العربية

الإصلاح والثورة في عصر الإمبريالية

ألقيت هذه المحاضرة في 5 يناير 1998، في المدرسة الدولية للماركسية والمشاكل الأساسية في القرن العشرين، التي عقدت في سيدني أستراليا.

يقدم لنا القرن العشرون مفارقة مدهشة: لا توجد حقبة أخرى في تاريخ البشرية تغيرت خلالها الأشكال والإيقاعات الأساسية للحياة اليومية إلى هذا الحد العميق حيث يتطلب مستوى ووتيرة التقدم    العلمي منا، بشكل مستمر تقريباً، ثورة في مفهومنا للكون ومكان كوكبنا بداخله. فحتى الآن، نحن نكافح لالتقاط أنفاسنا بعد مشاهدة الإرسالات المذهلة من المسبار الذي وضعته تقنيتنا على المريخ. البشرية مضطرة إلى تنقيح وتوسيع مفاهيمها للزمان والمكان والوجود وفقا للاكتشافات العلمية. لقد تم تحقيق هذه التطورات العلمية على خلفية الكوارث الاجتماعية ومصائب هذا القرن. أعيد رسم خريطة العالم مراراً وتكراراً؛ والاضطرابات التي لا حصر لها وعواقبها اقتلعت مئات الملايين من البشر ونثرتهم في جميع أنحاء العالم.

ومع ذلك، على الرغم من الاضطرابات والتحولات في ظروف الحياة، في مجال المفاهيم السياسية، لم يكن هناك شيئاً يضاهي التقدم في الفكر العلمي. لقد توسعت معرفة الإنسان بالكون بشكل كبير منذ عام 1900. لكن فهمه للقوانين التي تحكم كيانه الاجتماعي والاقتصادي أدنى بكثير من المستوى الذي بلغه مؤسسو الاشتراكية الحديثة، كارل ماركس وفريدريك إنجلز.

وإذا أخذنا في الاعتبار حالة السياسة البرجوازية الحالية، فليس هناك شخصا واحدة يمكن للمرء أن يشير إليه بوصفه مفكراً أو استراتيجياً مهماً. ومع ذلك، تتمتع البرجوازية بميزة امتلاك قوة وثروة اقتصادية هائلة. على الأقل حتى حدوث الاضطرابات الاقتصادية في جنوب شرق آسيا، فإن سوق الأسهم الصاعد والأرباح القياسية لم تجعل الحاجة إلى رؤية استراتيجية واسعة تبدو ملحة للغاية. علاوة على ذلك، فإن الغياب الطويل لأي تحد سياسي واضح لهيمنة الطبقة الرأسمالية سمح لها بتركيز اهتمامها على تراكم الثروة، بدلاً من التركيز على المشكلة الأكثر تعقيداً المتمثلة في الدفاع عنها ضد تهديد الثورة الاجتماعية.

فعلى الرغم من سوء حالة السياسة البرجوازية، فإن حالة ما يُطلق عليها ملطفاً 'الحركة العمالية' أسوأ بلا حدود. إن حركات العمل الرسمية تُحتضر، ويقودها بيروقراطيون غير مهتمون ومعادون لمصالح العمال الذين يفترض أنهم يمثلونهم. إن أزمة الحركة العمالية ليست مجرد نتيجة لعدم الأمانة والفساد والجهل وعدم كفاءة بيروقراطية العمل. بل إن هذه الصفات غير الجذابة لها أصولها في العمليات الاجتماعية التي حددت، على مدى فترة تاريخية كاملة، طابع الحركة العمالية التوافقي والمناهض للاشتراكية. إن أكثر من نصف قرن من السياسات الانتهازية—القائمة على الإخضاع المنهجي للطبقة العاملة للنظام الإمبريالي في فترة ما بعد الحرب—شكلت النظرة الاجتماعية والسياسية والفكرية والأخلاقية للحركة العُمالية.

فعلى مدى عدة عقود، خلال ذروة الازدهار الاقتصادي ما بعد الحرب ودول الرفاهية الوطنية التي استندت إليها، لم تكن العواقب طويلة المدى للتفتت النظري والفساد السياسي لحركة العمال واضحة. وطالما استمرت العلاقات الاجتماعية بين الطبقات، على الأقل في البلدان الرأسمالية الكبرى، على طول خطوط التسوية في إطار دولة الرفاهية، لم يكن هناك مكان لاستراتيجيي الحرب الطبقية العظماء. لم تتطلب الفترة التاريخية أكثر من براغماتيين تافهين، وكانوا أمثال هؤلاء متوفرين بوفرة في جميع البلدان الرأسمالية مثل الفطريات.

لكن فقط منذ أن تعطلت علاقات التسوية والتوافق—أي بمجرد أن البرجوازية العالمية لم تعد مستعدة أو قادرة على اللعب بالقواعد القديمة والمألوفة—قد  تم الكشف عن مدى التعفُن الداخلي للحركة العمالية بعد الحرب.

قد يبدو بديهياً أن الأزمة التي تواجه الطبقة العاملة أظهرت بشكل قاطع فشل النزعة الإصلاحية. ومع ذلك، فقد تعقد الوضع بسبب الحقيقة أن انهيار الإصلاح الديمقراطي الاجتماعي قد تجاوز عليه الانهيار المذهل للأنظمة الستالينية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية. لا تميل الجماهير بشكل طبيعي إلى التحقيق في أصول الظواهر السياسية التي تواجهها. باتباع التسميات المطبقة على هذه الأنظمة، سواء من قبل قادتها أو خصومهم الرأسماليين، اعتبرتها جماهير العمال 'شيوعية' و 'اشتراكية'.

فبين عامي 1989 و 1991، طرح دعاة البرجوازية (وشريحة كبيرة من الستالينيين) فكرة أن سقوط الأنظمة الستالينية كان انعكاساً لفشل الماركسية والاشتراكية. وبقدر قبول العمال لهذا التفسير، فإن هذا جعلهم لا يرون بديلاً عن السوق الرأسمالي وضرورته.

وبطبيعة الحال، من المستحيل تجاهل التناقض بين مقتضيات السوق الرأسمالي واحتياجات الطبقة العاملة. كما أن  عدم ارتياح الجماهير يجد انعكاساً استباقياً له لدى شرائح من الطبقات الوسطى المحترفة التي هي نفسها منزعجة من علامات الاستقطاب الاجتماعي المتزايد.

