحذيرات التي وجهها إلى الستالينيين لم يترك تروتسكي شكاً حول التداعيات اللاحقة لتنامي سلطة البيروقراطية وللسياسات الخاطئة للقيادة السوفيتية. 

'هل تتضمن البيروقراطية خطر الإنحدار أم هي لا تضمن ذلك؟' سأل تروتسكي في ديسمبر 1923. ' أي شخص ينكر هذا سيكون أعمى.' [20]

كُتب هذا في الجولة الإفتتاحية في الصراع ضد النظام الستاليني الصاعد.  حتى في تلك المرحلة المبكرة تمكن تروتسكي من طرح إحتمال أن' الإنحدار التدرجي' للحزب الشيوعي يمكن أن يصبح أحد ' المسارات السياسية التي يمكن أن يسلكها إنتصار الثورة المضادة'...[21]

وعلى الرغم من جدية الخطر، حاجج تروتسكي أن التبصر السياسي الواعي المستند إلى تحليل ماركسي يمنح الحزب إمكانية تجاوز الأزمة:

إذا عرضنا هذه الفرضيات بصراحة، فإن هذا لايعود بكل تأكيد لأننا نعتبرها مرجحة تاريخياً( بل على العكس إحتمال وقوعها هو عند الحد الأدنى)، لكن لأن مثل هذه الطريقة في طرح الأسئلة هي الوحيدة التي تجعل من الممكن تحديد توجه تاريخي متعدد الجوانب وأكثر صحة، وبالتالي، تبني كل إجراءات الوقاية الممكنة. ويكمن تفوقنا بوصفنا ماركسيين في قدرتنا على تمييز والتقاط التوجهات الجديدة والأخطار الجديدة حتى حين تكون في مرحلتها الجنينية. [22]

فمن خلال تقديرنا إن كان إنتصار المعارضة اليسارية كان ليغير بشكل ملموس مسار تاريخ السوفييت والعالم، نقترح التعامل بشكل جاد مع ثلاث مواضيع كانت ذات دلالة هامة في تحديد مصير إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية وهي: 1) السوفييتات والديمقراطية الحزبية الداخلية، 2) السياسة الإقتصادية، 3) السياسة الدولية. 

ومن الجدير بالذكر أنه أياً من التيارات السياسية والفكرية التي تصر، بشكل أو بآخر، على أن الإتحاد السوفيتي كان محكوماً  عليه بالفشل منذ البداية، إن كان بسبب ' العيوب القاتلة في الماركسية' أو بسبب الظروف المستحيلة التي واجهت البلشفية، لم يحاول ابداً تحليل السياسات التي طرحتها المعارضة التروتسكية بحيث ظل حتى هذا اليوم ' الأمر العظيم المسكوت عنه' في التاريخ السوفيتي. وفي الحالات النادرة التي تم الإشارة إليه كان يتم تحريف أعمال تروتسكي وتزييفها. 

لكن الصمت والكذب يمثلان بطريقتهما الخاصة نوعاً من التقدير للأهمية التاريخية لنضال تروتسكي ضد الستالينية. وكل الادعاءات بأن انهيار اتحاد الجمهوريات السوةفيتية الإشتراكية كان محتوماً، وأن الثورة الإشتراكية هي بطبيعتها الخالصة مشروعاً طوباوياً، وأن ثورة أوكتوبر قادت الطبقة العاملة الروسية إلى طريق مسدود لا خلاص منه، وأن الماركسية تقود حتماً إلى الشمولية إلخ... قد تم دحضها بالسجل التاريخي الذي تركته المعارضة اليسارية. وهذا السجل يمثل، في  السياسات التي طرحها، معارضة سياسية قوية  حادة وقابلة للحياة نظرياً في مواجهة البيروقراطية الستالينية.

الديمقراطية الحزبية الداخلية 

فلننتقل الآن إلى المواضيع الثلاث التي ذكرتها على وجه الخصوص. نبدأ قبل أي شيء بمسألة الديمقراطية داخل الحزب وفي السوفيتات. هناك واقع تاريخي، أثبتته وثيقة من عام 1923 سبق لي الإشارة إليها تتضمن أن تروتسكي إكتشف في مرحلة مبكرة من الصراع، حتى قبل أن يدخل تعبير الستالينية في الإستخدام على المستوى السياسي، أن نمو البيروقراطية والإستهانة بالديمقراطية  الحزبية الداخلية شكلا تهديداً قاتلاً للبلشفية و لإستمرار النظام السوفيتي. وقد ركز تروتسكي والمعارضة اليسارية، في عدد لا يُحصى من الوثائق، على أن صياغة السياسية السوفيتية بشكل ذكي وصحيح، ناهيك عن التأهيل السياسي  للكادر الماركسي ولأوسع فئات من الطبقة العاملة، لا يمكن تصوره بدون نظام ديمقراطي داخل الحزب البلشفي. وكتب تروتسكي عام 1923: 

إن التناقضات والتباينات هي التي تصوغ حتمياً الرأي العام في الحزب. إن حصر هذه السيرورة ضمن الجهاز الحزبي وحده، الذي يتم تكليفه عندها بتزويد الحزب بثمرة جهده على شكل شعارات، وأوامر، إلخ..، يعني فرض حالة عقم إيديولوجي وسياسي على الحزب... ويجب على الهيئات الحزبية القيادية الإستجابة لأصوات جماهير الحزب وعدم إعتبار كل إنتقاد تعبيراً عن إنقسام والتسبب في دفع أعضاء الحزب الواعين والمنضبطين بإتجاه حلقات مغلقة تدفعهم نحو تكتلات'. [23]

رفض تروتسكي مزاعم الجهار الحزبي الهادفة لخدمة مصالحه الذاتية بأن معارضة قرارات الهيئات القيادية للحزب كانت بالضرورة تعبيراً عن مصالح الطبقات المعادية:

من الوارد كثيراً أن يكون الحزب قادراً على حل مشكلة محددة بطرق مختلفة ، ويمكن أن تظهر التباينات أي من هذه الطرق هي الأفضل، والأسرع، والأكثر إقتصادية. إن هذه التباينات يمكن، تبعاً للمسألة، أن تمس فئات واسعة من الحزب، إنما هذا لا يعني بالضرورة وجود تيارين طبقيين. 

وما من شك أن علينا أن نواجه في المستقبل ليس إعتراضاً واحداً بل عشرات آلاف الإعتراضات، لأن دربنا صعب ولأن المهام السياسية وكذلك القضايا الإقتصادية للتنظيم الإشتراكي ستولد بإستمرار إختلافات في الرأي وتكتلات مؤقتة حول الرأي السياسي. إن التحقق السياسي من كل تلونات الرأي من خلال التحليل الماركسي سيكون على الدوام أفضل إجراءات الوقاية الفعالة في حزبنا.إنما هذا هو التحقق الماركسي الملموس الذي يجب ان نعود إليه وليس الجمل النمطية التي هي آلية الدفاع البيروقراطية. [24]

إن طبيعة نظام الحزب تؤثر بشكل مباشر على مهام البناء الإشتراكي. وسبق لتروتسكي أن شرح في مناسبات لا تحصى أن التخطيط الإقتصادي يقتضي بطبيعته  المشاركة الديمقراطية للجماهير المعنية  في عملية صنع القرار. وهذا أمر لا يتوافق مع الأوامر البيروقراطية.

وهكذا، حتى حين عرض تروتسكي تقييماً بعيد النظر لتناقضات الاقتصاد السوفيتي وقدم مقترحات ملموسة لتحسينه، فإنه شدد على أن كل من صوغ سياسة إقتصادية صحيحة وتطبيقها مرتبط بنظام ديمقراطي للحزب.

