العربية

نظرية لينين للوعي الإشتراكي: أصول البلشفية وما العمل؟ 

ستخصص محاضرة اليوم لتحليل أحد أهم أعمال النظرية السياسية الإشتراكية ، وهو كتاب لينين 'ما العمل'. تعرضت أعمال قليلة لمثل هذه الدرجة من التحريف والتزوير. ففي نظر عدد لا يحصى من كارهي لينين من الأكاديميين البرجوازيين، الذين أعلن بعضهم حتى عام 1991 أنهم معجبون بلينين، هذا هو الكتاب المسؤول في النهاية عن العديد من شرور القرن العشرين إن لم يكن مسؤولاً عنها كلها. أنوي الرد على هذه الإتهامات ، وأن أشرح أيضاً سبب إحتفاظ هذا العمل، الذي كتب عام 1902 لحركة إشتراكية صغيرة في روسيا القيصرية، بهذه الدرجة الإستثنائية من الأهمية النظرية والعملية للحركة الإشتراكية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. 

بعد سنوات عديدة ، إثر وصول الحزب البلشفي إلى السلطة ، كتب لينين أن روسيا 'قد حققت الماركسية ، وهي  تقريباً النظرية الثورية الوحيدة الصحيحة، من خلال العذاب الذي عانته خلال نصف قرن من المعاناة والتضحيات التي لا مثيل لها ، وبطولة ثورية لا مثيل لها ، وبذل طاقة لا تصدق ،و بحث مكرس ، ودراسة ،و تجربة عملية ،و خيبة أمل ، وإنجاز ، ومقارنة مع التجربة الأوروبية. '

إمتدت تلك التجربة لما يقرب من قرن كامل. وابتداء من عام 1825 ، مع المحاولة الفاشلة من قبل مجموعة من كبار الضباط في الجيش العسكري للإطاحة بالإستبداد القيصري ، ظهر تقليد التضحية بالنفس ، والعجز والعاطفة الشجاعة داخل قسم صغير من المثقفين الروس.  لقد سعت إلى تغيير الواقع الرهيب والمُهين للفقر والتخلف الإجتماعي الذي وقف عليه النظام القيصري الوحشي. وفي سياق القرن التاسع عشر، ظهرت ببطء حركة ثورية مكرسة للإطاحة بالنظام الإستبدادي. و في مقطع رائع للغاية من سيرته الذاتية تروتسكي الشاب ، قدم لنا ماكس إيستمان (في ما كانت حقبة سنواته الإشتراكية) هذا الوصف لشخصية الثورة الروسية:

ولد جيل رائع من الرجال والنساء لتحقيق هذه الثورة في روسيا. قد تكون مسافراً في أي جزء نائي من هذا البلد ، وسترى وجهاً هادئاً وقوياً ومدروساً متجسداً في مدربك ، رجل في منتصف العمر بجبهة فلسفية بيضاء ولحية بنية ناعمة ، أو امرأة مسنة ذات وجه حاد مقوسة الحاجبين وتجاعيد أمومة صارمة حول فمها ، أو ربما رجل في منتصف العمر ، أو امرأة أصغر سناً لا تزال جميلة من حيث الشكل ، لكنها تحمل نفسها كما لو كانت قد صعدت إلى مدفع. سوف تستفسر ، وستفعل وستكتشف أنهم 'عمال الحزب القدامى'. لقد نشأوا في تقاليد الحركة الإرهابية ، تراث صارم وسامي من الإيمان الإستشهادي ، تم تعليمهم في الطفولة على حب البشرية ، والتفكير دون عاطفة ، وأن يكونوا حراس أنفسهم ، وأن يعترفوا بالموت في صحبتهم تعلمت في الشباب شيئاً جديداً هو التفكير العملي. قد يكونوا في نار الجحيم والنفي. لقد أصبحوا تقريباً أمراً نبيلًا ، مجموعة مختارة من الرجال والنساء الذين يمكن الإعتماد عليهم ليكونوا بطوليين ، مثل فرسان المائدة المستديرة أو الساموراي ، ولكن مع براءات إختراع نبلائهم من المستقبل ، وليس من الماضي.

لم توجه الحركة الثورية الروسية نفسها ، في مراحلها الأولى ، نحو الطبقة العاملة. بل كانت موجهة إلى الفلاحين ، الذين تألفت منهم الغالبية العظمى من السكان. أدى التحرير الرسمي للفلاحين من القنانة ، الذي أعلنه القيصر الإسكندر الثاني عام 1861 ، إلى تكثيف تناقضات البنية الإجتماعية والسياسية للإمبراطورية الروسية. كما شهد العقد السابع من القرن التاسع عشر بداية حركة الشباب الطلابي ، الذين خرجوا بين الفلاحين لتثقيفهم وجذبهم إلى النشاط السياسي الواعي. جاء التأثير السياسي الرئيسي في هذه الحركات من منظري الأناركية، وبشكل أساسي لافروف وباكونين. لقد تصور الأخير التحول الثوري لروسيا الناشئ عن إنتفاضة جماهير الفلاحين. لكن مزيج اللامبالاة الفلاحية وقمع الدولة دفع بالحركة إلى تبني أساليب النضال التآمرية والإرهابية. ومن أهم المنظمات الإرهابية كانت نارودنايا فوليا أي إرادة الشعب.

ج. بليخانوف: والد الماركسية الروسية

تم وضع الأسس النظرية والسياسية للحركة الماركسية في روسيا في العقد الثامن من القرن التاسع عشر في النضال الذي خاضه جي. بليخانوف (1856-1918) ضد الشعبوية وتوجهها الإرهابي. برزت الأسئلة الأساسية للمنظور التاريخي الصراع بين الشعبويين والتيار الماركسي الجديد. هل كان طريق روسيا إلى الإشتراكية يتحقق من خلال ثورة الفلاحين ، حيث توفر الأشكال المجتمعية التقليدية لملكية الفلاحين الأساس للإشتراكية؟ أم أن إسقاط النظام القيصري وإقامة جمهورية ديمقراطية وبداية الإنتقال إلى الإشتراكية ستتبع تطور الرأسمالية الروسية وظهور بروليتاريا صناعية حديثة؟

أصر بليخانوف خلال الجدل ضد الإرهاب والتوصيف الشعبوي للفلاحين على أنهم القوة الثورية الحاسمة ، الذي كان هو نفسه عضواً قياديًا في الحركة الشعبوية - على أن روسيا كانت تتطور على أسس رأسمالية. وجادل بأن نمو الدولة الصناعية سيكون نتيجة حتمية لهذه العملية. علاوة على ذلك ، ستكون الطبقة الإجتماعية الجديدة هي القوة الحاسمة في الإطاحة بالحكم المطلق ، ودمقرطة روسيا ، والقضاء على كل البقايا السياسية والاقتصادية للإقطاع ، وبداية الانتقال إلى الإشتراكية.

تطلب تأسيس بليخانوف لمجموعة تحرير العمل عام 1883 ، عام وفاة ماركس ، بعدًا سياسيًا ، ناهيك عن الشجاعة الفكرية والجسدية. الحجج التي قدمها بليخانوف ضد الشعبويين الروس في عصره فقط الأسس البرنامجية التي سيؤسس عليها حزب العمل الإشتراكي الديمقراطي الروسي لاحقًا. بليخانوف أيضا توقع العديد من القضايا الحاسمة المتعلقة بالتوجه الطبقي والإستراتيجية الثورية التي ستستمر في قلب الحركة الإشتراكية طوال القرن العشرين ، وحتى يومنا هذا.

أما اليوم ، فيتم تذكر بليخانوف، بشكل أساسي  ولكن بدون تقدير كاف، بوصفه أحد أهم مفسري الفلسفة الماركسية في عصر الأممية الثانية (1889-1914). لكن يتعرض الكثير من أعماله لنقد جاهل بشكل عام لا سيما من أولئك الذين يزعمون أن بليخانوف فشل في تقدير أهمية هيجل والمنهج الديالكتيكي. و يمكن للمرء فقط ، حين قراءة مثل هذه العبارات الجدلية ، أن يأمل لوأخذ مؤلفوها الوقت الكافي لقراءة أعمال بليخانوف بالفعل قبل الشروع في إدانتها.

هناك جانب آخر من مساهمة بليخانوف في الإستراتيجية الثورية يتم التقليل من شأنه إن لم يتم تجاهله وهو إصراره على تطوير النضال السياسي المستقل للبروليتاريا ضد البرجوازية بوصفه عنصراً حاسماً في تكوين الوعي الإشتراكي.

في عمله المبكر، الإشتراكية والنضال السياسي ، الذي كتب بعد وقت قصير من تأسيسه لحركة تحرير العمال ، عارض بليخانوف آراء الفوضويين الروس ، الذين رفضوا أهمية السياسة وذهبوا إلى حد الإصرار على أن على العمال يجب ألا يلوثوا أنفسهم بالمصالح السياسية. وأشار بليخانوف إلى أنه 'لم يكن لدى طبقة واحدة حققت الهيمنة السياسية سبباً يدعوها إلى الندم على اهتمامها بـ' السياسة '، ولكن على العكس من ذلك ... بلغت كل واحدة منها أعلى نقطة لتطورها بعد ذلك فقط لما حظيت بالسيطرة السياسية ... يجب أن نعترف بأن النضال السياسي هو أداة لإعادة البناء الإجتماعي الذي أثبت التاريخ فعاليته '.