لقد تم في الفترة الأخيرة نشر سلسلة من الكتب تنتقد العملية غير المقيدة للسوق الرأسمالي. ولفتت الانتباه إلى تأثير العولمة على ظروف الطبقة العاملة، كما تم التحذير من زيادة الاستقطاب الاجتماعي.

إدوارد برنشتاين وتحريفية الماركسية

في هذا المناخ من القلق المتزايد، ظهر اهتمام متجدد بأحد أهم الشخصيات في التاريخ المبكر للديمقراطية الاجتماعية الأوروبية—'أب' التحريفية المناهضة للماركسية، إدوارد برنشتاين. ففي العقد الماضي، نشرت مطبعة جامعة كامبريدج طبعة جديدة من مؤلف برنشتاين الرئيسي، الشروط المسبقة للاشتراكية، وهو مجموعة من الوثائق المتعلقة بالصراع النظري حول وجهات نظر برنشتاين، ومؤخراً، في عام 1997، سيرة لإدوارد برنشتاين، بعنوان البحث عن الاشتراكية التطورية: إدوارد برنشتاين والديمقراطية الاجتماعية للمؤرخ مانفريد ستيجر. كما تم مؤخراً نشر مجلد آخر من كتابات برنشتاين، الذي ترجمه وحرره ستيجر، من قبل دار العلوم الإنسانية، المرتبطة  بالمساعي السياسية لأقسام من اليسار البرجوازي الصغير.

سيرة ستيجر تعتبر مهمة، ليس لمستواها العلمي—وهو متوسط في أحسن الأحوال—وإنما للرؤية السياسية التي تلهمها. إن اعتداء برنشتاين على الماركسية، ومحاولته فصل الاشتراكية عن ثورة الطبقة العاملة، واقتراحه إعادة تعريف الاشتراكية على أنها ليست أكثر من الليبرالية حسنة النية وذات دوافع أخلاقية—كل هذا يراه ستيجر منارة لعصرنا. تستند أهمية برنشتاين، وفق رأي  ستيجر، قبل كل شيء إلى إدراكه لاستحالة وجود بديل ثوري للرأسمالية.

بصفته أول منظّر ماركسي بارز للإصلاح، افترض برنشتاين أن التعقيد المتزايد للمجتمع الحديث جعل الثورات واسعة النطاق في الأيام الخوالي أمراً قد عفا عليه الزمن. …

في 'نهاية الاشتراكية' المفترضة، يمثل نموذج برنشتاين الجنيني لـ'الاشتراكية الليبرالية' نقطة الانطلاق المنطقية للمشروع التقدمي الوحيد القابل للتطبيق المتبقي في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي و (ربما) ما بعد الكينزية ويتضمن هذا  تركيزاً جديداً على دور المجتمع المدني وعلى مفهوم للديمقراطية الذي يفضل توسيع نطاق الحقوق الشخصية على حقوق الملكية.

أثناء إعلان برنشتاين بطلاً لعصرنا، يكتب ستيجر—بمزيج من الحذر والسخرية—أنه يرفض

تقييم فكر برنشتاين السياسي من خلال تطبيق المعايير الفلسفية فقط. إن ما يجعل بحثه الفكري موضوع بحث أكاديمي جدير بالاهتمام ليس درجة التطور الفلسفي فيه ولا افتقاره إلى النقاء المنهجي. بل، محاولة برنشتاين الأصيلة للغاية لصياغة تركيب متماسك بين تقليدين سياسيين عظيمين يقفان من أجل تحقيق الذات الفردي والعدالة التوزيعية.

يجب أن نتذكر أن برنشتاين ادعى أنه وجه ضربة نظرية ساعقة للمفاهيم الثورية للماركسية. إن اعتراف ستيجر بأنه يفضل تجنب 'المعايير الفلسفية' في تقييم كتابات برنشتاين يرقى إلى حد الاعتراف الضمني بأن المواجهة المباشرة بين برنشتاين وماركس في مجال العلم والنظرية سيكون شيئاً من اقتران غير عادل فكريا.

لكن عيوب برنشتاين النظرية لا تمنع ستيغر من احتضانه كنبي يجب أن نتوجه إليه. اليوم، كما كان الحال قبل 100 عام، إن جاذبية برنشتاين ليست مستمدة من القوة الفكرية لحججه، ولكن من تطلعات شرائح معينة من الطبقة الوسطى، الذين يجدون في برنامجه، بغض النظر عن ضعفه النظري الكامن، تعبيراً عن مصالحهم الاجتماعية وانعكاس لمزاجهم السياسي. كما أورد بيتر جاي، كاتب سيرة أسبق وأذكى منذ حوالي خمسة وأربعين عاماً، 'لو لم يكن هناك برنشتاين، لكان من الضروري اختراعه حيث أن الظروف السياسية والاقتصادية في ألمانيا في مطلع القرن العشرين تطلبت عقيدة إصلاحية'. 

إحياء البرنشتينية غير ممكن اليوم. بالتأكيد، على الرغم من أن هذا لم يكن واضحاً في ذلك الوقت، فهية كانت 'مؤرخة' منذ لحظة ولادتها. ومع ذلك، فإن الاهتمام المتجدد بحياة برنشتاين، والخلافات المحيطة بعمله، توضح نقطة واحدة مهمة للغاية: حتى بعد مرور 100 عام، بقيت القضايا السياسية التي تم خوضها في نهاية القرن التاسع عشر مهمة بشكل غير عادي مع اقترابنا من نهاية القرن العشرين.

أعتقد أن مارك توين هو الذي قال إنه على الرغم من أن التاريخ لا يكرر نفسه، يبدو وكأنه يسجع. وبالفعل، وبغض النظر عن جميع الاختلافات، لا يسع المرء إلا أن يصاب بالذهول من مدى تناغم الظروف السياسية والبيئة الفكرية التي برزت فيها 'قافية' البرنشتينية مع الظروف التي نواجهها اليوم.