لم تكن أهمية الديمقراطية الداخلية في الحزب ببساطة واحدة من المبادىء المجردة،  ولم تكن أهميتها العملية محصورة في تأثيرها المباشر في ميدان السياسة الإقتصادية. و ما صار على المحك لاحقاً في النضال الذي خاضه تروتسكي دفاعاً عن الديمقراطية السوفيتية كان مصير الموروث الكامل للثقافة الإشتراكية وللفكر الثوري اللذان تطورا ضمن الحركة العمالية الدولية خلال القرن السابق. إن البيروقراطية تعاملت مع الماركسية تعاملها مع جثمان لينين الذي تم تحنيطه و جرى التعامل معه بطقوس شبه صوفية. أما بعد عام 1927 فكفت المعارضة اليسارية، لأسباب ومساع مختلفة، عن لعب أي دور في صوغ السياسية السوفيتية. إن هزيمة المعارضة قرعت ناقوس الموت لتطور الفكر النقدي في كل نطاق النشاط الفكري والثقافي تقريباً.

السياسة الإقتصادية.

علي هنا الإنتقال إلى الموضوع الثاني، وهو السياسة الإقتصادية للمعارضة اليسارية. وهذا موضوع واسع غير قابل للإختصار على شكل بعض الإقتباسات ومع ذلك سأحاول عرض العديد من الإقتباسات التي تشير على الأقل  إلى الفرق الواضح بين مقاربة المعارضة لمشاكل تطور الإقتصاد السوفيتي ومقاربة البيروقراطية الستالينية.

إن الصراع بين المعارضة والستالينية حول السياسة الإقتصادية تركز على القضية الأكثر جوهرية في المنظور التاريخي وهي هل كان من الممكن للإتحاد السوفيتي بناء إشتراكية على أساس موارده الوطنية، أم أن التطور الإشتراكي لإتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية، إرتبط في التحليل الأخير بإنتصار الثورة البروليتارية في البلدان الرأسمالية المتقدمة في غرب أوروبا وفي شمال أمريكا؟ فحتى عام 1924 كان المنطلق غير قابل للنقاش في السياسة السوفيتية في الواقع هو المشروع الثوري الكامل الذي باشره البلاشفة في أكتوبر 1917 ومفاده أن الإستيلاء على السلطة في روسيا لم يكن سوى ' الطلقة الأولى' في الثورة الإشتراكية العالمية. حيث أن دولة إشتراكية منكفئة على ذاتها، لا سيما في بلد متأخر إقتصادياً وثقافياً مثل روسيا، لم تكن قابلة للحياة. إن إدخال ستالين، في خريف 1924 لـ' نظرية' الإشتراكية في بلد واحد التي لم تكن في الحقيقة 'نظرية ' بأي شكل من الأشكال، بل كانت بالأحرى إستجابة براغماتية خالصة لهزيمة الثورة الألمانية خلال العام السابق والأفول المؤقت للحركة الثورية في أوروبا الغربية الأمر الذي تعارض مع التوجه الأممي الذي طرحه لينين وتروتسكي.

لم ينكر البروفسور هوبسباوم أن سياسة ' الإشتراكية في بلد واحد'  كانت ابتعاداً رئيسياً عن الرؤية الأصلية لثورة أكتوبر. ومع ذلك فقد أشار إلى أن هذه الرؤية لم تكن واقعية تماماً نظراً لأن الثورة الروسية كانت محكومة بشكل حتمي ببناء إشتراكية في بلد واحد، أو محاولة ذلك على الأقل. وإذا ضُغط عليه للدفاع عن هذا الموقف فأنا أشك بأنه سيكون مجبراً على التذرع بأنه في حين أن العقيدة النظرية تقف بشكل عام إلى جانب تروتسكي أما الواقع العملي فكان إلى جانب ستالين وأن مفهوم تروتسكي حول الثورة العالمية مقنع لدى قراءته إنما ليس لديه سوى القليل ليقدمه ضمن سياق الوضع السياسي والإقتصادي الذي واجه إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية خلال منتصف العقد الثاني من القرن العشرين. وعليه فإن الإدعاء بأن سياسات تروتسكي مثلت بديلاً حقيقياً عن تلك التي تبناها ستالين يعني الإنغماس في أوهامنا الثورية الخاصة بنا.

لست متأكداً إن كان هوبسباوم سيحاجج بهذه الطريقة بالتحديد. فأنا إلى حد ما أخوض في ' تخمينات'. لكن حتى ولم لم تكن هذه هي نظرة هوبسباوم، لكني سمعت تعبيراً عنها في مرات عديدة من قبل مؤرخين بورجوازيين ناهيك عن المدافعين عن الستالينية.

تتمثل المشكلة الأساسية في هذه الحجة في أنها تنطلق من مفهوم نمطي متحيز لوجهات نظر  تروتسكي وطبيعة خلافاته مع ستالين. إنه لمن الأسهل بكثير  بخس منظور تروتسكي في حال تم تحجيمه ليصبح رغبة متشوقة ورومانسية لإجتياح  تحصينات العالم الرأسمالي، بالتعارض مع  إنشغال ستالين الأكثر ذكاء ورصانة بتطور الإتحاد السوفيتي، مستنداً إلى تقدير واقعي للموارد القومية التي بحوزته.

لا يمكنك إجبار أولئك اللذين يكتبون عن التاريخ السوفيتي على قراءة ما كتبه تروتسكي. ومع ذلك فإن من يدرسون مقالاته وكتبه بالجدية التي تستحقها، وتروتسكي كان في نظري واحداً من أعظم المفكرين والكتاب السياسيين في القرن العشرين، سيكتشفون أن التعبير الأسمى عن فكر تروتسكي الثوري والأممي كان بشكل خاص تحليلاته لتناقضات ومشاكل الإقتصاد السوفيتي.

لا يوجد شيء في كتابات تروتسكي يدعم الزعم بأنه إعتقد أن السياسة الإقتصادية السوفيتية يجب أن تقتصر ببساطة على إنتظار إستيلاء الطبقة العاملة في غرب أوروبا وفي الولايات المتحدة على السلطة. ففي الواقغ تتمثل الفرضية الرئيسية في معالجته لمشاكل الإقتصاد السوفيتي في أن على إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية وضع سياسات تتيح للإتحاد السوفيتي الإستمرار والتطور خلال حقبة إنتقالية قد تطول أو تقصر، أي مرحلة لا يمكن توقع مدتها، حيث  يجب على الإتحاد السوفيتي خلالها أن يكون قائماً وسط محيط إقتصادي دولي خاضع لهيمنة النظام الرأسمالي. فعلى الرغم من برنامج ' الإشتراكية في بلد واحد' لكن البيروقراطية الستالينية ظلت خلال العقد الثاني من القرن العشرين متمسكة، ولكن بشكل غير متسق، بإلتزام إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية بالثورة الأممية. إن أهم إنتقادات تروتسكي لهذا البرنامج، من وجهة نظر التطوير الإقتصادي، لم يكن أنه أنكر بحزم أهمية الثورة العالمية، على المدى الطويل على الأقل، بالنسبة لمصير الإتحاد السوفيتي. بل على  أنه شدد على أن التوجه القومي الذي يتضمنه برنامج ' الإشتراكية في بلد واحد سيقود إلى سياسات متمحورة خول الذات تبخس بشكل خطير التأثير المباشر وغير المباشر للإقتصاد العالمي على الإتحاد السوفيتي.