ثم تتبع بليخانوف المراحل الرئيسية في تطور الوعي الطبقي. إن الاستشهاد المطول له ما يبرره نظراًللأهمية الدائمة لهذا المقطع:

إن الطبقة المضطهدة تصل بشكل تدريجي فقط لتعي الوضوح بشأن العلاقة بين وضعها الإقتصادي ودورها السياسي في الدولة حيث تعجز لفترة طويلة عن فهم حتى المهمة الإقتصادية التي ألقيت على عاتقها و يخوض الأفراد الذين يؤلفون هذه الطبقة  كفاحاً شاقاً في سبيل عيشهم اليومي دون التفكير حتى في جوانب التنظيم الإجتماعي التي يدينون لها بحالتهم البائسة. إنهم يحاولون تجنب الضربات الموجهة إليهم دون أن يسألوا من أين أتت أو من هوالذي يستهدفهم في التحليل النهائي. و ليس لديهم حتى الآن وعياً طبقياً ولا توجد فكرة إرشادية في نضالهم ضد الأفراد الظالمين. إن الطبقة المضطهدة لم تدرك بعد أنها ستكون في الوقت المناسب الطبقة المتقدمة في المجتمع ، لكنها لم تصبح كذلك بعد. إن مواجهة السلطة الطبقة الحاكمة المنظمة بشكل واعي لا يمكن أن يتم عبر جهود فردية منفصلة لأفراد منعزلين أو مجموعات معزولة من الأفراد. وحتى الآن ، على سبيل المثال ، كثيراً ما نلتقي بعامل يكره المستغل المكثف بشكل خاص ولكنه لا يشك بعد في أنه يجب محاربة فئة المستغِلين بأكملها وإزالة إمكانية استغلال الإنسان للإنسان.

لكن شيئاً فشيئاً ، تبدأ عملية التعميم ، ويبدأ المضطهدون في إدراك أنفسهم بوصفهم طبقة. لكن فهمهم للسمات المحددة لموقفهم الطبقي لا يزال أحادي الجانب لأن الينابيع والقوى الدافعة للآلية الإجتماعية ككل لا تزال مخفية عن أعينهم. وتبدو طبقة المستغِلين في أعينهم مجرد مجموع أرباب العمل الأفراد ، غير المرتبطين بخيوط التنظيم السياسي. و في هذه المرحلة من التطور، لم يتضح بعد في أذهان المظلومين ... ما هي العلاقة الموجودة بين 'المجتمع' و 'الدولة'. وأنه و من المفترض أن تقف سلطة الدولة فوق تناقضات الطبقات في حين  يبدو أن ممثليها هم القضاة والمصلحون الطبيعيون في صف لأطراف المعادية. ولدى الطبقة المضطهدة ثقة تامة بهم وتندهش للغاية لما تظل طلباتها للمساعدة دون إجابة من قبلهم. ... 

لكن فقط في المرحلة التالية والأخيرة من التطور تصل الطبقة المضطهدة إلى إدراك شامل لموقفها. وهي تدرك الآن الصلة بين المجتمع والدولة ، ولا تدعو إلى كبح مستغليها لأولئك الذين يشكلون الجهاز السياسي لذلك الإستغلال. إنها تعلم أن الدولة هي حصن بمثابة وخط دفاع عن مضطهديها ، حصن يمكن للمضطهدين بل يجب عليهم أن يسيطروا عليه ويعيدوا تنظيمه للدفاع عن أنفسهم ولا يمكنهم تجاوزه ، معتمدين على حياده... وهم يقاتلون لفترة طويلة فقط في سبيل الحصول على التنازلات ، وإقتصار المطالبة على إصلاحات لا في سبيل الهيمنة ، بل لمجرد إمكانية التطور والنضج من أجل هيمنة مستقبلية ؛ وتحقيق الإصلاحات التي من شأنها أن ترضي أكثر مطالبهم إلحاحاً وضرورة بحيث توسع ، ولو قليلاً ، مجال تأثيرهم على الحياة الإجتماعية للبلاد. ومن  خلال المرور بالمدرسة الصعبة للنضال من أجل قطع صغيرة منفصلة من أراضي العدو ، تكتسب الطبقة المضطهدة المثابرة والجرأة والتطور الضروري للمعركة الحاسمة. ولكن ما أن تكتسب تلك الصفات ، حتى تتمكن من النظر إلى خصومها على أنهم طبقة حكم عليها التاريخ أخيراً بالإدانة فلا داعي للشك في إنتصارها. إن ما يسمى بالثورة ليس سوى الفصل الأخير في الدراما الطويلة للصراع الطبقي الثوري الذي يصبح واعياً فقط بقدر ما يصبح صراعاً سياسياً.

حدد النضال الذي خاضه بليخانوف مسؤوليات أولئك الذين سموا أنفسهم إشتراكيين  لتركيز كل جهودهم على تطوير الوعي السياسي للطبقة العاملة وتحضيرها لدورها التاريخي قائدة للثورة الإشتراكية. إن الأهمية التاريخية للحزب نفسه متضمنة في هذا التعريف ، وهو الأداة التي من خلالها ينشأ هذا الوعي ويتطور وينظم على أساس برنامج سياسي محدد.

ألقت كتابات بليخانوف الشعبويين وسط أزمة. فبحلول أواخر العقد الثامن من القرن التاسع عشر ، كانوا بوضوح في موقف دفاعي في مواجهة ضربات الرجل الذي كانوا قد شجبوه قبل عقد من الزمان فقط باعتباره مرتداً عن قضية 'الشعب'. أصبح الإفلاس السياسي للإرهاب أكثر وضوحاً. وأظهر أن الهدف من الإرهاب كان تخويف النظام القيصري وإقناعه بتغيير أساليبه ، ولذا أطلق بليخانوف والفيلق المتنامي من الماركسيين على الإرهابيين لقب 'الليبراليون ذوو القنابل'  وهو وصف مناسب اليوم كما كان منذ قرن. طرح بليخانوف أن الإرهاب تجنب النضال الصعب لرفع وعي الطبقة العاملة. وبدلاً من ذلك ،و من خلال محاولة إثارة الجماهير بالضربات الإنتقامية لأفراد أبطال ، لم يعمل الإرهابيون إلا على إذهال الطبقة العاملة وإحباطها.

أثر العمل الرائد لبليخانوف على جيل كامل من المثقفين والشباب الذين دخلوا في النضال الثوري خلال أواخر العقد الثامن من  القرن التاسع عشر وأوائل العقد التاسع منه. كان تأثير مجادلاته أكبر بكثير مع توافق التحولات الإجتماعية في المدينة والريف أكثر فأكثر لتحليل بليخانوف.

بروز لينين

بحلول العقد التاسع من القرن التاسع عشر مرت روسيا بتطور إقتصادي سريع ، مع نمو الصناعة التي أنتجت طبقة عاملة قوية بشكل متزايد. كانت هذه هي الظروف التي دخل فيها فلاديمير إيليتش أوليانوف ، الأخ الأصغر لإرهابي ثوري شهيد ، في الحركة الثورية. ففي عام 1893 أسس سمعته بوصفه منظّر ناقد للحركة الشعبوية ، في كراس أطلق عليه اسم 'أصدقاء الشعب' وكيف يقاتلون الإشتراكيين الديمقراطيين. وكرس أوليانوف لينين جزءاً كبيراً من عمله لمهاجمة ما أسماه 'علم الإجتماع الذاتي' لميخائيلوفسكي ، موضحاً أن سياسة الحركة النارودنية (الشعبوية) لم تكن مبنية على دراسة علمية للعلاقات الإجتماعية القائمة في روسيا. لقد أظهر أن النارودنيين رفضوا مواجهة حقيقة أن الإنتاج الإجتماعي أصبح متطوراً للغاية ، وأن الصناعة واسعة النطاق قد تأسست وتركزت في أيدي الأفراد الذين اشتروا واستغلوا قوة عمل كتلة من العمال الذين كانت بلا ملكية. ولكن الأهم من التحليل الإقتصادي ، الذي تم تطويره بشكل أكبر في عمله الرئيسي التالي ،( تطور الرأسمالية في روسيا) كان توصيف لينين للطبيعة الطبقية للحركة النارودنية. وأوضح أن النارودنيين ، في جوهرهم ، هم ديموقراطيون برجوازيون صغيرون عكست آراؤهم الوضع الإجتماعي للفلاحين.

وفي حين أصر لينين على أهمية القضايا الديمقراطية، أي تلك المتعلقة بإلغاء الحكم المطلق القيصري ، وتدمير بقايا الإقطاع في الريف ، وتأميم الأرض، إلا أنه لم يكن أقل حماساً  لفكرة أنه من الخطأ الأساسي تجاهل التمييز بين الحركات الديمقراطية والإشتراكية. كان أكبر عائق أمام تطور الوعي الطبقي لدى البروليتاريا هو الميل إلى إخضاع البروليتاريا لخصوم الحكم المطلق من  الديمقراطيين البرجوازيين والبرجوازيين الصغار.

ففي هجومه على آراء ميخائيلوفسكي ، طرح لينين بأن ما يسمى بـ 'إشتراكية' البرجوازي الصغير الديموقراطي لا علاقة لها بإشتراكية البروليتاريا. وفي أحسن الأحوال ، تعكس 'إشتراكية' البرجوازية الصغيرة إحباطها في مواجهة النمو القوي لرأس المال وتركيزه في أيدي أقطاب البنوك والصناعة. إن الإشتراكية البرجوازية الصغيرة غير قادرة على إجراء تحليل علمي وتاريخي لتطور الرأسمالية. من شأن مثل هذا التحليل أن يُظهر الموقف اليائس للبرجوازية الصغيرة نفسها، والتي، كانت بعيد عن أن تكون طبقة صاعدة ، بل مثلت الأجزاء الباقية من الماضي الاقتصادي.