من الصعب الآن أن ندرك تماماً إلى أي مدى ولد إعلان برنشتاين 'موت الماركسية' صدىً لدى مفكري الطبقة الوسطى في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. ففي خضم ازدهار الرأسمالية غير المسبوق والتوسع الهائل لمواردها وتأثيرها على مستوى العالم، بدا المفهوم الماركسي للنظام الرأسمالي الذي يتم دفعه إلى الدمار من خلال تطوير تناقضاته الداخلية للعديد من الأشخاص الأذكياء على خلاف مع الواقع المرصود.

لكن هناك فرقاً واحداً لافتاً للنظر بين الوضع في عام 1898 والذي هو قائم عام 1998: برنشتاين قدم نقده للماركسية في فترة كانت فيها ظروف الطبقة العاملة تتحسن بشكل ملحوظ. الاصلاحية، بغض النظر عن مدى ضعفها عندما حاولت تبرير نفسها نظرياً، بدت قوية جداً في الممارسة. ويجب فهم هذه الحقيقة لتقدير جاذبية رسالة برنشتاين.

كانت الثقة في إمكانية الإصلاح التدريجي والتقدمي للرأسمالية هي المكون النفسي للبيرشتينية في نهاية القرن التاسع عشر. لا يوجد مثل هذا التفاؤل يحيي وجهات نظر أولئك الذين يقترحون اليوم، العودة إلى البرنشتينية. بدلاً من ذلك، يهيمن التشاؤم المهووس على أوساط يسار الطبقة الوسطى المعاصرة التي ليس لديها ثقة على الإطلاق في دور الطبقة العاملة بوصفها عامل للتغيير الاجتماعي. إن 'إصلاحيتها' لا تزيد عن دعوة غامضة وجبانة للنخبة المالية للامتناع عن تدمير ما تبقى من دولة الرفاهية. ومن ناحية أخرى، كان برنشتاين، على الرغم من كل نقاط ضعفه، صادقاً على الأقل في وهمه بأن الرأسمالية، تحت ضغط وتأثير الاشتراكيين، سوف تتطور سلمياً إلى مجتمع عادل وإنساني.

ولكن على الرغم من هذا الاختلاف الأساسي، ثمة عنصر مفاهيمي واحد يربط وجهات نظر الإصلاحيين المحبطين اليوم بتلك التي صاغها برنشتاين في أواخر الألف والثمن مئة والتسعينيات: إزدراء متغطرس تجاه المادية الجدلية التي تشكل الأساس المنهجي للماركسية. عدم القدرة على التفكير وتحليل الظواهر جدلياً—أي كوحدة من التحديدات المتعارضة—أمرٌ جعل الإصلاحيين في أوائل القرن العشرين غير قادرين على إدراك التناقضات الداخلية التي، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، فجرت عالمهم بالكامل، ومفاهيمهم المتوافقة معه، إلى أشلاء.

الحزب الديمقراطي الاجتماعي: أول حزب جماهيري للطبقة العاملة

على مدار ربع قرن تقريباً—من نهاية القوانين المناهضة للاشتراكية في عام 1890 إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914—نما الحزب الديمقراطي الاجتماعي ليصبح أكبر حزب سياسي في ألمانيا. لكن فرز الأصوات في حد ذاته لا يمكن أن يعكس مدى وعمق تأثير الاشتراكية الديموقراطية داخل الطبقة العاملة.

كان الحزب الديمقراطي الاجتماعي، في وقته، ظاهرة تاريخية فريدة حيث كان أول حزب جماهيري حقيقي للطبقة العاملة. فجر برنشتاين فضيحة لقادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي لما أعلن عام 1898 أن الحركة المتجسدة في الحزب الديمقراطي الاجتماعي أهم من هدفها النهائي. لكن القوة الأساسية لحجته، على الرغم من الردة السياسية التي تنطوي عليها، لا يمكن تقديرها دون الشعور بقدر حجم الحركة التي قادها الحزب الديمقراطي الاجتماعي.

ترأس الحزب الديمقراطي الاجتماعي إمبراطورية نشر ضخمة أنتجت كتباً وصحفاً ودوريات تتعلق بكل جوانب الحياة الطبقية العمالية تقريباً. بحلول عام 1895، عام وفاة إنجلز، نشر الحزب الديمقراطي الاجتماعي خمساً وسبعين صحيفة، منها تسع و ثلاثون صدرت ست مرات في الأسبوع. و بحلول عام 1906، كان هناك ثمانية و خمسين صحيفة اشتراكية يومية.

في عام 1909، وصل توزيع الصحف الديمقراطية الاجتماعية إلى مليون نسخة، وبلغ مليون ونصف عشية الحرب. كان التوزيع الرسمي أقل من العدد الفعلي للأشخاص الذين يتابعون الصحافة الاشتراكية، لأنه تم مشاركة العديد من النسخ من عامل إلى عامل في المصانع والحانات والمدارس والأحياء. وصلت إحدى المجلات المشهورة للغاية، دير وهر يعقوب، إلى رقم مبيعات قدره 380.000، لكن عدد قارئيها الفعليين اقترب من مليون ونصف. وتشير التقديرات إلى أن العدد الإجمالي لقراء الديمقراطية الاجتماعية كان حوالي ستة ملايين بحلول عام 1914.

بلغ تداول فورورتس، الصحيفة السياسية الرئيسية للحزب الديمقراطي الاجتماعي، 165000. كما بلغ عدد توزيع مجلة نويه تسايت الشهيرة، وهي المجلة النظرية التي حررها كارل كاوتسكي، 10500 نسخة. أما صحيفة داي جليخيت، التي أنتجها حزب النساء العاملات، والتي اتبعت، تحت رئاسة تحرير كلارا زيتكين، خطاً مناهضاً بقوة للعسكرة، فوصل توزيعها بحلول عام 1914 إلى 125000 نسخة. و يمكن قياس نطاق الاهتمامات التي تناولتها الصحف المساعدة التي نشرها الحزب من خلال عناوينها: العامل الدراج (عدد التوزيعات 168000)، جريدة العمال الألمان المغنين (توزيع 112000)، صحيفة تمرين العمال (عدد التوزيعات 119000)، إينكيبير مجاني (عدد التوزيعات 11000)، والعامل الممتنع (عدد التوزيعات 5،100) وصحيفة عامل الطباعة (عدد التوزيعات  3000).