قد يبدو أن هناك مفارقة في أن تروتسكي، المدافع العظيم عن الثورة العالمية، شدد أكثر من أي زعيم سوفيتي آخر في ذلك الوقت على الأهمية الكبيرة للروابط الإقتصادية الوثيقة بين إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية والسوق الرأسمالية العالمية. وهو شدد على أن التطور الإقتصادي السوفيتي، يتطلب كل من الوصول إلى موارد السوق العالمية والإستخدام الذكي للتقسيم الدولي للعمل. إن تطوير التخطيط الإقتصادي يتطلب حداً أدنى من معرفة الأفضليات التنافسية والكفاءة على المستوى الدولي. إن تبديد الاتحاد السوفيتي لموارده المحدودة في جهد ضائع لتقليد، على الأرض السوفيتية، ما يمكن الحصول عليه بتكاليف أقل من السوق العالمية، لا يخدم أي مبرر عقلاني. كتب تروتسكي في عام 1927:

إن وضع أملنا على تطور الإشتراكية بصورة منعزلة وعلى تحقيق معدل تطور إقتصادي مستقل عن الإقتصاد العالمي هو أمر يشوه كل التوقعات. إنه يحرف قيادة تخطيطنا عن مساره، و لايقدم دلائل إرشادية لضبط علاقاتنا بالإقتصاد العالمي. نحن لا نمتلك طريقة لتحديد ما سنصنعه بأنفسنا وما سنجلبه من الخارج. إن التخلي النهائي عن نظرية إقتصاد إشتراكي معزول، سيعني، خلال بضع سنين، استخدام مواردنا بشكل عقلاني لا يمكن مقارنته، وعملية تصنيع أكثر سرعة، ونمواً أكثر ارتباطاً بالتخطيط وأكثر قوة في ميدان تصنيع آلاتنا. وسيعني نمواً أسرع في عدد العمال في الخدمة وانخفاضاً حقيقياً في الأسعار، وبكلمة فإن هذا سيعني تعزيزأصيل لمكانة الإتحاد السوفيتي في المحيط الرأسمالي.  [25]

إنتمى تروتسكي إلى جيل من الماركسيين الروس ممن إستخدموا الفرصة التي أتاحتها مرحلة النفي الثوري لمراقبة ودراسة متأنية لعمل النظام الرأسمالي في بلدان متقدمة. وهم لم يكونوا معتادين على ' فظائع' الرأسمالية التي وصفت كثيراً وحسب، بل وكذلك على إنجازاتها الإيجابية. إن الساعات التي لا تُحصى التي امضوها في دراسة كتابة رأس المال قد تم إثراءها بالعديد من السنوات في مراقبة عمل الرأسمال.  ولدى عودتهم إلى روسيا، وهذا ينطبق بشكل خاص على أولئك الذي كانوا أقرب شركاء تروتسكي خلال سنوات المنفى، حملوا معهم فهماً متماسكاً لمدى تعقد التنظيم الإقتصادي الحديث. لو أن الصراعات السياسية لم تستثمر الموضوع بمثل هذه التداعيات المأساوية بعمق، لكانت رفضت فكرة أن روسيا كانت قادرة على الإنتقال إلى الإشتراكية ببساطة من خلال تأميم وسائل الإنتاج التافهة الخاصة بها بوصفها فكرة مثيرة للضحك. وطرح تروتسكي شرطاً مسبقاً لتطور الإقتصاد السوفيتي وفق خطوط إشتراكية هو استيعاب الإقتصاد للتقنيات الأساسية للإدارة، والتنظيم والمحاسبة، والإنتاج الرأسمالية. 

ولا بد، في هذه المراجعة السريعة للتناقض بين سياسات تروتسكي الإقتصادية مع سياسات ستالين من اتناول مسألة التجميع. فكما هو معروف جيداً فإن الزراعة السوفيتية لم تتعاف أبداً بشكل كامل من التداعيات الرضية للتجميع الستاليني المتهور والفظ للزراعة بين 1929 و 1932. ومن الواضح، أن مقاربة مشاكل الزراعة السوفيتية بشكل أكثر عقلانية كان سيوفر على اتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية خسائراً لا تحصى وحلة احتضار لا نهاية لها. وفي هذا المجال بالتحديد تكتسي مسألة وجود سياسة بديلة دلالة تاريخية، ولهذا يتصرف المؤرخون يمينيو الهوى عموماً كما لو أنه لم يكن هناك بدائل قائمة.  وفي الواقع تم الترويج لادعاء أن التجميع انبثق من تبني ستالين، في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، برنامج المعارضة اليسارية حول التصنيع السريع. وفي الواقع عارض تروتسكي حملة التجميع المهووس  التي أطلقها الستالينيون وأدانها. على الرغم من الديماغوجية الإشتراكية التي رافقتها لكن تروتسكي حذر من أن السياسة التي طُبقت عبر تجاهل متهور للقدرات الإنتاجية الحقيقية في كل من الصناعة والريف، هي نتاج المفاهيم القومية والمناهضة للماركسية ' للإشتراكية في بلد واحد'التي تضمنت مسببات فشل برامج البيروقراطية الستالينية الإقتصادية. 

إعترف تروتسكي في نقد للتجميع الستاليني كُتب عام 1930، أنه دافع في ما مضى على تصنيع بإيقاع أسرع، وعن رفع نسب الضرائب على الفئات الأكثر ثراء من الفلاحين ( الغولاك) بهدف توفير الموارد لصالح تطوير الصناعة الثقيلة:

لكننا أبداً لم ننظر إلى موارد التصنيع بوصفها لن تنفذ. ولم نفكر ابداً بأن إيقاعه سيتم ضبطه بالإستناد إلى السوط الإداري وحده. وواظبنا على طرح ضرورة تحسين ظروف الطبقة العاملة بشكل منهجي بوصفه شرطاً أساسياً للتصنيع. كما لطالما عددنا التجميع مرتبطاً بالتصنيع. ونظرنا إلى إعادة بناء الإقتصاد الفلاحي بطريقة إشتراكية بوصفه إحتمالاً سيستمر سنوات عديدة.  ونحن لم نغمض أبداً أعيننا عن حتمية الصراعات الداخلية خلال إعادة الإعمار الإشتراكي لأمة مفردة. إن القضاء على تناقضات الحياة الريفية غير ممكن إلا بإزالة التناقضات بين المدينة والريف. ولا يمكن تحقيق هذا إلا من خلال ثورة عالمية. ولهذا لم نطالب ابداً بتصفية الطبقات وفق منظور الخطة الخمسية لستالين ولكريزانوفسكي. 

...إن قضية إيقاع التصنيع ليست مسألة خيال بيروقراطي، بل مسألةحياة وثافة الجماهير. ولهذا لا يمكن إعداد خطة بناء الإشتراكية وفق طريقة تغلب عليها قيادة بيروقراطية. يجب العمل عليها وتصحيحها بنفس الطريقة الوحيدة الممكنة لبناء الإشتراكية ذاتها أي من خلال ديمقراطية سوفيتية واسعة [26].