وكان الاستنتاج الذي توصل إليه لينين في ما يتعلق بالحركة الإشتراكية الثورية هو أنه يجب عليها أن تحارب تأثير الأيديولوجية الديمقراطية للبرجوازية الصغيرة داخل الحركة العمالية وأن عليها أن تفهم الفرق بين المطالب الإشتراكية والبرجوازية الديمقراطية. إن القضاء على الاستبداد وتدمير الإقطاع ، على الرغم أنه مثل تقدماً تاريخياً لكنه لم يضمن  نهاية استغلال الطبقة العاملة. ففي الواقع ، من شأن نتيجة تحقيق هذه المطالب أن تسهل في حد ذاتها تطور الرأسمالية والإستغلال المكثف للعمل المأجور. لكن هذا لا يعني أن على الطبقة العاملة عدم دعم النضال الديمقراطي بل على العكس تماماً حيث يجب أن تكون الطبقة العاملة في طليعة النضال الديمقراطي. لكن لا يجوز لها تحت أي ظرف من الظروف أن تخوض ذلك النضال تحت راية البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة. بل عليها بدلاً من ذلك شن النضال في سبيل  الديمقراطية فقط من أجل تسهيل النضال ضد البرجوازية نفسها.

شجب لينين 'الإندماجيين' و 'دعاة التحالف' الذين افترضوا أنه ينبغي على العمال ، باسم النضال ضد القيصرية ، التقليل من أهمية أهدافهم الطبقية المستقلة ، دون القلق بشأن القضايا البرنامجية ، وتشكيل تحالفات مع جميع المعارضين السياسيين للنظام. في حين قدم الماركسيون النضال الديمقراطي ليس  من خلال التكيف مع الليبراليين والديموقراطيين البرجوازيين الصغار ، ولكن من خلال تنظيم العمال في حزب سياسي مستقل خاص بهم ، على أساس برنامج إشتراكي ثوري. وكتب لينين تلخيصاً لطبيعة الشعبوية الروسية:

إذا رفضت تصديق الحديث المنمق عن 'مصالح الشعب' وحاولت التعمق أكثر ، فستجد أنك تتعامل مع إيديولوجيي البرجوازية الصغيرة المتمردين ...

وفي خاتمة عمله ، شدد لينين على أن عمل الحزب الثوري يجب أن يكون موجهاً نحو جعل العامل يفهم البنية السياسية والإقتصادية للنظام الذي اضطهده ، وضرورة وحتمية العداوات الطبقية في ظل هذا النظام.

وحين أتقن ممثلو الطبقة العاملة المتقدمون أفكار الإشتراكية العلمية ، فكرة الدور التاريخي للعامل الروسي، ولما تنتشر هذه الأفكار، وحين تتشكل منظمات مستقرة بين العمال لتحويل الحرب الإقتصادية المتفرقة الحالية للعمال إلى صراع طبقي واعي  فإن العامل الروسي ، الذي يرتفع على رأس جميع العناصر الديمقراطية ، سوف يسقط الحكم المطلق ويقود البروليتاريا الروسية (جنباً إلى جنب مع البروليتاريا في جميع البلدان) على طول الطريق المستقيم للنضال السياسي المفتوح إلى الثورة الشيوعية المنتصرة.

طور لينين، في هذا العمل الأساسي، المفاهيم التي كان من المفترض أن توجه بناء الحزب البلشفي. لم يخترع مفهوم الحزب أو التنظيم السياسي المستقل للطبقة العاملة لكنه منح هذه المفاهيم طابعاً سياسياً ملموساًلم يكن له مثيل. كان مقتنعاً بأن التنظيم السياسي للطبقة العاملة يتطلب نضالًا مكثفاً ضد النظريات والبرامج التي تعكس المصالح السياسية للبرجوازية. في عام 1900 كتب لينين في مقالته 'المهام العاجلة لحركتنا':

الإشتراكية  الديموقراطية هي مزيج من حركة الطبقة العاملة والإشتراكية. لا تتمثل مهمتها في خدمة حركة الطبقة العاملة بشكل سلبي في كل مرحلة من مراحلها المنفصلة ، بل تمثيل مصالح الحركة ككل ، ووتبيان لهذه الحركة هدفها النهائي ومهامها السياسية ، وحمايتها واستقلالها السياسي والأيديولوجي. و من خلال عزلها عن الإشتراكية الديموقراطية ، تصبح حركة الطبقة العاملة صغيرة وتصبح حتماً برجوازية. ففي الإقتصار على خوض النضال الإقتصادي فقط ، تفقد الطبقة العاملة إستقلالها السياسي، وتصبح ذيل الأحزاب الأخرى وتخون المبدأ العظيم: 'إن عملية تحرير الطبقات العاملة يجب أن تُنفذ من قبل الطبقة العاملة نفسها '. كانت هناك في كل بلد فترة تواجدت فيها حركة الطبقة العاملة بمعزل عن الإشتراكية ، وسار كل منها على طريقته الخاصة ؛ وقد أضعفت هذه العزلة في كل بلد كلاً من الإشتراكية وحركة الطبقة العاملة. إن اندماج الإشتراكية مع حركة الطبقة العاملة هو وحده الذي خلق أساساً دائماً لكليهما في جميع البلدان.

النضال ضد النزعة الإقتصادية

ظهر إتجاه جديد داخل الإشتراكية الديمقراطية الروسية ، معروف باسم النزعة الإقتصادية ، الذي ارتبط وجوده بنمو التحريفية البرنشتينية في ألمانيا. قلل الإقتصاديون من شأن الصراع السياسي الثوري وتكيفوا مع حركة الطبقة العاملة العفوية في منتصف العقد التاسع من القرن التاسع عشر ، واقترحوا أن تركز الحركة الإشتراكية الديمقراطية على تطوير نضالات الإضراب والجوانب الأخرى للنضال الإقتصادي للطبقة العاملة. كان معنى هذه النظرة أن الحركة العمالية يجب أن تتخلى عن أهدافها الثورية الإشتراكية. كما كان من المفترض التنازل عن مكانة الصدارة في النضال السياسي المعارض ضد استبداد البرجوازية الديمقراطية الليبرالية. وكان يجب التخلي عن البرنامج الثوري المستقل الذي أعلنه بليخانوف ولينين لصالح النشاط النقابي الهادف إلى تحسين الظروف الإقتصادية للطبقة العاملة في إطار المجتمع الرأسمالي. أو ، مثل. اقترح كوستوفا في بيان تم نشره في عام 1899:

إن الماركسية غير المتسامحة ، والماركسية السلبية ، والماركسية البدائية (التي تحمل مفهوم التقسيم الطبقي للمجتمع) ستفسح المجال للماركسية الديمقراطية ، الأمر الذي يتطلب  تغيير الوضع الإجتماعي للحزب في وسط المجتمع المعاصر بشكل جذري. وسوف يعترف الحزب بالمجتمع و ستتوسع مهامه المؤسسية الضيقة ، وفي معظم الحالات ، الفئوية إلى مهام إجتماعية ، وسيتحول سعيه للإستيلاء على السلطة إلى رغبة في التغيير ، وإصلاح المجتمع المؤقت على أسس ديمقراطية سيتم تكييفها مع الوضع الحالي ، بهدف حماية (جميع) حقوق الطبقات العاملة ، بأكثر الطرق إكتمالاً وفعالية.

لم يكن هذا كل شيء: فقد أعلن االبيان أن 'الحديث عن حزب سياسي مستقل للعمال ليس سوى نتيجة زرع أهداف غريبة وإنجازات غريبة على أرضنا'.

كانت النزعة الإقتصادية ظاهرة عالمية، ففي ظل الظروف التي أصبحت فيها الماركسية القوة السياسية والأيديولوجية المهيمنة في الحركة العمالية في أوروبا الغربية ، نشأ داخل تلك الحركة العمالية ما يرقى إلى معارضة برجوازية للماركسية. عكس نمو هذه المراجعة محاولة أيديولوجية البرجوازية الصغيرة للرأسمالية مقاومة وتقويض توسع التأثير الماركسي داخل الحركة العمالية. وبحلول عام 1899 ، أصبحت الآثار المترتبة عن هذه التحريفية واضحة إلى حد ما ، لما دخل الإشتراكي الفرنسي ميليران في حكومة برجوازية.

أثار إندلاع الإنتهازية أزمة داخل الإشتراكية الديموقراطية الدولية. كان بليخانوف أول من عارضها. وساهمت روزا لوكسمبورغ لاحقاً في النضال مع صدور كتيبها الرائع 'إصلاح أم ثورة؟' بعدها إنجر الإشتراكيون الديمقراطيون الألمان إلى المعركة على مضض . لكن النضال ضد الإنتهازية لم يتطور بشكل كامل في أي مكان كما كان في روسيا تحت قيادة لينين.

 في مطلع القرن العشرين ، لم تكن الحركة الإشتراكية الروسية منظمة سياسية موحدة. كان هناك العديد من الميول والجماعات التي عرّفت نفسها على أنها إشتراكية ، وحتى ماركسية ، لكنها قامت بعملها السياسي والعملي على أساس محلي ، أو ممثلة لمجموعة عرقية أو دينية معينة داخل الطبقة العاملة. وكان البوند اليهودي أشهر التنظيمات الأخيرة.

ولما اكتسبت الحركة العمالية الروسية قوتها في النصف الثاني من العقد التاسع من القرن التاسع عشر ، أصبحت الحاجة إلى التماسك البرنامجي والتنظيمي واضحة وملحة. كانت المحاولة الأولى لعقد مؤتمر لجميع الإشتراكيين الديمقراطيين الروس ، في مينسك عام 1898 ،لكن تم إجهاضها نتيجة تدخل الشرطة واعتقال المندوبين. وفي أعقاب هذه النكسة ، تعقدت خطط عقد المؤتمر بسبب الطابع غير المتجانس بشكل متزايد للحركة الإشتراكية الروسية ، الذي كان ظهور التيار الإقتصادي تعبيراً عنه.