بالإضافة إلى هذه المنشورات المنتظمة، أنتج الحزب الديمقراطي الاجتماعي عدداً هائلاً من الأدبيات السياسية، التي وصلت إلى  أبعاد هائلة أثناء الحملات الانتخابية: كتيبات إرشادية، وملصقات، وإصدارات خاصة من الصحف، وكتيبات بالملايين. كما أدار الحزب العديد من دور الطباعة الكبيرة التي أنتجت كتباً تناولت التاريخ والسياسة والثقافة في طبعات وصلت إلى عشرات وحتى مئات الآلاف.

كما قام الحزب الديمقراطي الاجتماعي بتنظيم وتنسيق شبكة ضخمة من الأنشطة الاجتماعية التي شملت كل قسم وفئة عمرية من الطبقة العاملة. كان تماهي الحزب الديمقراطي الاجتماعي بالطبقة العاملة عميقا لدرجة أن كلمة أربيتر (عامل بالألمانية) حملت معها دلالة سياسية.

وبحلول مطلع القرن، شارك الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ما لا يقل عن عشرين نوعاً من الأنشطة الاجتماعية، شملت مجالات اجتماعية وتعليمية واسعة. وأدار عدد لا يحصى من نوادي الجمباز وجمعيات الغناء. ففي مدينة واحدة فقط، هي كيمنتس، نظم الحزب الديمقراطي الاجتماعي ما لا يقل عن 142 جمعية غنائية للعمال، التي قدمت 123 حفلة موسيقية. في منطقة تورينجيا، كفل الحزب الديمقراطي الاجتماعي 191 نادياً مختلفاً للجمباز.

ما كان الحزب الديمقراطي الاجتماعي في نظر مئات آلاف العمال منظمة سياسية وحسب بل كان المحور الذي خططوا حوله معظم حياتهم. مهما كان الاهتمام المعين للعامل—السباحة، رفع الأثقال، الملاكمة، المشي، التجديف والإبحار، كرة القدم، الشطرنج، مراقبة الطيور، الدراما، والصحة—كان لدى الحزب الديمقراطي الاجتماعي منظمة يمكن للعامل الالتحاق بها وممارسة هوايته.

كما خصص الحزب الديمقراطي الاجتماعي موارداً كبيرة للتربية السياسية الرسمية. واعتباراً  من العقد التاسع من القرن التاسع عشر ، قدم الحزب دورات في التاريخ والقانون والاقتصاد السياسي والعلوم الطبيعية والخطابة. ومن بين أولئك الذين حاضروا في هذه الموضوعات بيبل وليبكنخت وزيتكين ولوكسمبورغ. كما تم عقد دورات مدتها ثلاثة أشهر ثلاث مرات في السنة. كما ارتفع عدد الملتحقين بتلك الدورات من 540 في عام 1898 إلى 1700 في عام 1907. كما تأسست مدرسة الحزب الرسمية في عام 1906.

ويتضح دور الحزب في تعزيز التطور الثقافي للطبقة العاملة من خلال نمو مكتبات العمال. فبين عامي 1900 و 1914، ساعد الحزب والنقابات التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الاجتماعي على إنشاء 1100 مكتبة في 750 منطقة مختلفة. احتوت هذه المكتبات على أكثر من 800،000 مجلد، وبحلول عام 1914 كان هناك أكثر من 365 أمين مكتبة على كشوف رواتب الحزب.

ثمة إحصائية واحدة نهائية تستحق الذكر الخاص حيث قام الحزب الديمقراطي الاجتماعي، في السنوات الأولى من القرن العشرين، بحملة شرسة لجذب العاملات وضمهن إلى الحزب، وقد لقيت جهوده استجابة قوية فنما عدد عضوات الحزب من 30،000 في عام 1905 إلى 175،000 في عام 1914. وتجدر الإشارة إلى أنه من بين أكثر منشورات الحزب شعبية كانت المرأة في ظل الاشتراكية لأوغست بيبل.

وقبل الشروع في فحص موقف برنشتاين، يجب مراعاة البيئة الاقتصادية الدولية والوطنية التي تطورت فيها أفكاره. رفض  برنشتاين صحة الجدلية المادية التاريخية، لكن تطوره الفكري والسياسي سار وفقاً لقوانينه.

قدم الاقتصاد العالمي بين عامي 1873 و 1893 صورة معقدة ومتناقضة للغاية. كانت كل من الأسعار والأرباح غارقة في ركود متواصل. خلال تلك السنوات العشرين، انخفض مستوى الأسعار في بريطانيا بنسبة 40 في المئة. وانخفض سعر الحديد بنسبة 50 بالمئة. لكن هذه الفترة من انكماش الأسعار والأرباح كانت أيضاً فترة ازدهار الإنتاج الصناعي والابتكار التكنولوجي. في الواقع، كان هذان الجانبان من الظروف الاقتصادية العالمية مرتبطان جدلياً حيث قدم الضغط على معدل الربح الدافع لتطوير تقنيات الإنتاج والإدارة الجديدة التي أدت إلى توسع هائل في الإنتاج الصناعي. وهكذا، حتى حين غرق الاقتصاد العالمي في مرحلة ركود في الأسعار والأرباح، لكن التنمية الصناعية، ولا سيما في ألمانيا والولايات المتحدة ،شهدت نمواً هائلاً.

توسع رأس المال ليشمل مناطق جديدة تماماً، مثل أمريكا اللاتينية، وأدى البحث عن استثمارات مربحة إلى ظهور استعمار على النمط الإمبريالي. الركود في الأسعار والأرباح الذي طال أمده انتهى فجأة قرب نهاية عام 1894، ودخلت الرأسمالية فترة كانت، من وجهة نظر البرجوازية، مجيدة للغاية لدرجة أنها تلقت الاسم الذي نتذكرها به حتى يومنا هذا، الحقبة الجميلة!