وكررتروتسكي نقده للتجميع الستاليني: 

ومرة بعد مرة نرفض بحزم مهمة بناء مجتمع إشتراكي قومي في ' أقصر فترة ممكنة'. نحن نربط التجميع والتصنيع برباط لا يُفصم مع الثورة العالمية. إن مشاكل إقتصادنا ستُحسم في التحليل الأخير على الساحة الحلبة الدولية. [27]

نحن لا ندعي، من خلال محاولة تصور كيف كان من الممكن أن يؤدي انتصار المعارضة اليسارية إلى تغيير تاريخ الاتحاد السوفيتي، لكن من الممكن تقديم صورة دقيقة حول كيف كان من الممكن تظور هذا التاريخ. ثمة استحالة في امتلاك القدرة على إعادة تركيب تفصيلية افتراضية للماضي بقدر إستحالة التنبؤ بالمستقبل. إن تطبيق مختلف السياسات بعد 1924 أدخل في المعادلة التاريخية قدر كبير من متغيرات جديدة سياسية، واجتماعية، واقتصادية كان من الممكن، ضمن تعقد تداخلاتها المتبادلة، أن تغير مسار الأحداث بطريقة لم يتوقعها بشكل كامل إولئك الذين التزموا بعملية إعادة تقييم بأثر رجعي  للبدائل. لكن نظراً لمبدأ 'الإرتياب' التاريخي فإن هذا لا يعني إستحالة قول أي شيء مُقنع أو متسم بالذكاء حول البدائل.ثمة أسس واقعية ونظرية متينة جداً لإستخلاص أن إنتصار المعارضة اليسارية كان ليجعل من المرجح بشدة حدوث تطور الإقتصاد السوفيتي بطريقة أكثر عقلانية، وإنتاجية وإنسانية.  وقد سعى هوبسباوم لتسليط الضوء على هذا الإحتمال من خلال التصريح بأن التصنيع تطلب ' قدراً كبيراً من الإكراه'. والسؤال الوحيد هو مقدار هذا الإكراه. لكن، كما أثبت تاريخ إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية، فإن هذا ليس بالسؤال الصغير. ويجب عدم نسيان العلاقة الدياليكتيكية بين الكمية والنوعية. فثمة تباين عميق بين رفع الضرائب المفروضة على فئة الفلاحين الأكثر ثراءً وبين ' التصفية الجسدية للغولاك بوصفهم طبقة'. ولو أن السياسة الإقتصادية للمعارضة اليسارية لم تنجز شيئاً أكثر من منع إرهاب التجميع الستاليني، وهو أمر لا يمكن تصور وقوعه لو أن المعارضة اليسارية انتصرت، لكان تم تجنيب اتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية كارثة وكل ما نتج عنها.

الاستراتيجية الدولية.

دعونا نلتفت الآن إلى تداعيات هزيمة ليون تروتسكي والمعارضة اليسارية على مصير الطبقة العاملة العالمية وعلى الحركة لإشتراكية العالمية. إن هذا البعد الدولي غير مدرج في تقدير هوبسباوم للبدائل المنافية للواقع. فمن خلال التمسك بموقف أن الإنهيار النهائي  لإتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية نتج حتمياً عن الظروف الموضوعية التي واجهها عام 1921 فإن هوبسباوم لم يبذل جهداً في تفحص كيف أثرت السياسات الدولية التي إتبعها النظام الستاليني على تطور الإتحاد السوفيتي. وهو مضى بعيداً جداً في إفتراض أنه كان هناك علاقة صغيرة بين السياسة الدولية والسياسة الداخلية: تمتلك الثورة الروسية تاريخين متشابكين يتعلقان بأثرها على روسيا وبأثرها على العالم. ويجب علينا عدم الخط بينهما.[28] 

لكن مثل هذا الفصل سيجعل الظاهرة الستالينية غير مفهومة. إن النظام الستاليني برز على أساس ردة فعل قومية روسية ضد الأممية الإشتراكية التي تجسدت في الحكومة البلشفية تحت قيادة لينين وتروتسكي. إن برنامج الإشتراكية في بلد واحد وفر غطاء لكل أولئك العناصر ضمن البيروقراطية ممن طابقوا بين مصالحهم المادية الخاصة وتطور إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية بوصفه دولة قومية قوية. حصلت البيروقراطية على امتيازاتها من خلال آلية ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. وكلما ازداد وعي البيروقراطية لأسس إمتيازاتها المرتبطة بالدولة- الأمة كلما تراجعت رغبتها بالمخاطرة بها لصالح ثورة عالمية. إن برنامج الإشتراكية في بلد واحد شرعن إخضاع مصالح الحركة الإشتراكية العالمية للمصالح القومية للدولة السوفيتية، كما تصورتها البيروقراطية. 

كانت تداعيات هزيمة المعارضة اليسارية على مستوى الصراع الطبقي الدولي تحديداً هي الأكثر مأسوية والأطول أثراً، ولهذا فإن سؤال إن كان من الممكن تطور إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية وفق مسارات مختلفة يكتسي عمقاً وجدية أكبر. ولطالما شدد تروتسكي في تحليله لنمو النظام الستاليني على أن ردة الفعل السياسية داخل إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية ضد برنامج وتقاليد ثورة أكتوبر تعززت بقوة نتيجة الهزيمة التي عانت منها الطبقة العاملة الدولية. إن النكسة الأولية التي عانت منها المعارضة اليسارية في أواخر خريف 1923 ارتبطت بشكل نهائي بهزيمة الثورة الألمانية الأمر الذي قضى على الآمال بأن العمال الأوروبيين سياتون في المستقبل القريب لمعاونة إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية. إن هذا المناخ هو الذي أوجد جمهوراً أوسع للمنظور القومي المتعلق بالإشتراكية في بلد واحد. إن الإرتباك السياسي الذي أنتجه الخط القومي للقادة السوفييت داخل الأممية الإشتراكية، قاد بالمقابل إلى المزيد من هزائم الطبقة العاملة خارج اتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية. وأدت كل واحدة من تلك الهزائم إلى تشديد عزلة روسيا السوفيتية، وإلى المزيد من تآكل ثقة العمال السوفييت بمنظور الثورة العالمية، وأضعفت الموقف السياسي للمعارضة الماركسية للنظام الستاليني.

إن المؤرخين المحترفين، وهم بطبيعتهم متشائمين من إمكانية حدوث ثورة، التي تبدو من وجهة نظرهم إنتهاكاً للمسار العادي للتطور التاريخي، قد وجدوا أنه من الأسهل الحط من المنظور الأممي الذي حرك ثورة أوكتوبر بوصفه غير واقعي وطوباوي. وسبق لنا رؤية أن هوبسبازم يعتبر إعتقاد لينين بمنظورات ثورة ألمانية خطأً فادحاً في حكمه السياسي. وعلى الرغم من أن هوبسمان لم يقل شيئاً على الإطلاق حول نضال تروتسكي ضد الخط السياسي للإشتراكية في بلد واحد، لكني واثق لو طُلب منه تعليقاً لرد بأن منظور تروتسكي الأممي خلال العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين كان غير واقعياً بالقدر الذي كانه لينين عام 1918. وسيطرح هوبسباوم أن التعامل مع برنامج تروتسكي الأممي بوصفه بديلاً قابلاً للحياة، لو تم إتباعه لكان غير تطور التاريخ السوفيتي،  هو بمثابة تمرين آخر على تخمينات منافية للواقع تقود إلى طريق مسدود.

كيف نقدر إذن على تبيان أن السياسات الدولية للمعارضة اليسارية، المستندة على نظرية الثورة الدائمة، كانت ستقوي الأممية الثالثة بشكل كبير وستحسن الموقع الدولي للإتحاد السوفيتي؟ وبطبيعة الحال نحن لا نقدر على البرهنة على وجود يقين سياسي وأخلاقي بأن إنتصار المعارضة اليسارية كان ليضمن نجاح النضالات الثورية خارج الإتحاد السوفيتي. ونحن حاضرون بشكل تام لقبول أنه في ميدان الثورة لا يتم تحديد النتائج  بالبراهين المنطقية بل بالنضال الفعلي. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أننا غير قادرين على الوصول إلى بعض الإستنتاجات المقبولة، بالإستناد إلى قرائن تاريخية، حو تداعيات إنتصار المعارضة المحتملة على الحركة الثورية العالمية. 

دعونا نستعرض، ولو بإختصار مرحلتين حاسمتين قي تاريخ الطبقة العاملة الدولية.