إسكرا

على الرغم من أن بليخانوف كان ما زال الزعيم النظري المبجل للإشتراكية الروسية ، فقد ظهر أوليانوف لينين  بوصفه شخصية رئيسية في سياق الأعمال التحضيرية لعقد مؤتمر موحد للإشتراكيين الديمقراطيين الروس. كان أساس تأثيره هو دوره الرائد في نشر الجريدة السياسية الجديدة لحزب العمل الإشتراكي الديمقراطي الروسي ، (إيسكرا) أو الشرارة. اكتسبت الإيسكرا مكانة عالية داخل حركة المهاجرين وبين الماركسيين المنخرطين في النشاط الثوري العملي في روسيا ، نتيجة التماسك النظري والسياسي والتنظيمي الذي طرحته على أساس روسيا بالكامل ، ولولا الإيسكرا لظلت الحركة مجموعة من التيارات المتباينة.

نُشر العدد الأول من الإيسكرا في ديسمبر 1900. وأوضح لينين في بيان هام نُشر على صفحته الأولى:

مهمتنا الأساسية والأساسية هي تسهيل التطور السياسي والتنظيم السياسي للطبقة العاملة. أما أولئك الذين يدفعون بهذه المهمة إلى الخلفية ، ويرفضون إخضاعها لجميع المهام الخاصة وأساليب النضال الخاصة ،فهم يسلكون طريقاً خاطئاً ويسببون ضرراً خطيراً للحركة.

في الكلمات التي بقيت ، حتى بعد مرور قرن ، ذات صلة بالظروف المعاصرة ، إنتقد لينين بشدة أولئك 'الذين يعتقدون أنه من المناسب والملائم معاملة العمال بـ’ السياسة ‘فقط في لحظات إستثنائية من حياتهم ، فقط في المناسبات الإحتفالية '. .. وفي  إستهزاء بممثلي التيار الإقتصادي ، الذين مثلت لهم النقابات العمالية المناضلة والتحريض على المطالب الإقتصادية ألف باء النشاط الراديكالي في الطبقة العاملة، أصر لينين على أن المهمة الحاسمة التي واجهت الإشتراكيين كانت التثقيف السياسي للطبقة العاملة وتشكيل حزب سياسي إشتراكي مستقل.

كتب لينين: 'لم تصل أي طبقة في التاريخ إلى السلطة دون إنتاج قادتها السياسيين وممثليها البارزين القادرين على تنظيم حركة وقيادتها'. وفي الختام ، إقترح لينين ، بطريقة مقتضبة إلى حد ما ، 'تخصيص سلسلة من المقالات في الأعداد القادمة لمسائل التنظيم ، والتي هي من بين أكثر المشكلات التي نواجهها إلحاحاً'.

ما العمل؟

ما ترتب عن هذا الإقتراح ربما كان هو المسلك السياسي الأكثر تأثيراً وإثارة للجدل في القرن العشرين ،الا وهو كتاب لينين 'ما العمل؟' نظراً إلى الجدل الذي أثاره هذا الكتاب ، لا سيما في أعقاب الثورة البلشفية عام 1917 ، فمن الحقائق الرائعة أن ما العمل؟ حين نُشر لأول مرة في عام 1902 ، قبله كبار الإشتراكيين الديمقراطيين، وبأكبر قدر بليخانوف، بإعتباره بياناً رسمياً ًلمبادئ الحزب حول مسائل المهام السياسية والتنظيم.

قدم الكتاب تفصيلاً لمبادئ الحزب في مسائل المهام السياسية والتنظيم الأمر الذي كان له أهمية سياسية ، بقدر ما أكدت العديد من إدانات كتيب لينين التي أوردت  أن ما العمل؟ أدخل عنصراً تآمرياً وشمولياً إلى الإشتراكية لا أساس له في الماركسية الكلاسيكية.

يبدأ كتيب لينين بفحص الطلب الذي أثارته حركة الإيكونوميست - أي أتباع إدوارد برنشتاين الروس - من أجل 'حرية النقد'. إنه يضع هذا الشعار  الذي يبدو ، للوهلة الأولى ، ديمقراطياً وجذاباً بشكل بارز  في سياق النزاع المحتدم داخل صفوف الإشتراكية الديموقراطية الدولية بين المدافعين عن الماركسية الأرثوذكسية والتحريفيين ، الذين تبنوا منهجاً نظرياً وحيوياً ومثل بالتالي  هجوماً سياسياً على تلك الأرثوذكسية.

صرح لينين، مشيراً إلى أن مراجعات برنشتاين النظرية للأسس البرنامجية للحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني وجدت تعبيرها السياسي في دخول الإشتراكي الفرنسي ألكسندر ميلراند إلى حكومة الرئيس فالديك روسو ، أن شعار 'حرية النقد' 

يعني الحرية لإتجاه انتهازي في الإشتراكية الديموقراطية ، وحرية تحويل الإشتراكية الديموقراطية إلى حزب إصلاح ديمقراطي ، وحرية إدخال الأفكار البرجوازية والعناصر البرجوازية إلى الإشتراكية.

ورد لينين على هذا المطلب بأنه لا أحد ينكر حق النقاد في الإنتقاد. لكنه يصر على أن الماركسيين ليس لهم حق أقل في رفض إنتقاداتهم ومحاربة محاولة تحويل الديمقراطية الإشتراكية الثورية إلى حركة إصلاحية.

بعد مراجعة موجزة لأصول النزعة الإقتصادية في روسيا ، لاحظ لينين عدم اكتراثها العام بالنظرية. وذكر أن 'حرية النقد التي يتبجح بها الإقتصاديون كثيراً لا تعني استبدال إحدى النظريات بأخرى ، بل تعني التحرر من كل نظرية متكاملة ومدروسة ؛ وهذا ينطوي على إنتقائية وعدم وجود مبدأ. ''  ولاحظ أن هذه اللامبالاة مبررة من قبل التحريفيين الذين اقتبسوا ، خارج السياق ، تصريح ماركس بأن التقدم العملي الحقيقي للحركة الإشتراكية أهم من عشرة برامج. وأجاب لينين: 'إن تكرار هذه الكلمات في فترة من الإرتباك النظري، هو مثل تمنيات المعزين  طوال اليوم في جنازة بعودة سعيدة '.

ثم أعلن بعبارات لا يمكن الإستشهاد بها كفايةً: 'بدون نظرية ثورية لا يمكن أن تكون هناك حركة ثورية. لا يمكن الإصرار على هذه الفكرة بشدة في وقت يسير فيه التبشير العصري بالإنتهازية جنباً إلى جنب مع الإفتتان بأضيق أشكال النشاط العملي.'. يجادل بأن 'الحزب الذي يسترشد بالنظرية الأكثر تقدماً' فقط سيكون قادرا ًعلى تزويد الطبقة العاملة بالقيادة الثورية، ويستذكر إلى أن فريدريك إنجلز قد أدرك بوجود  'ليس شكلين فقط من النضال العظيم للاشتراكية الديموقراطية (سياسي واقتصادي) ، كما هو الحال بيننا ، بل ثلاثة ، حيث وضع النضال النظري على قدم المساواة مع النوعين الأولين'. ستتمكن النظرية 'من تزويد الطبقة العاملة بالقيادة الثورية ، وأشار إلى أن فريدريك إنجلز لم يكتف بإدراك' شكلين من النضال العظيم للإشتراكية الديموقراطية (السياسية والإقتصادية) ، كما هو الحال بيننا ، بل بثلاثة ، حيث أن النضال النظري كان على قدم المساواة مع الأول والثاني. يقتبس لينين مقولة إنجلز التي تقول: 'لولا الفلسفة الألمانية ، التي سبقتها ، ولا سيما فلسفة هيجل، لما كانت الاشتراكية العلمية الألمانية - الاشتراكية العلمية الوحيدة التي وجدت على الإطلاق - لتظهر إلى الوجود. و بدون حس النظرية بين العمال ، لم تكن هذه الإشتراكية العلمية لتدخل لحمهم ودمهم أبداً كما هو الحال الآن. '.

حمل القسم الثاني من كتاب ما العمل؟ عنوان 'عفوية الجماهير ووعي الإشتراكيين الديمقراطيين.' هذا ، بلا شك ، هو أهم جزء في كتيب لينين ، وبشكل حتمي ، القسم الذي تعرض لأشد الهجمات والتحريفات التي لا هوادة فيها. لقد قيل لنا مراراً وتكراراً في هذا القسم ، أن لينين فضح نفسه بوصفه نخبوياً متعجرفاً ، محتقراً جماهير العمال و تطلعاتهم ، معادياً لنضالاتهم اليومية ، متلهفاً للسلطة الشخصية ويحلم فقط باليوم الذي هو وحزبه اللعين سيفرضان ديكتاتوريتهما الشمولية ذات القبضة الحديدية على الطبقة العاملة الروسية غير المريحة. يجدر بنا أن نفحص هذا القسم بعناية خاصة.

إن القضية الحاسمة التي حللها لينين هي طبيعة العلاقة بين الماركسية والحزب الثوري من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، الحركة العفوية للطبقة العاملة وأشكال الوعي الإجتماعي التي تتطور بين العمال في هذا المسار من تلك الحركة. وتتبع تطور أشكال الوعي بين العمال الروس ، بدءاً من المظاهر الأولية للصراع الطبقي في العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر.