كانت ألمانيا واحدة من أكثر المراكز ديناميكية في هذا التطور الاقتصادي، وكان لذلك آثار عميقة ومتناقضة على الحركة الماركسية. كان من الواضح تماماً أن النمو السريع للطبقة العاملة كان شرطاً ضرورياً لتوسيع الحزب الديمقراطي الاجتماعي. ولكن كان هذا بحد ذاته مشروطاً بالتطور الصناعي الألماني. لقد أرسى توحيد ألمانيا، على الرغم من الأشكال السياسية الرجعية التي تم من خلالها تحقيق ذلك في عهد بسمارك، الأساس للنمو السريع لصناعة واسعة النطاق حيث زاد إنتاج الحديد من 2.7 مليون طن في عام 1880 إلى 8.5 مليون طن في عام 1900. وارتفع إنتاج الصلب خلال نفس الفترة من 625،000 إلى 6.6 مليون طن. بين عامي 1873 و 1900،  كما تضاعف عدد السفن التي تصل إلى الموانئ الألمانية. كانت السمة المركزية للتطور الاقتصادي الألماني هي تركيز الصناعة و إضفاء سمة التكتل الاحتكاري عليها. فبين عامي 1882 و 1907، ارتفع عدد الشركات الصغيرة بنسبة 8٪ بينما ارتفع عدد الشركات الكبيرة بنسبة 231٪. وبحلول عام 1907، كان هناك 548 شركة صناعية توظف ما يقرب من 1.3 مليون عامل.

كانت العقيدة الرسمية للحزب الديمقراطي الاجتماعي هي الصراع الطبقي، لكن نموه، ارتبط ولو بشكل غير مباشر، بتوسع الصناعة الوطنية الألمانية. كانت الصلة بين الصناعة الوطنية وتطوير النقابات أكثر مباشرة. فحتى منتصف العقد التاسع من القرن التاسع عشر، تأخر نمو النقابات عن نمو الحزب، الذي اعتمدت عليه النقابات  في التوجيه السياسي والدعم المادي والمالي المباشر. لكن الازدهار الاقتصادي الكبير الذي بدأ في عام 1895، واستمر حتى اندلاع الحرب العالمية تقريباً، غذى توسعاً كبيراً في النقابات العمالية وغير العلاقات بشكل جذري بين النقابات العمالية—التي كان قادتها عموماً أفراداً لديهم أقل قدر من الاهتمام في مسائل النظرية الماركسية والمبادئ الاشتراكية—والحزب الديمقراطي الاجتماعي. وكلما زاد حجم النقابات العمالية ومواردها الاقتصادية، كلما قل رغبة قادتها في قبول تبعية اهتماماتهم العملية للمشاكل الأوسع للسياسة والمبادئ الاشتراكية.

السنوات الأولى لبرنشتاين في الحركة الاشتراكية:

نشأ برنشتاين في أسرة يهودية من الطبقة المتوسطة الدنيا، وكان  السابع من بين خمسة عشر طفلاً. أصبح ناشطاً سياسياً في الحركة الاشتراكية في عام 1872. وقد جذبه دفاع بيبل الشجاع عن المبادئ الاشتراكية والدولية أثناء الحرب الفرنسية البروسية.  و في عام 1875 كان مندوباً إلى مؤتمر الوحدة بين آيزناتشرز ولاساليانز في غوتا.

وفي بداية حياته السياسية، أظهر برنشتاين ميلاً نحو أشكال مختلفة من السياسات الديمقراطية البرجوازية الصغيرة. وظل لفترة من الوقت تحت تأثير يوجين دوهرينغ، وبعد ذلك إلى حد ما، أثناء عمله كسكرتير لكارل هوشبيرج، وهو ديمقراطي يساري ساهم مالياً في الحزب الديمقراطي الاجتماعي، لعب برنشتاين دوراً في صياغة وثيقة حثت على تخلي الحزب عن توجهه الحصري تجاه الطبقة العاملة ليتبنى موقفاً أكثر تصالحية تجاه البرجوازية. غضب ماركس وإنجلز من هذه الوثيقة، ولم يحظ برنشتاين بنعمة الصفح عنه إلا بالسفر إلى لندن، بصحبة بيبل نفسه، للاعتذار شخصياً للثائرين القديمين عن انتهاكه للمبادئ السياسية.

أجبرت قوانين مناهضة الاشتراكية برنشتاين على مغادرة ألمانيا في عام 1878، واستمر منفاه لمدة 23 عاماً. عاش في سويسرا لعدة سنوات، ثم انتقل إلى إنجلترا في أواخر العقد الثامن من القرن التاسع عشر. وخلال إقامته الطويلة في إنجلترا، اتصل بمجتمع فابيان الإصلاحي، وأقام صداقات وثيقة مع رواده اللامعين. و تناول العشاء مراراً مع أشخاص مثل بياتريس وسيدني ويب وجورج برنارد شاو.

وفقا لستيغر، أعجب برنشتاين بشدة 

الإنجازات الاجتماعية التي تحققت بفضل وجهة النظر العملية والنفعية للعمال الإنجليز. تحدث بعبارات متوهجة عن العلاقة الجيدة بين قادة العمال البريطانيين وممثلي البرجوازية الليبرالية، محاججاً بأن 'زواج منفعي مثل هذا' قد ساهم في نجاح الإصلاح التدريجي الإنجليزي. فبالنسبة لبرنشتاين، أثبت النموذج البريطاني المتطور إمكانية وجود اتفاقيات مقبولة بشكل متبادل بين رأس المال والعمال، مما ألهمه إيصال ملاحظاته إلى رفاقه في حزبه الألماني.

كان أنصار فابيان عنصراً واحداً فقط من البيئة الفكرية والسياسية الأوسع التي أثرت في برنشتاين. لقد أوضح النمو السريع للاشتراكية في ألمانيا وفي جميع أنحاء أوروبا الغربية للبرجوازية أنه لا يمكن احتواء تأثير الاشتراكية ببساطة من خلال استخدام قمع الدولة. كان من الضروري الرد على التحدي الفكري الذي تفرضه الماركسية. وهكذا، في الألف وثمانمائة وتسعينيات، تولت الجامعات دوراً جديداً وحيوياً—لم تتنازل عنه حتى يومنا هذا—بوصفها حصن أيديولوجي ضد الماركسية. أصبح من الواجب  الآن تمشيط كتابات ماركس بحثاً عن التناقضات ونقاط الضعف التي يمكن الاستشهاد بها لدحض مزاعم الحركة الاشتراكية. أصبحوا 'قتلة الماركسية' الأكاديميين الجدد شخصيات مؤثرة وموثوقة، وتمت الإشادة بكتاباتهم ونشرها على نطاق واسع. شخصيات مثل بوم-باورك، توجان بارانوفسكي، بينيديتو كروتشه، فيرنر سومبارت وماكس فيبر، ناهيك عن عشرات الكتاب الأقل شهرة والأقل موهبة، قاموا على شن هجوم متواصل ضد كل جانب من جوانب النظرية الماركسية تقريباً.