الثورة الصينية

أولاً الهزيمة الكارثية للثورة الصينية عام 1927.كان سبب هذه الهزيمة إخضاع الحزب الشيوعي الصيني لحزب الكومنتانغ البورجوازي بقيادة شيان كاي-شك. تم توجيه الحزب الشيوعي الصيني من قبل ستالين بقبول تشيانغ والكومنتانغ بوصفه القيادة الرسمية للثورة الديمقراطية. وكانت الخلفية السياسية لهذه التوجيهات هي جهود ستالين لإقامة علاقات وثيقة بين الإتحاد السوفيتي والصين عن طريق تحالف سياسي مع تشيانغ. واظب تروتسكي على التحذير من أن إلحاق الحزب الشيوعي الصيني بالكومنتانغ البورجوازي ، وهذا خرق للدروس الأساسية للإستراتيجية البلشفية عام 1917، سيتسبب بتداعيات مدمرة بالنسبة للطبقة العاملة. لم يكن تشيانغ حليفاً يمكن للحزب الشيوعي وللعمال إيلائه الحد الأدنى من الثقة. وما أن تتاح له فرصة، حتى يستجيب تشيانغ لضغوطات أسياده الإمبرياليين والبورجوازيين، ولينقض بوحشية ضد الحزب الشيوعي الصيني وضد عمال شانغهاي الثوريين. وقد تم تجاهل هذه التحذيرات، بل وحتى حين صارت أفعال تشيانغ أكثر تهديداً، ضغط ستالين  بغطرسة متزايدة على الحزب الشيوعي الصيني ليبرهن على ولائه للكومنتانغ. وفي النهاية وجه الحزب الشيوعي الصيني العمال الثوريين في شانغهاي  إلى التخلي عن أسلحتهم بنفسهم قبل دخول قوات تشيانغ المدينة. وحين تردد صدى إدانة تروتسكي لسياسات ستالين داخل الأممية الشيوعية، إنتهت الأحداث في الصين بحل مدمر، حيث دخلت قوات تشيانغ شانغهاي وباشرت مجزرة قضت على عشرات آلاف العمال الثوريين،تماماً كما حذر تروتسكي والمعارضة اليسارية. وتعرض الحزب الشيوعي الصيني لنكسة لم يتعاف منها أبدا.

وليس من الضروري تأكيد ما لايمكن إثباته نتيجة طبيعة الأمور ونقصد أن سياسات المعارضة اليسارية كانت ستضمن انتصار الثورة الصينية في العقد الثاني من القرن العشرين، لكنني اعتقد أن الإنتصار كان ممكناً. لكن ما يمكن قوله بدرجة عالية من الثقة أن الحزب الشيوعي الصيني ما كان ليسقط ضحية إنقلاب تشيانغ في أبريل 1927، ولاكان موقف الطبقة العاملة ليضعف بهذا الشكل المدمر. ومع تبلور الأحداث تحت قيادة ستالين، كانت التداعيات التاريخية للهزيمة في الصين من الضخامة بحيث يصعب حسابها. فإلى جانب الأثر المباشر على إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية، حيث عمقت عزلة الإتحاد السوفيتي سياسياً، وبالتالي عززت النظام البيروقراطي، لكن هزيمة 1927 أثرت بشكل مأساوي على سمات الحركة الثورية في الصين. فمع تداعي أوضاعهم داخل المدن التي دمرها إنقلاب الثورة المضادة بقيادة تشيانغ، فإن من بقي من أعضاء مضطربين من الحزب الشيوعي الصيني  انسحبوا إلى الأرياف وتخلوا عن توجهه التاريخي نحو الطبقة العاملة.  ومنذ تلك المرحلة فصاعداً، فإن عمل الحزب الشيوعي الصيني تحت قيادة ماو، الذي إصطف بالمناسبة مع الجناح اليميني في الحزب المدمر، إعتمد على  الفلاحين وبالتالي فإن الحزب الذي وصل إلى السلطة في 1949 ليس لديه سوى القليل من الروابط مع الطبقة العاملة والقليل من التشابه مع الحركة التي قامت قبل كارثة 1927. وحتى يومنا هذا نجد أن ورثة ماو يشجعون إستغلال الجماهير الصينية من قبل الشركات الدولية ويشرفون على ذلك، ونحن نعيش مع التداعيات المدمرة للسياسات التي اتبعها ستالين. 

ولو أن إنتصار المعارضة اليسارية لم ينجز شيئاً سوى تحاشي الكارثة التي أنتجتها سياسات ستالين في الصين، فإن هذا في حد ذاته كان غير بعمق مسار تاريخ العالم لمصلحة الإتحاد السوفيتي والحركة الثورية العالمية.

صعود هتلر إلى السلطة

دعونا الآن نعاين المرحلة التالية وهي صعود الفاشية إلى السلطة في ألمانيا. فقبل إنتصار هتلر في يناير 1933، كان حزبا العمال الجماهيريان في ألمانيا، الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الشيوعي الألماني، يحظيان بولاء سياسي من قبل 13 مليون ناخب. وفي الانتخابات الألمانية الأخيرة التي نُظمت قبل تسمية هتلر في منصب المستشار، كان مجموع الأصوات التي نالها هذان الحزبان أكبر من الأصوات التي حصل عليها النازيون. لكن مجموع الأصوات لم يعبر بشكل كامل عن القوة النسبية لحركتي الفاشية والإشتراكية. وحتى مع فرق الصدام التابعة لها فإن حركة هتلر المستندة إلى البورجوازية الصغيرة المدمٍّرة و فئات متكتلة، كانت كتلة عديمة الشكل وغير مستقرة. بالمقابل فإن الحزبان الإشتراكيان، استندا إلى الطبقة العاملةـ التي مثلت، بفضل علاقتها بالقوى المنتجة الأساسية، قوة إجتماعية وسياسية هامة.

وكان لدى هتلر أفضلية سياسية وحيدة هي إنقسام حركة العمل، حيث رفض قادة كل من الحزب الإشتراكي والحزب الشيوعي القيام بأي عمل مشترك لحماية الطبقة العاملة من التهديد الفاشي. إنبثق موقف الإشتراكيين الديمقراطيين من خضوعهم الجبان لنظام فايمار المتجذر في البورجوازية وخوفهم من النتائج الثورية الكامنة لهجوم موحد من قبل العمال الإشتراكيين الديمقراطيين و الشيوعيين ضد الفاشيين.

وكانت المشكلة المركزية التي واجهت الحزب الشيوعي هي تجاوز الإنقسام المُنهك في الطبقة العاملة من خلال طرح فكرة تشكيل جبهة موحدة مع الإشتراكيين الديمقراطيين. وبغض النظر عن المعارضة السياسية من قبل قادة الحزب الإشتراكي الديمقراطي، فإن الدعوات الرسمية المباشرة والملحة من قبل الحزب الشيوعي الألماني لجبهة موحدة كانت، على الأقل، ستترك طابعاً عميقاً عند العمل الإشتراكيين الديمقراطيين وستظهر أن الشيوعيين ما كانوا مسؤولين عن الإنقسامات في صفوف البروليتاريا الألمانية.  وحتى لو فشل جماهير الإشتراكيين الديمقراطيين في التغلب على مقاومة قادة الحزب الديمقراطي الإشتراكي والنقابات في خوض صراع جدي ضد هتلر،لكن الحملة المستمرة من قبل الحزب الشيوعي  كانت سترفع مكانته في أعين ملايين العمال الإشتراكيين الديمقراطيين وستجذب فئات هامة منهم إلى جانبه.

لكن لم يتم أبداً  شن مثل هذه الحملة من قبل الحزب الشيوعي الألماني .وبدلاً عن ذلك، ومن خلال التمسك بخط ' المرحلة الثالثة' اليسارية المتطرفة التي فُرضت من قبل الستالينيين في المؤتمر السادس للأممية الشيوعية، أعلن الحزب الشيوعي الألماني الإشتراكية الديمقراطية بوصفها شكل من الفاشية 'فاشية إجتماعية' حتى نكون أكثر دقة. وعدّ أي تعاون مع هذه الفاشية الإجتماعية في حكم المستحيل. 