كانت تلك النضالات ذات طابع بدائي للغاية ، تضمنت تدمير العمال للآلات. مدفوعةً باليأس والإفتقار إلى أي وعي بالطبيعة الإجتماعية والطبقية لتمردهم ، تجلت هذه الإنفجارات العفوية في الوعي الطبقي فقط في شكل 'جنيني'. كان الوضع الذي تطور بعد ثلاثة عقود أكثر تقدمًا بشكل ملحوظ. فبالمقارنة مع النضالات المبكرة ، أظهرت إضرابات العقد التاسع من القرن التاسع عشر مستوى أعلى بشكل ملحوظ من الوعي بين العمال. كانت الإضرابات أكثر تنظيماً بل أنها قدمت مطالب مفصلة للغاية. لكن الوعي الذي أبداه العمال في هذه النضالات كان ذا طابع نقابي أكثر من أن يكون  إشتراكياً ديمقراطياً. أي أن الإضرابات لم ترفع مطالب ذات طابع سياسي ، ولم تعبر عن وعي بالطبيعة الأعمق التي لا يمكن التوفيق بينها للصراع بين العمال والنظام الإجتماعي والاقتصادي والسياسي القائم. وبدلاً من ذلك ، سعى العمال فقط إلى تحسين وضعهم في إطار النظام الإجتماعي القائم.

كان هذا التحديد حتمياً ، بمعنى أن الحركة العفوية للطبقة العاملة لا يمكن أن تطور من تلقاء نفسها ،'عفوياً' ، وعيها الإجتماعي الديمقراطي ، أي وعيها الثوري. في هذه المرحلة ، قدم لينين الحجة التي أثارت الكثير من التنديدات. وكتب:

قلنا أنه لا يمكن أن يكون هناك وعي إشتراكي ديموقراطي بين العمال بل  يجب نقله إليهم من الخارج حيث ُأظهر تاريخ جميع البلدان أن الطبقة العاملة ، لا تقدر بالاعتماد على جهودها الخاصة فقط إلا على تطوير وعياً نقابياً فقط ، أي الاقتناع بضرورة الاندماج في النقابات ، ومحاربة أصحاب العمل ، والسعي لإجبارهم عن طريق الحكومة لتمرير تشريعات العمل اللازمة ، إلخ. ومع ذلك ، نشأت نظرية الإشتراكية من النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المثقفون من الطبقات المالكة. فبحكم وضعهما الإجتماعي، كان مؤسسا الإشتراكية العلمية الحديثة ، ماركس وإنجلز ، ينتميان  إلى النخب البرجوازية. وبنفس الطريقة ، نشأت العقيدة النظرية للإشتراكية الديموقراطية في روسيا بشكل مستقل تماماً عن النمو التلقائي لحركة الطبقة العاملة، وهي نشأت نتيجة طبيعية وحتمية لتطور الفكر بين المثقفين الإشتراكيين الثوريين. دعماً لتفسيره للعلاقة بين الماركسية والوعي النقابي النامي تلقائياً ، أي الوعي البرجوازي.

دعماً لتفسيره للعلاقة بين الماركسية والوعي النقابي النامي تلقائياً ، أي البرجوازي ، لدى الطبقة العاملة يستشهد لينين - مع الموافقة على تعليقات كارل كاوتسكي - بمشروع برنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي:

كلما زاد التطور الرأسمالي من عدد البروليتاريا ، كلما صارت البروليتاريا مضطرة و صالحة للقتال ضد الرأسمالية. عندها تدرك البروليتاريا إمكانية وضرورة الإشتراكية. في هذا الصدد ، يبدو أن الوعي الإشتراكي هو نتيجة ضرورية ومباشرة للصراع الطبقي البروليتاري، لكن هذا غير صحيح على الإطلاق. بالطبع ، الإشتراكية ، كعقيدة ، لها جذورها في العلاقات الإقتصادية الحديثة ، تماماً كما أن الصراع الطبقي للبروليتاريا ينبثق ، مثل الأخيرة ، من النضال ضد الفقر والبؤس الذي خلقه الرأسماليون للجماهير. لكن الإشتراكية والصراع الطبقي ينشآن جنباً إلى جنب ولا ينشأ أحدهما من الآخر ؛ كل ينشأ في ظل ظروف مختلفة. يمكن للوعي الإشتراكي الحديث أن ينشأ فقط على أساس المعرفة العلمية العميقة. والواقع أن علم الإقتصاد الحديث هو شرط للإنتاج الإشتراكي مثله مثل التكنولوجيا الحديثة ، ولا يمكن للبروليتاريا أن تخلق لا هذا ولا ذاك مهما رغبت في ذلك حيث ينشأ كلاهما من العملية الإجتماعية الحديثة. إن آليّة العلم ليست البروليتاريا ، بل المثقفون البرجوازيون. قد نشأت الإشتراكية الحديثة في أذهان أفراد هذه الفئة ، وكانوا هم الذين نقلوها إلى أكثر البروليتاريين تطوراً فكرياً الذين بدورهم أدخلوها في الصراع الطبقي البروليتاري حيث تسمح الظروف بذلك. وهكذا ، فإن الوعي الإشتراكي هو شيء يتم إدخاله في الصراع الطبقي البروليتاري من الخارج وليس شيئاً نشأ فيه بشكل تلقائي. وعليه ، فإن برنامج هينفلد القديم نص، وهو محق تماماً، على  أن مهمة الإشتراكية الديموقراطية هي إشباع البروليتاريا (حرفياَ: إشباع البروليتاريا) بوعي موقفها ووعي مهمتها. لن تكون هناك حاجة لذلك إذا نشأ الوعي بنفسه من الصراع الطبقي.

إستخلص لينين من هذا المقطع الاستنتاج التالي:

بما أنه لا يمكن الحديث عن أيديولوجية مستقلة صاغتها الجماهير العاملة نفسها في سياق حركتها ، فإن الخيار الوحيد هو  إما الإيديولوجيا البرجوازية أو الإشتراكية. لا يوجد مسار وسط (لأن البشرية لم تبتكر أيديولوجية 'ثالثة' ، وعلاوة على ذلك ، في مجتمع تمزقه العداوات الطبقية لا يمكن أن تكون هناك أيديولوجية غير طبقية أو فوق الطبقة). ومن ثم ، فإن التقليل من شأن الإيديولوجية الإشتراكية بأي شكل من الأشكال ، والإبتعاد عنها بأدنى درجة يعني تقوية الأيديولوجية البرجوازية. هناك الكثير من الحديث عن العفوية لكن التطور التلقائي لحركة الطبقة العاملة أدى إلى خضوعها للأيديولوجية البرجوازية ،و إلى تطورها على غرار برنامج كريدو. لأن حركة الطبقة العاملة العفوية هي حركة نقابية ، ولاتعدو أن تكون نوع من المساومة ، كما أن النقابات العمالية تعني إستعباد البرجوازية الإيديولوجي للعمال. من هنا ، فإن مهمتنا ، مهمة الإشتراكية الديموقراطية ، هي محاربة العفوية ، وتحويل الطبقة العاملة عن هذه النقابية العفوية التي تسعى للإنضمام إلى جناح البرجوازية ، ووضعها تحت جناح الإشتراكية الديمقراطية الثورية. 

تم استنكار هذه المقاطع مراراً وتكراراً بوصفها تعبيراً عن 'النخبوية' البلشفية حيث تكمن ، علاوة على ذلك ، جراثيم تطورها الشمولي المستقبلي . ففي كتاب بعنوان بذور الشر ، أشار روبن بليك إلى الجملة الأخيرة المقتبسة أعلاه (حيث يتحدث لينين عن 'النقابيين الذين يجاهدون ليكونوا تحت جناح البرجوازية') على أنه 'صياغة غير عادية تماماً لشخص مهتم عادة

في الدفاع عن 'الأرثوذكسية' الماركسية ، وبالتأكيد هو يساوي في صدقه أي من تنقيحات الماركسية التي قام بها آنذاك الإشتراكي-الديموقراطي الألماني إدوارد برنشتاين ... ما لم يفعله ماركس وإنجلز أبداً هو أن يشرحا في كتاباتهما عملاً يندرج ضمن إطار عقيدة النبوة السياسية والتلاعب التنظيمي. 

هجوم كولاكوفسكي على ما العمل؟

تم تطوير هذه الحجة بشكل أكثر جوهرية في العمل المشهور جداً للفيلسوف الأكاديمي ليزيك كولاكوفسكي ، الذي حمل عنوان التيارات الرئيسية للماركسية ، وهو عمل من ثلاثة مجلدات نُشر في الأصل عام 1978. وهو رفض تأكيد لينين بأن العمال العفويين يتحركون بإعتباره 'أمراًجديداً'. لا يستطيع تطوير أيديولوجية إشتراكية ، وبالتالي يجب أن يكون لحركتهم أيديولوجية برجوازية. الأمر الأكثر إثارة للقلق ، وفقاً لكولاكوفسكي ، هو الإستنتاج بأن الحركة العمالية يجب أن تتخذ طابعاً برجوازياً إذا لم تكن بقيادة حزب إشتراكي:

ويُستكمل هذا باستنتاج ثانٍ مفاده أن حركة الطبقة العاملة بالمعنى الحقيقي للكلمة ، أي حركة الثورة السياسية ، لا تُعرَّف بأنها حركة عمالية بل بإمتلاكها للأيديولوجيا الصحيحة ، أي الماركسية ، التي هو 'بروليتارية' بالتعريف. وبعبارة أخرى ، فإن التكوين الطبقي للحزب الثوري ليس له أي أهمية في تحديد طابعه الطبقي.