أكدت أعمال هؤلاء المفكرين، بطريقتهم الخاصة، ملاحظة ماركس بأن 'نمط إنتاج الحياة المادية يحدِّد النهج العام للحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية' وأن الصراعات الاجتماعية تنعكس في أشكال أيديولوجية محددة وتندلع فيها. انعكست كتابات هؤلاء النقاد الأكاديميين البرجوازيين الصغار لماركس في كتابات برنشتاين. ففي الواقع، ليس من المبالغة القول إن برنشتاين أضاف القليل، باستثناء هيبته السياسية، إلى الحجج المناهضة للماركسية التي انتشرت في الجامعات في ذلك الوقت.

بدأ إنجلز يشعر بتغيير في نظرة برنشتاين، واشتكى من أنه يبدو أكثر فأكثر مثل صاحب متجر إنجليزي متعجرف. تمكن إنجلز من ردع برنشتاين طالما بقي على قيد الحياة،  ولكن بعد وفاته في آب (أغسطس) 1895، تحرك برنشتاين بعيداً عن الماركسية بسرعة كبيرة.

الشروط المسبقة للاشتراكية

في عام 1898، كتب برنشتاين سلسلة من المقالات تبرأ فيها من التراث النظري والبرنامج الثوري للحزب الديمقراطي الاجتماعي. وقد أوضح هذه الآراء بإسهاب في كتابه الشروط المسبقة للاشتراكية. لقد أصر على أن الوقت قد حان لإدراك أن تحليل ماركس للرأسمالية كنظام تمزقه التناقضات الداخلية كان نتاج تدريبه الهيغلي ولا علاقة له بالواقع القابل للملاحظة تجريبياً. كان من الخطأ الخطير للاشتراكيين أن يؤسسوا تكتيكاتهم على احتمال حدوث أزمة كبرى للنظام الرأسمالي. ورأى أن  جميع الأدلة المتاحة، تشير  بالأحرى، إلى أن الرأسمالية تمتلك إمكانات غير محدودة فعلياً للتطور التدريجي. وأن هذا من شأنه أن يقود بشكل طبيعي وديمقراطي وسلمي نحو الاشتراكية. أما هؤلاء الماركسيين المؤسفين الذين استمروا في القول بأن الاشتراكية ستنشأ من أزمة كبيرة ولدت من التناقضات الداخلية للرأسمالية كانوا 'كارثيين'، مصابين بمرض جعلهم غير قادرين على مواجهة حقائق الحياة المعاصرة.

ونتيجة لتركيزهما الخاطئ على التناقضات الاقتصادية غير الموجودة، أخطأ ماركس وإنجلز في الاعتقاد بأن الرأسمالية أدت إلى إفقار الطبقة العاملة. طرح برنشتاين أن النقابات العمالية أثبتت قدرتها على زيادة نصيب العمال من الدخل القومي بشكل مطرد. أما بالنسبة لتأكيد ماركس على نظرية العمل للقيمة وإثباتها العلمي المفترض لإستغلال الطبقة العاملة، فقد كان هذا جزءاً آخراً من الأمتعة النظرية القديمة التي يجب التخلص منها. وتساءل برنشتاين، ما هي الحاجة إلى إظهار الطابع الاستغلالي الفطري لإنتاج فائض القيمة في نمط الإنتاج الرأسمالي؟ إن هذا الهوس بمشكلة تكوين القيمة قاد الحركة الاشتراكية إلى تركيز نيرانها على نمط الإنتاج الرأسمالي، بدلاً من صياغة مطالب قابلة للتحقيق، يمكن إنجازها من خلال مزيج من النشاط النقابي والتشريع الوطني، من أجل توزيع أكثر إنصافاً للدخل الوطني.

أكد برنشتاين أنه لن يتم تأمين المصالح بعيدة المدى للطبقة العاملة من خلال الثورة، ولكن من خلال المكاسب الثابتة والمتزايدة التي حققتها النقابات العمالية. لقد انتقد 'بعض الاشتراكيين' الذين 'بالنسبة لهم النقابات ليست أكثر من درس موضوعي يوضح بطريقة عملية عدم جدوى أي عمل آخر غير السياسة الثورية'. ففي نظر برنشتاين، كانت النقابات العمالية هي الوسيلة التي من خلالها تم التغلب على عناصر الرأسمالية الظالمة: 'فبحكم وضعها الاجتماعي الاقتصادي، النقابات هي العنصر الديمقراطي في الصناعة التي تميل إلى تآكل السلطة المطلقة لرأس المال وإعطاء العامل تأثيراً مباشراً في إدارة الصناعة.' إلى الحد الذي ولد لدى برنشتاين مخاوفاً بشأن دور النقابات العمالية، رأى أن عليها ألا تسعى لحيازة الكثير من السلطة وأن هدفها يجب أن يكون الشراكة مع رأس المال، وليس السيطرة على الصناعة.