ومنذ بدايات عام  1930 حذر تروتسكي، الذي كان في المنفى على جزيرة برينكيبو قرب الساحل التركي، من أن الفاشية تمثل تهديداً خطيراً للطبقة العاملة الالمانية والدولية، وأن فشل الحزب الشيوعي الألماني في النضال من أجل جبهة موحدة يمهد الطريق أمام هتلر للوصول إلى السلطة.

وكتب تروتسكي في 26 سبتمبر 1930:

إن الفاشية في ألمانيا أضحت خطراً حقيقياً، بوصفها تعبيراً حاداً عن الموقف الميئوس منه للنظام البورجوازي، وعن الدور المحافظ للإشتراكية الديمقراطية في هذا النظام، وعن عجز الحزب الشيوعي المتراكم، للقضاء عليه. وفي كل حال فإن من ينكر هذا أعمى او مدعي. [29]

كما كتب:' أن النضال الدفاعي الناجح ضد الفاشية يعني سياسة رص الصفوف مع أغلبية الطبقة العاملة الألمانية وتشكيل جبهة موحدة مع العمال الإشتراكيين الديمقراطيين ومع العمال خارج الأحزاب ضد الخطر الفاشي.[30] 

كما كتب تروتسكي في 26 نوفمبر 1931:

من واجب المعارضة اليسارية إطلاق إنذار: إن قيادة الكومنترن تدفع البروليتاريا الألمانية باتجاه كارثة هائلة، يتمثل جوهرها بالإستسلام المرعوب أمام الفاشية.

إن وصول الإشتراكيين الوطنيين إلى السلطة يعني في المقام الأول القضاء على زهرة البروليتاريا الألمانية، وتدمير منظماتها، واستئصال قناعتها بذاتها وبالمستقبل. وإذا أخذنا بعين الإعتبار مستوى نضج التناقضات الإجتماعية في ألمانيا وحدتها، يكون من المرجح أن العمل الجهنمي الذي قامت به الفاشية الإيطالية سيبدو مثل تجربة شاحبة قريبة من الإنسانية مقارنة مع عمل الإشتراكيين الوطنيين الألمان.  [31]

وفي 27 يناير 1932 كتب تروتسكي رداً على ادعاءات القادة الستالينيين المثيرة للشفقة بأن إنتصار هتلر سيؤدي بالأحرى إلى تمهيد الطريق  أمام إنتصار شيوعي:

الفاشية ليست مجرد نظام إنتقام، وقوة فظة، وإرهاب سياسي. الفاشية هي نظام حكومي خاص مستند إلى إقتلاع جذور كل عناصر اليدمقراطية البروليتارية ضمن النظام البورجوازي. ولا تقتصر مهمة الفاشية على تدمير الطليعة الشيوعية بل تهدف إلى تفتيت وحدة الطبقة بأسرها. ولتحقيق هذا لا يكفي القضاء المادي على أهم الفئات الثورية بين العمال. لذا سيكون من الضروري أيضاً محو كل المنظمات المستقلة والتطوعية، وهدم كل تحصينات البروليتاريا الدفاعية، واقتلاع كل ما تم إنجازه خلال ثلاثة أرباع قرن من الديمقراطية الإجتماعية وعمل النقابات.[32]

أود فقط ذكر مقطع آخر واحد من كتابات تروتسكي. ففي أبريل 1932 أعلن تروتسكي تصريحاً حذر من أن إنتصار هتلر سيجعل الحرب بين ألمانيا والإتحاد السوفيتي أمراً لا يمكن تفاديه. إختار تروتسكي كلماته بعناية، وشرح كيف كان ليرد، لو كان في السلطة، على إنتصار الفاشية في ألمانيا:

ما أن أتلقى إخطاراً تليغرافياً بهذا الحدث، فإنني سأوقع أمراً باستدعاء الإحتياط. فعندما يكون لديك عدواً قاتلاً في مواجهتك، وحين تصبح الحرب ضرورة وفق منطق الوضع الموضوعي، عندها لا يمكن التسامح مع خفة العقل التي تمنح العدو وقتاً لتثبيت وتقوية نفسه، ولعقد التحالفات الضرورية، والحصول على المساعدة الضرورية ، وإنجاز مخطط لأفعال عسكرية موحدة المركز، ولا يقتصر هذا على الغرب بل يشمل الشرق، وبالتالي يتحول الأمر إلى خطر داهم. [33]

ونظراً لمعرفتنا بما كان سيحصل، فإن انتصار النازيين، و الغدر المتمثل بإتفاقية عدم الإعتداء بين ستالين وهتلر، واندلاع الحرب العالمية الثانية، وجبن ستالين المتمثل بتفكيك الدفاعات السوفيتية، وتحضير هتلر لإطلاق عملية بارباروسا، وخسارة 27 مليون جندي ومدني سوفيتي خلال التصدي للغزو الألماني، عندها لا يمكن للمرء قراءة كلمات تروتسكي دون شعور مأساوي بالضياع والخسارة. يا لضخامة البؤس البشري والمعاناة التي كان يجب تفاديها. وكم كان مسار القرن العشرين ليتغير، لو رجحت كفة سياسات تروتسكي  والماركسيين الثوريين.

إن إستعراضنا الموجز للهزيمتين في الصين وفي ألمانيا بالكاد يصلح ليكون مقدمة تمهيدية لموضوع دور الثورة المضادة الذي لعبته الستالينية في حركة العمال العالمية وتأثيره على تطور إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية. لكننا نجهد لتقديم ما هو معقول ضمن حدود إطار محاضرة واحدة. والآن ثمة نقطة واحدة يجب علي إضافتها حرصاً على الوضوح التاريخي. إن هزيمة الطبقة العاملة الألمانية دشنت منعطفاً حاسماً في تطور النظام الستاليني ذاته. فنتيجة لمواجهته خطراً جدياً من قبل نظام فاشي قوي كانت سياساته الخاصة مسؤولة بشكل مركزي عنه، تحرك ستالين  لقطع كل ما تبقى من علاقات ضعيفة بين الدولة السوفيتية وهدف الثورة العالمية. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً إستند الدفاع عن إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية على عقد تحالفات سياسية مع دول إمبريالية، ديمقراطية كانت أم فاشية، تبعاً للظروف، على حساب مصالح الطبقة العاملة العالمية. وبالتالي اكتسى دور الإتحاد السوفيتي في الشؤون العالمية سمة مضادة للثورة، وهذا تحول سيجد تعبيراً إجرامياً عنه في خيانة الثورة الاسبانية، وفي قتل البلاشفة القدامى، وملاحقة المعارضين الثوريين للنظام الستاليني داخل وخارج حدود اتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية، إنتهاء بمعاهدة ستالين – هتلر. 