واصل كولاكوفسكي تقديم بعض التعليقات الدنيئة ، مستهزئاً بالإدعاء القائل بأن الحزب 'يعرف ما هو في المصلحة' التاريخية 'للبروليتاريا وما يجب أن يكون عليه وعي هذه البروليتاريا الأصيل في أي لحظة معينة ، على الرغم من أن وعيها التجريبي عموماً يكون متخلفاً. ومن المفترض أن تكون ملاحظات من هذا النوع ذكية بشكل لا يصدق ، وتكشف عن التصور السخيف لحزب سياسي صغير يوضح برنامجه مصالح الطبقة العاملة ، حتى لو كانت جماهير العمال لا تتفق معها ، أو حتى أن تكون عاجزة عن فهم هذا البرنامج. لكن الحجج من هذا النوع تظهر بذكاء فقط طالما أن المرء لا يكلف نفسه عناء التفكير ملياً فيها. فإذا كانت حجة كولاكوفسكي صحيحة ، فما الحاجة لأي حزب سياسي ، سواء أكان من الطبقة العاملة أم البرجوازية ؟ وبعد كل شيء ، أليس صحيحاً أن جميع الأحزاب السياسية وقادتها يدعون التحدث بإسم، ويعبرون عن، مصالح المجتمعات الإجتماعية الأوسع؟ إذا أخذ المرء تاريخ البرجوازية ، فإن مصالحها كطبقة قد تم تحديدها وتعريفها وتوضيحها من قبل الأحزاب السياسية - التي لم يُجبر قادتها بشكل متكرر على العمل في المعارضة ، كفصيل أقلية صغيرة وحتى بشكل غير قانوني ، حتى اكتسبوا طبقتهم  إلى صفهم ، أو على الأقل العناصر الأكثر أهمية فيه ، بالمنظور والبرنامج الذي قاتلوا من أجله. 

وُجِد التزمَت بمثابة ميلاً دينياً سياسياً في إنجلترا لمدة نصف قرن قبل أن تظهر بوصفها الإتجاه المهيمن داخل البرجوازية الصاعدة تحت قيادة كرومويل ، لتحقق إنتصار الثورة على نظام ستيوارت الملكي. وبعد مئة وخمسين عاماً ، ظهر حزب اليعاقبة المكون من مؤيدي روسو المسيسين في خضم المعارك الحزبية المريرة داخل البرجوازية والبرجوازية الصغيرة ، بين 1789 و 1792 ، بوصفه قائداً للثورة الفرنسية. لا يمكن إعطاء أمثلة أقل صلة بالموضوع من التاريخ الأمريكي ، من فترة ما قبل الثورة وحتى الوقت الحاضر. قد لا تكون السياسات التي عبرت عن المصالح 'الموضوعية' لطبقة معينة  أي التي حددت وصاغت برمجياً وسائل إنشاء الشروط المطلوبة لتقدم المصالح السياسية والإجتماعية والاقتصادية لطبقة معينة  معترف بها من قبل الأغلبية ، أو حتى أي قسم كبير من المعنيين في أي نقطة معينة. إن إلغاء العبودية أدى ، كما سيظهر التاريخ بشكل قاطع ، إلى توطيد الدولة القومية الأمريكية وإلى تسارع هائل في النمو الصناعي والإقتصادي للرأسمالية. ومع ذلك ، فإن الطليعة السياسية في الكفاح ضد العبودية ، من دعاة إلغاء الرق ، إضطروا إلى خوض صراع مرير إمتد لعقود ضد مقاومة قوية داخل برجوازية الولايات الشمالية ، التي عارضت وخشيت المواجهة مع الجنوب. لقد فهم القلائل من دعاة إلغاء عقوبة الإعدام بشكل أفضل بكثير من الغالبية العظمى من رجال الأعمال والتجار والمزارعين الشماليين ، وكذلك العمال الحضريين ، الأمر الذي  كان في مصلحة التنمية طويلة الأجل للدولة القومية الأمريكية والرأسمالية الشمالية. بالطبع ، لم يشرح دعاة إلغاء الرق في أوائل القرن التاسع عشر برنامجهم وأفعالهم بمثل هذه المصطلحات الطبقية الواضحة. لكن هذا لا يغير حقيقة أنهم عبروا ، بلغة مناسبة لعصرهم ، عن مصالح البرجوازية الشمالية الصاعدة كما أدركتها أكثر قطاعات تلك الطبقة بُعد نظر سياسياً.

من الأمثلة الأكثر حداثة على قيام حزب سياسي بتعريف ومحاربة المصالح الموضوعية للبرجوازية في مواجهة أجزاء كبيرة من تلك الطبقة هو الحزب الديمقراطي بقيادة روزفلت. لقد مثّل هذا الجانب داخل البرجوازية الأمريكية ، وهي أقلية بالتأكيد ، التي أصبحت مقتنعة بأن إنقاذ الرأسمالية في الولايات المتحدة لم يكن ممكناً بدون إصلاحات إجتماعية كبرى ، الأمر الذي استلزم تقديم تنازلات كبيرة للطبقة العاملة.

إسمحوا لي أيضاً أن أشير إلى أن النخب الحاكمة توظف خدمات مئات الآلاف من المتخصصين في السياسة وعلم الإجتماع والإقتصاد والشؤون الدولية ، إلخ ، لمساعدتها على فهم إهتماماتهم. فعلى الرغم من أنه ، لأسباب سأشرحها ، من الأسهل على البرجوازي العادي أن يدرك أين تكمن مصالحه الحقيقية مقارنة بالعامل العادي ، فإن صياغة سياسة الطبقة الحاكمة لا يمكن أن تكون مجرد انعكاس مباشر لما يعتقده رجل الأعمال الأمريكي 'العادي' ، أو حتى المدير التنفيذي المليونير ' العادي' لشركة ما.

إن إدعاء كولاكوفسكي بأن مفهوم لينين للعلاقة بين الحزب الإشتراكي وتطور الوعي ليس له أساساً في الماركسية يتطلب ببساطة أن يتجاهل ما كتبه ماركس وإنجلز بالفعل عن هذا الموضوع. ففي العائلة المقدسة ،الذي كتب عام 1844 ، أوضح أنه في صياغة البرنامج الإشتراكي:

أن الأمر لايتعلق بمسألة ما يعتبره هذا البروليتاري أو ذاك ، أو حتى البروليتاريا كلها ، هدفه في الوقت الحاضر. إنه سؤال حول ماهية البروليتاريا ، وما الذي ستضطر إلى فعله تاريخياً وفقاً لهذا الكينونة. إن هدفها وعملها التاريخي ينبآن بشكل واضح ولا رجعة فيه ويتجليان في حالة حياتها الخاصة وكذلك في كل منظمة المجتمع البرجوازي اليوم.

نقد ما بعد الحداثة للينين

في كتاب آخر يهاجم ما العمل؟ ، تم الاستشهاد بالفقرة المذكورة أعلاه - ولكن ليس ، كما في حالة كولاكوفسكي ، لتشويه سمعة لينين فقط. موقف المؤرخ البريطاني نيل هاردينغ هو أن لينين كان ، في الواقع ، ماركسيًا أرثوذكسيًا. 

المفاهيم المُقدمة في ما العمل؟ كانت مبنية على ما كتبه ماركس نفسه في العائلة المقدسة. لذلك ، بحسب هاردينغ:

إن الدور المتميز الممنوح للمثقفين الإشتراكيين في تنظيم وتوضيح مظالم البروليتاريا وقيادة نضالها السياسي ، بعيداً عن أن يكون انحرافاً لينينياً عن الماركسية ، له دور مركزي في غطرسة الماركسية ككل. كان على ماركس (وجميع الماركسيين اللاحقين) التأكيد على أن كان لديه وعياً أكثر عمقاً بمصالح وأهداف البروليتاريا على المدى الطويل أكثر مما يمكن أن يمتلكه أي بروليتاري أو أي مجموعة من البروليتاريين.

في حين أكد كولاكوفسكي أن لينين حرف ماركس ، أصر هاردينغ على أن لينين استند إلى ماركس ، و شجب ما العمل؟ وقد إنطلق من رفض الإدعاء بأن الوعي الطبقي الإشتراكي يحتاج إلى أن يتم إدخاله إلى الطبقة العاملة من قبل حزب سياسي ، وأن أي حزب يمكنه الإدعاء بأن برنامجه يمثل مصالح الطبقة العاملة. إن التأكيد الماركسي  على الحقيقة الموضوعية و الإفتتان بالعلم ، والإعتقاد بأن العالم ، بالمعنى الموضوعي ، معروف ومحكوم بالقانون ، 'وأن المعرفة المنهجية العامة (أو' الموضوعية ') للعلم حظيت بإمتياز على حساب المعرفة 'الذاتية' التي تنقلها التجربة المكتسبة '. وهاجم هاردينغ المفهوم الماركسي القائل بأن الحقيقة الموضوعية هي شيء يجب إعتباره بعيداً عن النتائج المستمدة من إستطلاع للرأي العام ، بل ويعارضها. وكتب هاردينغ:

اللينينية هي بالكامل من بنات الماركسية في ما يتعلق بالأسس الأساسية لنظريتها عن الحزب. وهي استندت إلى ادعاء مشابه لنوع خاص من المعرفة واعتقاد متعجرف مماثل بأن القضية البروليتارية لا يمكن اكتشافها بمجرد إجراء استطلاع رأي  بين العمال .

متسلحاً بلغة ما بعد الحداثة العصرية المحبوبة جداً من قبل الأكاديميين اليساريين السابقين  حيث يتم إعادة تعريف المعرفة العلمية على أنها مجرد أسلوب خطاب 'متميز' تم إدارته لأسباب غير مرتبطة كلياً بالجودة الجوهرية لمحتواها ، لتأكيد تفوقها على أشكال التعبير الأخرى الأقل تفضيلاً ثقافياً- رفض هاردينغ ماأشار إليه على أنه 'المفهوم الغامض لللازمة التاريخية' الذي أيده كل من ماركس ولينين ؛ أي أن فكرة 'أن الدراسة الشاملة لتطور المجتمع ستكشف عن بعض الميول العامة التي ، بمجرد تأسيسها وهيمنتها ، ستدفع الرجال إلى التصرف بطرق معينة'.