خطأ آخر ارتكباه ماركس وإنجلز، وفقاً لبرنشتاين، هو مفهومهما عن الدولة كأداة للحكم الطبقي. وحاجج بأن نموذج إنجلترا أثبت أنه في النظام الديمقراطي، يمكن للدولة أن تعمل كممثل لجميع المواطنين، وأن تسعى بثبات في سبيل الرفاهية العامة. ورأى أن هدف الطبقة العاملة يجب ألا يكون استبدال الدولة القائمة، ناهيك عن تحطيمها، ولكن جعلها أداة أكثر فاعلية من أي وقت مضى للديمقراطية فوق الطبقية. ففي الواقع، لم تكن الطبقة العاملة بحاجة إلى إقامة حكم طبقي خاص بها ولا ينبغي لها، أن تسعى إلى ذلك. كانت 'دكتاتورية البروليتاريا' عبارة لا مكان لها في الخطاب السياسي المتحضر:

تنتمي الديكتاتورية الطبقية إلى حضارة أدنى، وبغض النظر عن مسألة ملاءمة الموضوع وإمكانية تطبيقه، لا يمكن اعتبارها إلا خطوة رجعية، بوصفها نزعة ماضوية سياسية، يجب عدم تشجيع فكرة أن الانتقال من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الاشتراكي يجب أن يتم إنجازها بالضرورة على طريقة عصر ليس لديه أي فكرة—أو مجرد فكرة غير كاملة تماماً—عن الأساليب الحالية لنشر التشريعات وتنفيذها وافتقر المنظمات الملائمة لهذا الغرض.

كانت الديمقراطية شكلاً سياسياً ضمن حقوق جميع المواطنين، وقد تحدث بإعجاب لا حدود له عن الكياسة التي أدخلتها في شؤون البشرية:

في عصرنا، هناك ضمان غير مشروط تقريباً بأن الأغلبية في المجتمع الديمقراطي لن تسن أي قانون يلحق ضرراً دائماً بالحرية الشخصية. ... بالتاكيد، أظهرت التجربة أنه كلما طال استمرار الترتيبات الديمقراطية في الدولة الحديثة، كلما زاد احترام ومراعاة حقوق الأقليات وكلما خف ميل النزاعات الحزبية إلى العدائية. أولئك الذين لا يستطيعون تخيل تحقيق الاشتراكية بدون عمل عنف سيرون في ذلك حجة ضد الديمقراطية ...

... في الديمقراطية، سرعان ما تتعلم الأحزاب والطبقات التي تدعمها التعرف على حدود قوتها، وفي كل مناسبة، تتعهد فقط بقدر ما يمكن أن تأمل بشكل معقول في تحقيقه في ظل هذه الظروف. حتى لو جعلوا مطالبهم أعلى مما يعتزمون بجدية من أجل الحصول على متسع من التنازلات في التسوية الحتمية—والديمقراطية هي مدرسة التسوية—سيتم ذلك باعتدال.

لم يعتقد برنشتاين أن إنجلترا كانت حالة استثنائية؛ لم يكن من الوارد ألا تعمل الديمقراطية بسحرها في ألمانيا. وادعى أن الحزب الديمقراطي الاجتماعي كان مخطئاً في الإصرار على الطابع الرجعي غير المتغير للبرجوازية الألمانية. ربما كان هذا صحيحاً في الوقت الحالي، على الرغم من وجود أدلة كثيرة على عكس ذلك. ولكن حتى مع ذلك، لا يمكن أن يستمر طويلاً. ستثبت الطبقة الرأسمالية الألمانية أنها أكثر عرضة للنداءات من أجل الإصلاح الديمقراطي، فقط إذا توقف الحزب الديمقراطي الاجتماعي عن تهديده بالثورة الاجتماعية. كانت مهمة الحزب هي طمأنة البرجوازية بأنه 'لا يملك الحماس لثورة عنيفة ضد العالم غير البروليتاري بأسره'. وبمجرد أن يتم ذلك، فإن خوف البرجوازية من الحزب الديمقراطي الاجتماعي 'سوف يتبدد'، وعليه أن يكون مستعداً للعمل في سبيل  'قضية مشتركة' مع الطبقة العاملة ضد العناصر الأكثر رجعية في النظام البروسي المطلق.

وهكذا، حث برنشتاين الحزب الديمقراطي الاجتماعي على وضع خيالاته الثورية جانباً وفهم أن الاشتراكية، التي تحررت من الحتمية الهيغلية التي أربكت ماركس وإنجلز، ليست في الحقيقة أكثر من ليبرالية ثابتة:

في الواقع، لا يوجد فكر ليبرالي لا يكون جزءاً من المعدات الفكرية للاشتراكية. حتى مبدأ المسؤولية الاقتصادية للفرد عن نفسه، والذي يبدو أنه من نتاج لهجة مانشستر تماماً، لا يمكن، في رأيي، أن تنكره الاشتراكية نظرياً، ولا توجد أي ظروف يمكن لأن تدفع إلى تعليقها. فلا وجود للحرية دون مسؤولية.

واصل برنشتاين رفضه بازدراء للتحريض الاشتراكي ضد العسكرة البرجوازية. فهو لم يكن معارضا، من حيث المبدأ، للاستعمار. في ظل الحكم الأوروبي، كتب، 'المتوحشون بلا استثناء أفضل حالاً مما كانوا عليه من قبل ...' تنطبق هذه القاعدة حتى على الهنود الأمريكيين: 'مهما كانت الأخطاء التي ارتكبت سابقاً بحق الهنود، فإن حقوقهم محمية في الوقت الحاضر، وثمة حقيقة معروفة وهي أن أعدادهم لم تعد تتناقص ولكنها، استأنفت نموها'.

أما في ما يتعلق بالتحريض الاشتراكي المستمر ضد جشع الإمبريالية الألمانية، فقد طرح برنشتاين بأنه لا ينبغي أن تكون 'مسألة لا مبالاة للديمقراطية الاجتماعية ما إذا كان الوطن الألماني—الذي حمل بالفعل ولا يزال يحمل نصيبه العادل من العمل الحضاري للدول—أن يتم التفوق عليه في مجلس الأمم'. ولم يكن الحزب الديمقراطي الاجتماعي محقاً في حثه على استبدال جيش القيصر الدائم بميليشيا شعبية، لأن تحذيراته من أن الجيش يمثل تهديداً دائماً بالعنف ضد الطبقة العاملة كانت في الحقيقة منتهية الصلاحية. كتب: 'لحسن الحظ، لقد اعتدنا بشكل متزايد على تسوية الخلافات السياسية بطرق أخرى غير استخدام الأسلحة النارية.'