إن هوبسباوم لم يكن مجرد أعمى حتى لا يرى كل هذا. إن كتاباته توحي بفشله في القيام بأي مراجعة نقدية لمفاهيمه السياسية التي سمحت له بالبقاء عضواً في الحزب الشيوعي البريطاني على مدى عدة عقود: ' إن المفارقة الرهيبة للحقبة السوفيتية'وفق ما أخبرنا هوبسباوم بوجه صارم  هي ' أن ستالين الذي جربته الشعوب السوفيتية، وستالين الذي نُظر إليه في الخارج بوصفه قوة محررة كانا الشخص ذاته. وأنه كان محرر البعض لأنه كان ،جزئياً على الأقل، المستبد بالنسبة لآخرين'.[34] 

 ما كان على هوبسباوم كتابته فعلاً 'أن ستالين الذي جربه الشعب السوفيتي  وستالين كما وصفه بشكل خادع الحزب الشيوعي البريطاني لم يكونا الشيء ذاته'. بل على العكس فإن هوبسباوم يحشر نفسه في الزاوية بوصفه مؤرخاً من خلال الإلتزام  بدفاع متهالك موال للستالينية  وبذلك يفضح ما كان مفارقة تراجيدية في حياته الفكرية. فخلال مراجعتنا للتباينات الرئيسية بين النظام الستاليني والمعارضة اليسارية في ثلاثة ميادين هي نظام الحزب،والسياسة الإقتصادية، والإستراتيجية الدولية، حاولنا تبيان أن إنتصار التروتسكية، أي الماركسية الأصيلة، كان على الأرجح سيغير بعمق مسار تاريخ السوفييت وتاريخ الحركة الإشتراكية الدولية. نتوقع أن يُرفض هذا من قبل أولئك الذين يفسّرون تاريخ الإتحاد السوفيتي ضمن إطار نوع من الهزيمة التاريخية الحتمية بصورة مطلقة. فبالنسبة لهؤلاء المتشائمين والمشككين غير القابلين للإصلاح، الذين اعتقدوا أن قضية الإشتراكية كانت محكومة منذ البداية وأن السياسات، والبرامج، وكل اشكال النشاط الذاتي الأخرى كانت بلا قيمة.

يجب دراسة البديل التاريخي للستالينية

وكما سبق لنا شرحه، فإن من المستحيل الجزم بثقة أن انتصار تروتسكي كان ليضمن إستمرار إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية وانتصار الإشتراكية. لكن هذا الادعاء بالكاد يكون ضرورياُ لذكر ما نعده بدائل تاريخية مشروعة على الصعيدين السياسي والفكري. والشيء الضروري الوحيد بالنسبة لنا هو الإقرار بأنه كان هناك قدرة كامنة لتحقيق مسار  تطور تاريخي مختلف عما جرى؛ وأنه في بعض النقاط الهامة في تاريخه، على سبيل القول، كان التطور على مفترق طريق حيث كان من الوارد تطبيق سياسات مختلفة أي سياسات ماركسية كان من الممكن أن تقود الأحداث لتوليد نتائج أفضل. 

نطرح الآن سؤالاً آخراً ، جاداً ومناسباً في نفس الوقت: حتى لو سلمنا بأن مواقف تروتسكي والمعارضة اليسارية مثلت من الزاوية النظرية ، بديلاً ماركسياً حقيقياً عن النظام الستاليني، لكن هل مثلت هذه المعارضة يوماً ما قوة سياسية مهمة حقاً داخل الاتحاد السوفيتي؟ فبعد كل شيء، فإن النظر في البدائل، إذا لم يكن عملية مضاربة غير مثمرة ، فهو يجب أن يقتصر على ما كان ممكناً في إطار الظروف الموضوعية القائمة.

للإجابة على هذا السؤال المهم ، أود أن أستشهد بعمل قيم بعنوان ولادة الستالينية للمؤرخ الألماني ميكال ريمان.

غالباً ما تم التقليل من أهمية المعارضة اليسارية في الأدبيات. ... شك العديد من الكتاب في أن المعارضة كان لها أي تأثير كبير على كتلة أعضاء الحزب وتأثير أقل على قطاعات أوسع من السكان. وبالكاد يمكن للمرء أن يتفق مع هذه الآراء: فهي تبدو متناقضة بالفعل في ضوء الذخيرة التي أنفقتها قيادة الحزب على مكافحة المعارضة في تلك السنوات - كثرة التصريحات والتقارير والكتيبات والكتب الرسمية ، ناهيك عن الحملات الجماهيرية السياسية التي اخترقت حتى أقصى أرجاء الإتحاد السوفياتي.

في ربيع عام 1926 ، إحتلت المعارضة الموحدة ، القائمة على كادر من قادة الحزب القدامى وذوي الخبرة ، بعض المناصب المهمة إلى حد ما و عززت نفوذها  في لينينغراد، وأوكرانيا، ومنطقة القفقاس، ومنطقة الأورال؛ في الجامعات وفي بعض مكاتب الحكومة المركزية؛ وفي عدد من المصانع في موسكو والمنطقة الصناعية الوسطى؛ وبين قسم من أركان قيادة الجيش والبحرية، الذي مر بسنوات الحرب الأهلية الصعبة تحت قيادة تروتسكي. أدى القمع من قبل قيادة الحزب إلى منع المعارضة من النمو، لكن تأثيرها كان لا يزال أكبر بكثير مما تشير إليه الأصوات المختلفة التي تم سماعها في خلايا الحزب.[35] 

تم طرد تروتسكي والقادة الرئيسيين الآخرين للمعارضة اليسارية من الحزب الشيوعي الروسي في الجلسة الكاملة للجنة المركزية التي عقدت في يوليو وأغسطس 1927. وفشل هذا في إسكات المعارضة.

وقد كتب ريمان: 

حتى بعد الجلسة الكاملة للجنة المركزية، إستمر إغراق المنظمات الحزبية - خاصة في المراكز الحضرية الكبيرة والرأسمالية - بأدبيات المعارضة والمنشورات. ووردت تقارير عن نشاط معارضة متصاعد من منطقة  تلو الأخرى من مدن مختلفة ومن مقاطعات بأكملها مثل  لينينغراد، وأوكرانيا، وما وراء القفقاس، وسيبيريا ، والأورال، و موسكو بطبيعة الحال، حيث عمل عدد أكبر من القادة السياسيين المعارضين.  كان هناك عدد متزايد بشكل مطرد من الإجتماعات غير القانونية وشبه القانونية التي حضرها العمال الصناعيون والشباب. وأصبح تأثير المعارضة في عدد من الوحدات الحزبية الكبيرة كبيراً جداً بحيث أعاق حرية عمل الجهاز الحزب الستاليني. كما تأثر الجيش بشدة بنشاط المعارضةحيث وردت تقارير عن زيادة ملحوظة في سلطة المعارضة من منطقة لينينغراد العسكرية ومن حامية  لينينغراد، ومن كرونشتاد، ومن وحدات القوات في أوكرانيا وبيلاروسيا.

لم تكن المشكلة الرئيسية هي زيادة نشاط المعارضة، ولكن التوازن العام للقوى داخل الحزب. كان عدداً كبيراً من القادة السياسيين المشهورين في جانب المعارضة. الأمر الذي أضعف سلطة قيادة الحزب، خاصة بالنسبة لستالين وبوخارين، لكن لم يكن ذلك كافياً لتحويل نكسات وفشل سياسة الحزب إلى مكاسب.[36] 

كيف إذن تغلب فصيل ستالين على التحدي الذي مثتله المعارضة اليسارية؟ يوضح ريمان: 'لم تستطع القيادة التعامل مع الوضع دون إشراك الغيبو في المعركة'. [37] 

إن التاريخ اللاحق لإتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفييتية  والحركة الإشتراكية الدولية هو سجل للعواقب الدموية للعنف الذي استخدمته البيروقراطية الستالينية لترسيخ سلطتها وإمتيازاتها. ومن المستحيل إنهاء مناقشة البدائل التاريخية دون النظر في تأثير وتكاليف القمع الستاليني. لكن هوبسباوم، كما رأينا، تجاهل هذه القضية. لقد أخبرنا أن التصنيع 'كان سيتطلب قدراً كبيراً من الإكراه، حتى لو كان الإتحاد السوفيتي بقيادة شخص أقل قسوة من ستالين'. وهكذا تجاهل هوبسباوم ببساطة الأساس الإجتماعي والغرض السياسي للعنف الذي تنظمه البيروقراطية. لم يكن العنف الستاليني مسألة تجاوزات ثورية ولكن مسألة إرهاب معاد للثورة.