المفاهيم الفلسفية الكامنة وراءكتاب  ما العمل؟

يقودنا هذا إلى القضية النظرية والفلسفية المركزية التي تكمن وراء مفهوم لينين لدور الحزب ، والمشروع الماركسي بأكمله. إذا كانت التصورات والآراء التي تولدت في أذهان العمال على أساس تجربتهم المباشرة ، كما أكد هاردينغ ، ليست أقل صحة وشرعية من المعرفة التي تم تطويرها على أساس نظرة ثاقبة لقوانين التنمية الإجتماعية ، فعندئذ لا يكون العمال  بحاجة لحزب سياسي يسعى إلى جعل ممارسته تتماشى مع الإتجاهات التي يحكمها القانون والتي يكشف عنها العلم. إسمحوا لي أن أوضح أنه يمكن للمرء ، بناءً على حجج هاردينغ ، إنكار وجود أي حاجة للعلم بأي شكل من الأشكال حيث ينطلق العلم من التمييز بين الواقع الذي يتجلى في الإدراك الفوري للحس ، والواقع كما يظهر من خلال عملية معقدة ومطولة للتحليل والتجريد النظري.

السؤال الرئيسي الذي نواجهه هو هل يمكن للواقع الإجتماعي الموضوعي، على افتراض وجود مثل هذا الواقع (الذي يٌعد ، بالنسبة للأكاديميين ، تساؤلاً كبيراً) - أن يكون مفهوماً من قبل  العمال الأفراد ، أو من قبل الطبقة العاملة ككل ، على أساس الخبرة الفورية؟ هذا سؤال كرس لينين الكثير من الوقت له ، لا سيما لما انخرط ، بعد عدة سنوات ، في كتابة المرجع النظري المادية والنقد التجريبي. كتب لينين:

في جميع التشكيلات الإجتماعية بغض النظر عن أي تعقيد، وفي التكوين الإجتماعي الرأسمالي على وجه الخصوص، لا يدرك الناس في علاقاتهم نوع العلاقات الإجتماعية التي يتم تشكيلها ، وفقاً للقوانين التي يطورونها ، إلخ. فعلى سبيل المثال ، فإن الفلاح حين يبيع حبوبه يدخل في 'إتصال' مع منتجي الحبوب في العالم في السوق العالمية ، لكنه لا يدرك ذلك ؛ ولا يدرك نوع العلاقات الإجتماعية التي تم تشكيلها على أساس التبادل. إن الوعي الإجتماعي يعكس الوجود الإجتماعي  وهذا هو ما علمنا إياه ماركس. قد يكون الإنعكاس نسخة طبق الأصل تقريباً من المنعكس ، لكن الحديث عن التطابق أمر سخيف.

... يدرك كل منتج فردي في النظام الإقتصادي العالمي أنه يدخل هذا التغيير أو ذاك في تقنية الإنتاج ؛كما يدرك كل مالك أنه يستبدل بعض المنتجات بأخرى ؛ لكن هؤلاء المنتجين وهؤلاء الملاك لا يدركون أنهم بذلك يغيرون الوجود الإجتماعي. لم يكن بالإمكان فهم مجموع هذه التغييرات بكل تشعباتها في الإقتصاد العالمي الرأسمالي حتى من قبل سبعين ماركساً. الشيء الأكثر أهمية هو أن قوانين هذه التغييرات قد تم اكتشافها ، وأن المنطق الموضوعي لهذه التغييرات وتطورها التاريخي قد تم الكشف عنه في ملامحه الرئيسية والأساسية  الموضوعية ، وليس بمعنى أن مجتمع الكائنات الواعية ، من الناس ، يمكن أن يوجد ويتطور بشكل مستقل عن وجود الكائنات الواعية (وهذه الأشياء التافهة فقط هي التي يؤكد عليها بوجدانوف من خلال 'نظريته') ، ولكن بمعنى أن الوجود الإجتماعي مستقل عن الوعي الإجتماعي للناس. إن حقيقة أنك تعيش وتدير أعمالك ، وتنجب الأطفال ، وتنتج المنتجات وتتبادلها ، تؤدي إلى سلسلة من الأحداث الضرورية موضوعياً ، وهي سلسلة من التطور ، مستقلة عن وعيك الإجتماعي ، ولا يستوعبها هذا الأخير تماماً.  إن أعلى مهمة للإنسانية هي فهم هذا المنطق الموضوعي للتطور الإقتصادي (تطور الحياة الإجتماعية) في سماته العامة والأساسية ، بحيث يكون من الممكن التكيف مع وعيه الإجتماعي ووعي الطبقات المتقدمة للجميع  في البلدان الرأسمالية بأسلوب محدد وواضح ونقدي قدر الإمكان.

و إلى أي مدى يدرك الناس  حين يذهبون إلى العمل  شبكة الترابط الإقتصادي الواسعة العالميه التي يعد عملهم عنصراً دقيقاً فيها؟ يمكن للمرء أن يفترض بشكل معقول أنه حتى أكثر العمال ذكاءً سيكون لديهم فقط إحساس غامض بالعلاقة بين وظيفته أو شركته بالعمليات المعقدة للإنتاج الدولي الحديث وتبادل السلع والخدمات. كما أن العامل الفرد ليس في وضع يسمح له بإختراق ألغاز التمويل الرأسمالي الدولي ، ودور صناديق التحوط العالمية ، والطرق السرية التي غالباً ما تكون غير قابلة للإختراق (حتى من قبل خبراء في هذا المجال) التي تنقل عشرات المليارات من الدولارات من الأصول المالية عبر الحدود الدولية كل يوم. إن حقائق الإنتاج الرأسمالي الحديث والتجارة والتمويل معقدة للغاية لدرجة أن قادة الشركات والسياسيين يعتمدون على تحليلات ومشورة المؤسسات الأكاديمية الكبرى ، والتي غالباً ما تنقسم في ما بينها حول معنى البيانات الموجودة تحت تصرفهم. لكن مشكلة الوعي الطبقي تتجاوز الصعوبة الواضحة المتمثلة في إستيعاب وإتقان الظواهر المعقدة للحياة الإقتصادية الحديثة. فعلى مستوى أساسي أكثر نجد أن الطبيعة الدقيقة للعلاقة الإجتماعية بين العامل الفردي وصاحب العمل ، ناهيك عن بين الطبقة العاملة بأكملها والبرجوازية ، لا يمكن استيعابها على مستوى الإدراك الحسي والخبرة المباشرة.

بل أن العامل المقتنع أنه يتعرض للإستغلال لا يمكنه ، على أساس تجربته الشخصية المريرة ، إدراك الآلية الإجتماعية والإقتصادية الكامنة وراء ذلك الإستغلال. علاوة على ذلك ، فإن مفهوم الإستغلال ليس مفهوماً يسهل استيعابه ، ناهيك عن إشتقاقه مباشرة من الإحساس الغريزي بأن المرء لا يحصل على أجر كافٍ. إن العامل الذي يملأ استمارة طلب وقت التقدم إلى وظيفة لا يدرك أنها تعرض بيع قوة عمله ، أو أن الجودة الفريدة لتلك القوة العاملة هي قدرتها على إنتاج مبلغ أكبر من السعر (الأجر) الذي تم شراؤه به ؛ وهذا الربح يأتي من هذا الإختلاف بين تكلفة قوة العمل والقيمة التي تخلقها.

كما لا يدرك العامل أنه حين يشتري سلعة مقابل مبلغ محدد من المال ، فإن جوهر هذا التبادل ليس علاقة بين الأشياء (معطف أو سلعة أخرى مقابل مبلغ محدد من المال) ولكن بين الناس. ففي الواقع ، هو لا يفهم طبيعة النقود ، وكيف نشأت تاريخياً كتعبير عن شكل القيمة ، وكيف تعمل على إخفاء العلاقات الإجتماعية الكامنة في المجتمع الذي تم فيه تعميم إنتاج السلع وتبادلها أي المجتمع الرأسمالي.

قد تكون هذه النقطة الأخيرة بمثابة مقدمة عامة للأساس النظري المعرفي لأهم عمل ماركس ، رأس المال. ففي القسم الختامي للفصل الأول من المجلد الأول ، قدم ماركس نظريته عن عبثية السلع ، التي شرحت مصدر غموض العلاقات الإجتماعية داخل المجتمع الرأسمالي وهي أساس هذا النظام الإقتصادي الإجتماعي المحدد. إن العلاقات بين الناس تظهر بالضرورة بوصفها علاقات بين الأشياء. لكن هذا ليس ظاهراً ولا يمكن أن يكون واضحاً للعمال ، على أساس الإدراك الحسي والخبرة المباشرة ، حيث أن قيمة أي سلعة ما هي التعبير المتبلور لمجموع العمل البشري المجرد المنفق في إنتاجها. مثَّل اكتشاف جوهر شكل القيمة معلماً تاريخياً في الفكر العلمي. فبدون هذا الإكتشاف ، لم يكن من الممكن فهم الأسس الإجتماعية والإقتصادية الموضوعية للصراع الطبقي ولا آثارها الثورية.

بغض النظر عن أن العامل قد يكره العواقب الإجتماعية للنظام الذي يعيش فيه ، لكنه ليس في وضع يسمح له بفهم ، على أساس التجربة المباشرة ، سواء أصولها أو تناقضاتها الداخلية أو الطابع المحدود تاريخياً لوجودها. إن فهم تناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي ، والعلاقة الإستغلالية بين رأس المال والعمل المأجور ، وحتمية الصراع الطبقي وعواقبه الثورية ، نشأ على أساس العمل العلمي الحقيقي ، الذي نشأ وارتبط  بإسم ماركس إلى الأبد. يجب إدخال المعرفة التي تم الحصول عليها من خلال هذا العلم ، وطريقة التحليل التي ينطوي عليها وتحقيق وتوسيع هذه المعرفة ونشرها في الطبقة العاملة، هذه هي مهمة الحزب الثوري.