إذا كان هوبسباوم غير مهتم بالتعامل مع هذه المسألة ، فذلك لأن المعالجة الصادقة للمعنى التاريخي ونتائج التطهير، بالنسبة للإتحاد السوفيتي والحركة الإشتراكية العالمية، لا يمكن أن تتوافق مع ممارسته في الدفاعات التاريخية. كان هناك بديل عن الخيار الستاليني للتطور السوفييتي، وكان الإرهاب الستاليني هو الوسيلة التي أباد بها ستالين المعارضة. ما تم تدميره في أقبية لوبيانكا وغرف الإعدام التي لا تعد ولا تحصى في جميع أنحاء الإتحاد السوفيتي كان مئات الآلاف من الاشتراكيين الثوريين الذين ساهموا في إنتصار ثورة أكتوبر.  ولم يقتصر تأثيرهم في الطبقة العاملة والمجتمع السوفييتي على نشر أفكار سياسية محددة، مهما كانت أهمية هذه الأفكار. لقد كان ضحايا ستالين ، في نشاطهم الجماعي ، ممثلين لثقافة إجتماعية غير عادية منحت للحركة الثورية للطبقة العاملة الروسية أهمية تاريخية عالمية.

وجدت هذه الثقافة أعلى تعبير لها في تروتسكي. كما أوضح فيكتور سيرج ببراعة:

لكي ينشأ رجل مثل تروتسكي ، كان من الضروري أن يقوم الآلاف والآلاف من الأفراد بتأسيس النوع فوق فترة تاريخية طويلة. لقد كانت ظاهرة اجتماعية واسعة ، وليست وميض مفاجئ لمذنب ...

... توقف تشكيل هذا النوع الإجتماعي العظيم - وهو أعلى ما وصل إليه الإنسان الحديث ، على ما أعتقد ، بعد عام 1917 ، وتم ذبح معظم ممثليه الباقين بأمر من ستالين في 1936-1937. وقت  كتابة هذه السطور ، حيث تتزاحم الأسماء والوجوه أمامي ، يخطر ببالي أنه كان لابد من استئصال هذا النوع من الرجال ،و كل تقاليده وجيله ، قبل أن يتم خفض مستوى عصرنا بشكل كافٍ. يشير رجال مثل تروتسكي بشكل مزعج للغاية إلى الإمكانيات البشرية في المستقبل للسماح لها بالبقاء في زمن الكسل ورد الفعل.[38] 

لماذا خصصنا هذه المحاضرة للنظر في إمكانية وجود بدائل في النتيجة التاريخية لثورة أكتوبر؟ بالتأكيد لا يمكن تغيير الماضي وعلينا أن نتعايش مع عواقبه. لكن فهمنا للماضي - وللعملية التي تشكلت من خلالها تلك النتائج - هي الأساس الجوهري لفهمنا للوضع التاريخي الحالي والإمكانات الكامنة فيه. ويرتبط تقييمنا لإمكانيات الإشتراكية في المستقبل ارتباطاً وثيقاً بتفسيرنا أسباب الهزائم التي تعرضنا لها خلال هذا القرن.

ما هي الدروس التي نستخلصها من القرن العشرين؟ إذا كان كل ما حدث منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى لا يعدو أن يكون  تعبيراً عن قوى لا يمكن السيطرة عليها وغير مفهومة ، فلا لا يكون أمنا سوى القليل من الأمل أو الصلاة ، اعتماداً على ما تفضله وعلى مدى يأسك ، من أجل حظ في مستقبل أفضل.

لكن بالنسبة لأولئك الذين درسوا واستوعبوا تجارب هذا القرن ، فإن الوضع التاريخي الحالي وآفاق المستقبل تبدو مختلفة تماماً حيث  تكتسب أحداث هذا القرن سياقاً تاريخياً واسعاً ومعنىً حيث لم تكن أي فترة أخرى في التاريخ غنية إلى هذه الدرجة بالتجربة الثورية والثورية المضادة. إن صدام القوى الإجتماعية المتصارعة بلغ مستوى غير مسبوق من الشدة. وقد أثبتت الطبقة العاملة ، بعد أن حققت أول إختراق ثوري كبير لها في عام 1917 ، أنها غير قادرة على الصمود أمام القوة الهائلة للثورة المضادة التي أعقبت ذلك. ومع ذلك ، ومن خلال عمل تروتسكي والمعارضة اليسارية والأممية الرابعة ، فإن طبيعة تلك الثورة المضادة  خضعت لعملية فهم أسباب الهزائم وتجليلها وعلى هذه الأسس النظرية والسياسية تستعد الأممية الرابعة للمستقبل بوعي وبتفاؤل ثوري لا يعرف الندم.

[1] Lecture delivered January 3, 1998 at the International School on Marxism and the Fundamental Problems of the Twentieth Century, held in Sydney Australia.

[2] Stefan Zweig, Die Welt von Gestern: Erinnerungen eines Europäers (Frankfurt am Main: Fischer Taschenbuch Verlag, 1997), (translation by D. North), p. 17.

[3] Eric J. Hobsbawm, On History (London: Weidenfeld & Nicolson, 1997), p. 243.  

[4] Ibid., p. 245. 

[5] Ibid., p. 246.

[6] Ibid., p. 245.

[7] Ibid., p. 247.

[8] For a detailed account of the events of 1923, see Pierre Broué, The German Revolution 1917– 1923, translated by John Archer (Chicago: Haymarket Books, 2006). Trotsky’s assessment of the errors of the German Communist Party is cited on p. 822.

[9] On History, p. 248. 10 Ibid., p. 243. 11 Ibid., p. 249. 

[10] Ibid., p. 243.

[11] Ibid., p. 249.

[12] Ibid.

[13]لا يعني هذا أن عامل الوعي لا يلعب دوراً في الأحداث الطبيعية. إن مستوى الأضرار الناجمة عن زلزال أو عن فيضان ترتبط بمدى الاستعدادات المسبقة، وبسرعة تطبيق الإجراءات المضادة بعد وقوع الكارثة. إن إعصار نيوأورليانز 2005 يمل الدور الذي يلعبه عامل الوعي ، وكذلك الافتقار إلى هذا العامل،في كارثة طبيعية

[14] Ibid.

[15] Ibid.

[16] Ibid.

[17] Ibid.

[18] Ibid., p. 48.

[19] Ibid., p. 249.

[20] Leon Trotsky, “The New Course,” The Challenge of the Left Opposition 1923–25, (New York: Pathfinder Press, 1975), p. 79. 

[21] Ibid., p. 98.

[22] Ibid., pp. 98–99.

[23] Ibid., p. 88.

[24] Ibid., p. 94.

[25] The Platform of the Joint Opposition 1927 (London: New Park Publications, 1973), p. 41.

[26] Writings of Leon Trotsky 1930 (New York: Pathfinder Press, 1975), pp. 115–117.

[27] Ibid., p. 118.

[28] On History, p. 251.

[29] Leon Trotsky, The Struggle Against Fascism in Germany (New York: Merit Publishers, 1971), p. 78.

[30] Ibid., p. 94.

[31] Ibid., p. 160.

[32] Ibid., p. 186.

[33] Writings of Leon Trotsky 1932 (New York: Pathfinder Press, 1973), p. 92.

[34] On History, p. 252.

[35] Michal Reiman, The Birth of Stalinism: The USSR on the Eve of the “Second Revolution”, trans. George Saunders (Bloomington: Indiana University Press, 1987), pp. 19–20.

[36] Ibid., pp. 27–28.

[37] Ibid., p. 28.

[38] David Cotterill, ed., The Serge-Trotsky Papers (London: Pluto Press, 1994), p. 209.