إذا كان لينين نخبوياً ، فلا بد إذن من إلصاق هذه التسمية بكل أولئك الذين حاربوا تحت راية الحقيقة العلمية ضد أشكال لا حصر لها من الظلامية. ألم يكتب توماس جيفرسون أنه أقسم على خوض معارضة أبدية لكل شكل من أشكال الجهل والإستبداد على عقول الرجال؟ يمكن توجيه تهمة النخبوية بحق أولئك الذين يشوهون ويعارضون التنوير السياسي والثقافي للطبقة العاملة، وبالتالي يتركونها تحت رحمة مستغليها.

أخيراً ، دعونا نتعامل مع الإتهام القائل بأن إصرار لينين على ضرورة النضال ضد أشكال وعي الطبقة العاملة تولد تلقائيًا داخل المجتمع الرأسمالي ، وعدائه للرأي العام المبتذل ، تشكل تحت قصف الدعاية و أجهزة الإعلام ، كانت 'غير ديمقراطية' ، بل 'إستبدادية'. يكمن وراء هذا الإعتراف شكل من أشكال المرارة الإجتماعية ، المتأصلة بعمق في المصالح الطبقية والتحيزات الإجتماعية ، التي أثارتها جهود الحركة الإشتراكية لخلق شكل مختلف غير برجوازي للرأي العام ، حيث تجد المصالح السياسية والتاريخية الحقيقية للطبقة العاملة تعبيراً عنها.

لا يوجد مشروع ديمقراطي أكثر عمقاً من جهود الحركة الماركسية لتطوير الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة. لم 'يفرض' لينين برنامجه القائم على أسس علمية على الطبقة العاملة. بل سعى كل عمله السياسي على مدى أكثر من ربع قرن قبل أحداث 1917 إلى رفع الفكر الإجتماعي للفئات المتقدمة من الطبقة العاملة الروسية إلى مستوى العلم. وقد نجح في ذلك هو والحزب البلشفي في تحقيق هذه المهمة . وكما لاحظ جون ريد فإن لينين كان 'قائداً شعبياً غريباً، قائداً بحكم العقل فقط ... مع القدرة على شرح الأفكار العميقة بعبارات بسيطة ، وتحليل وضع ملموس. واقترن لديه الذكاء بأعظم جرأة فكرية. '

لم يكن لينين أول من أعلن ضرورة إدخال الوعي الإشتراكي إلى الطبقة العاملة. من المؤكد أن تنديداته بتمجيد الاقتصاديين لـ 'العنصر العفوي' كانت مستوحاة من قراءة عميقة لرأس مال ماركس وفهم الطريقة التي تخفي بها الرأسمالية ، كنظام لعلاقات الإنتاج القائم بين الناس ، الآليات الحقيقية ذات الجذور الإجتماعية للإستغلال. لم تجد أصالة لينين كمفكر سياسي تعبيراً عنها في إصراره على الحاجة إلى إدخال الوعي إلى الطبقة العاملة، وقد كان هذا مقبولاً على نطاق واسع من قبل الماركسيين في جميع أنحاء أوروبا،  ولكن في الثبات والمثابرة التي طبق بها هذا المبدأ إلى أقصى الحدود حتى التوصل إلى نتائج سياسية وتنظيمية مستخلصة من هذا العمل.

'الفضح السياسي' والوعي الطبقي.

كيف ، إذن ، كان يجب تطوير الوعي السياسي للطبقة العاملة؟ تستحق الإجابة التي قدمها لينين عن هذا السؤال دراسة متأنية. فبالنسبة للإقتصاديين ، كان التحريض المتعلق بقضايا 'الخبز والزبدة' (الإيرادات الأساسية) الإقتصادية والمشاكل المباشرة التي يواجهها المصنع بمثابة الوسيلة الرئيسية لتطوير الوعي الطبقي. رفض لينين صراحة فكرة أن الوعي الطبقي الحقيقي يمكن أن يتطور على مثل هذا الأساس الإقتصادي الضيق. كان التحريض على الإهتمامات الإقتصادية المباشرة كافياً فقط لتنمية الوعي النقابي ، أي الوعي البرجوازي للطبقة العاملة. في حين أصر لينين على أن تطور الوعي الطبقي الثوري يتطلب أن يركز الإشتراكيون تحفيزهم على ما أشار إليه بوصفه تشهيراً سياسياً.

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتدرب الجماهير على الوعي السياسي والنشاط الثوري إلا عن طريق مثل هذا الفضح. ومن ثم ، فإن هذا النوع من النشاط هو أحد أهم وظائف الإشتراكية الديموقراطية العالمية ككل ، بل أن الحرية السياسية لا تقضي بأي حال من الأحوال على التشهير؛ وهي لا تعدو أن تكون تحولات نوعاً ما في مجال اتجاهها.

كتب لينين بكلمات  لم تفقد أياً من أهميتها  أو التي ازدادت أهمية بالفعل بسبب التدهور المذهل في فترتنا الخاصة لطبيعة وأهمية الوعي الإشتراكي:

لا يمكن أن يكون وعي الطبقة العاملة وعياً سياسياً حقيقياً ما لم يتم تدريب العمال على الاستجابة لجميع حالات الإستبداد والقمع والعنف وسوء المعاملة ، بغض النظر عن الطبقة المتأثرة ،و ما لم يتم تدريبهم ، علاوة على ذلك ، على الإستجابة للمجتمع الإجتماعي على أساس وجهة نظر ديموقراطية [أي ثورية] لا وجهة نظر أخرى. كمالا يمكن أن يكون وعي الجماهير العاملة وعياً طبقياً حقيقياً ، ما لم يتعلم العمال ، من الوقائع والأحداث السياسية الملموسة ، وقبل كل شيء ، من الوقائع والأحداث السياسية ومراقبة كل طبقة إجتماعية أخرى في جميع مظاهرها الفكرية والأخلاقية والعلمية و حياتها السياسية؛ وما لم يتعلموا تطبيق التحليل المادي والتقدير المادي في الممارسة العملية لجميع جوانب الحياة والنشاط لجميع الطبقات والفئات والمجموعات السكانية. إن أولئك الذين يركزون انتباه وملاحظة ووعي الطبقة العاملة حصرياً أو حتى بشكل رئيسي على ذاتها وحدها ليسوا إشتراكيين-ديموقراطيين. لأن معرفة الطبقة العاملة الذاتية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ، ليس فقط بفهم نظري واضح تماماً وبالأحرى  سيكون من الأصح القول ، ليس كثير الارتباط  بالنظرية ، كما هو الحال مع الفهم العملي  للعلاقات بين جميع طبقات المجتمع الحديث ، المكتسبة من خلال تجربة الحياة السياسية. لهذا السبب ، فإن مفهوم النضال الاقتصادي باعتباره الوسيلة الأكثر قابلية للتطبيق لجذب الجماهير إلى الحركة السياسية ، وهو ما يدعو إليه اقتصاديونا ، هو أمر ضار للغاية ورجعي في جوهره العملي .

شدد لينين على أن التحريفيين الذين أصروا على أن أسرع وأسهل طريقة لجذب انتباه العمال وكسب دعمهم هو التركيز على القضايا الإقتصادية و 'الملموسة' - وأن المبدأ الأساسي يجب أن يكون نشاط الإشتراكيين في النضالات الإقتصادية اليومية للعمال  لم يسهموا حقاً في أي شيء ذي أهمية ، من حيث تطوير الوعي الإشتراكي ، للحركة العمالية العفوية. ففي الواقع ، هم لم يتصرفوا بوصفهم إشتراكيين ثوريين بل بوصفهم نقابات عمالية. لم تكن مهمة الإشتراكيين التحدث إلى العمال حول ما يعرفونه بالفعل من القضايا اليومية في المصنع وفي العمل، بل حول ما لا يمكنهم اكتسابه من تجربتهم الإقتصادية المباشرة وهي المعرفة السياسية.

كتب لينين ، مستعيراً صوت العامل: 'يمكن للمثقفين أن يكتسبوا هذه المعرفة ، ومن واجبكم أن تجلبوها إلينا بمئة وألف ضعف مما فعلتم حتى الآن ؛ ويجب عليكم إحضارها إلينا ، ليس فقط في شكل نقاشات وكتيبات ومقالات (التي غالباً ما تكون مملة إلى حد ما ، عفواً عن صراحتنا) ، ولكن على وجه التحديد في شكل فضح حي لما تقدمه حكومتنا وطبقاتنا الحاكمة وما تفعله في هذه اللحظة بالذات في جميع مجالات الحياة '. 

لم ينصح لينين باللامبالاة تجاه النضالات الإقتصادية للطبقة العاملة ، ناهيك عن الإمتناع عن التصويت لكنه عارض اكتفاء الإشتراكيين الضار بمثل هذه النضالات ، وميلهم إلى قصر تحريضهم ونشاطهم العملي على القضايا الإقتصادية والنضالات النقابية ، وإهمالهم القضايا السياسية الحرجة التي تواجه الطبقة العاملة بإعتبارها القوة الثورية داخل المجتمع. علاوة على ذلك ، حين يتدخل الإشتراكيون في النضالات النقابية ، فإن مسؤوليتهم الحقيقية ، كما كتب لينين ، كانت 'إستغلال شرارات الوعي السياسي التي ولدها النضال الإقتصادي بين العمال ، لغرض رفع العمال إلى المستوى. من الوعي السياسي الإشتراكي الديمقراطي '. 

لقد كرست هذا القدر الكبير من الوقت لمراجعة ما العمل؟ لأن ما كنا نفحصه ليس فقط كتاباً مضى عليه أكثر من قرن ، ولكن تفحصنا أيضاً المفهوم النظري لتطور الوعي الإشتراكي في الطبقة العاملة الذي يقوم عليه موقع الويب الإشتراكي العالمي.

Loading