لا شيء يضر بسمعة برنشتاين كمُنظر سياسي واستراتيجي أكثر من نشر كتاباته. فحتى الاختيارات الدقيقة للغاية من كتاباته التي قدمها ستيجر لا تعزز المكانة الفكرية لبرنشتاين (والمقاطع التي ذكرتها لا تظهر في سيرة ستيجر). إذا كان هناك أي شيء مفاجئ للماركسي المعاصر، فهو الطابع الفظ لحجج برنشتاين. وهذا يدفع المرء للتساؤل 'هذه العصيدة الرقيقة قدمت نفسها على أنها تفنيد للماركسية؟' لا يسع المرء إلا أن يندهش من افتقار برنشتاين للحساسية تجاه التيارات الجادة والمقلقة في عصره. لا أعرف ما إذا كان برنشتاين مغرماً بالموسيقى، لكن كان بإمكانه الاستفادة من الاستماع إلى سيمفونيات أحد معاصريه، جوستاف ماهلر. ربما اكتشف برنشتاين في عمل ماهلر شيئاً افتقر إليه تماماً في مؤلفاته الخاصة: وهو الشعور بالمأساة التي كانت تتفوق على الحضارة البرجوازية. ولكن بعد كل هذا، كان برنشتاين هو إدوارد، وليس ليونارد، وأشك بأنه كان سيستمد الكثير من أعمال الملحن النمساوي المليء بالقلق.

حين كُتبت المقاطع التي اقتبست منها، بقيت خمسة عشر سنة فقط قبل اندلاع الكارثة ذاتها التي اعتبرها إدوارد برنشتاين غير معقولة—كارثة افتتحت حقبة من الهمجية لا مثيل لها في التاريخ. إن ميل التطور الرأسمالي لم يؤدي في اتجاه الديمقراطية المتزايدة باستمرار وإلى تلطيف العداوات الطبقية، ولكن نحو القمع الجماعي والحرب الأهلية. بالنظر إلى المستقبل، رأى إدوارد برنشتاين قصير النظر فقط أقواس قزح الديمقراطية وغاب عنه تماماً الأسلاك الشائكة حول الخنادق ومعسكرات الاعتقال.

وجدت الانتهازية تعبيرها الأكثر تقدماً في كتابات برنشتاين ومعاصريه. ففي العقود التي تلت ذلك، لم تضف موجات الانتهازية المتتالية شيئاً ذو أهمية حقيقية على ما قاله البرنشتينيون. و في عصرنا، الذي يمتلك مستوى أدنى بكثير من الوعي الذاتي النظري، فإن الحجج ضد الماركسية تعيد إنتاج تلك التي قدمها برنشتاين، وإن كانت بجودة متناقصة. وهكذا، عند فحص المفاهيم النظرية لبرنشتاين، حتى بعد مرور قرن من الزمان، يتعامل المرء أيضاً مع السلسلة الكاملة من معاداة الماركسية المعاصرة.

الأسلوب هو الرجل، والمحتوى الجوهري للأسلوب هو المنهج. وحين يبدأ الفرد في الحديث عن السياسة، فإنه لا يكشف فقط عن آرائه حول أحداث اليوم، ولكن عن المفاهيم النظرية التي تكمن وراء تلك الآراء والعملية الفكرية التي يصل من خلالها إلى هذه الآراء. ما ينطبق على الأفراد ينطبق أيضاً على النزعات السياسية.

رفض 'الاشتراكية العلمية'

الانتهازية السياسية لها أسس منهجية ومعرفية معينة. لا أرغب في تشجيع المفهوم التبسيطي القائل بأن جميع مظاهر الانتهازية يمكن اختزالها في نظرية المعرفة الخاطئة، أو أن فحص الأسس المعرفية للتحريفية يلغي الحاجة إلى إجراء تحليل سياسي دقيق للقضايا المتنازع عليها. لكن برنشتاين لم يؤسس حجته فقط على الادعاء بأن عنصراً واحداً أو آخراً من الماركسية قد تم دحضه—على الرغم من أنه يعتقد بالتأكيد أن التطورات المعاصرة أظهرت أن ماركس وإنجلز مخطئان في العديد من أحكامهما. ولكن كانت أهمية ذلك ثانوية. وفقاً لبرنشتاين، فإن مفهوم 'الاشتراكية العلمية' ذاته كان متناقضاً من حيث المصطلحات. وأكد أن الاشتراكية لا تستطيع بلوغ مستوى العلم لأنها كانت 'حركة مشاركة لا يمكنها مواجهة العلم بشكل محايد'. وصرح 'لا يمكن على الإطلاق وصف الأيديولوجيات المنتهية بـ ’ية‘ بأنها علم لأنها مجرد وجهات نظر أو ميول أو أنظمة فكرية أو مطالب، ولكنها ليست علماً'. وعلى الرغم من ادعاءاتها العلمية، فإن الحركة الجماهيرية الاشتراكية 'هي ليست حركة علمية أكثر من، على سبيل المثال، حروب الفلاحين الألمان، الثورة الفرنسية، أو أي صراع تاريخي آخر. الاشتراكية كعلم تعتمد على المعرفة، أما الاشتراكية كحركة تسترشد بالمصلحة باعتبارها ’دافعها النبيل‘'.

هناك أشياء كثيرة في هذه البيانات تحتاج إلى إجابة. لنبدأ بفحص الادعاء القائل بأن الاشتراكية الحديثة، بقدر ما هي تعبير عن مصالح اجتماعية محددة، ليست علمية أكثر من حركات جماهيرية مبكرة. وكما هو الحال مع العديد من حجج برنشتاين، كانت هذه أكثر دهاءً من كونها عميقة. لا يمكن إنكار حقيقة أن جميع الحركات الاجتماعية تُحفزها المصالح الطبقية. لكن الاختلاف الجوهري بين الاشتراكية الحديثة والحركات الجماهيرية الثورية السابقة يتجلى في حقيقة أنه فقط مع تطور الماركسية يصبح هذا العنصر المحفز—المصلحة الطبقية—موضوع التحليل النظري التاريخي.

لم يكن ماركس وإنجلز أول من أدرك الصراع الطبقي وينسب إليه أهمية كبيرة. لقد تم العثور على آثار هذه الرؤية سابقا في مؤرخي العصور القديمة وعصر النهضة، ومؤخراً، بين المؤرخين الفرنسيين ما بعد الاستعادة النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر—وخاصة غيزو. ولكن لم يتم تحديد وشرح الأساس الكامن وراء الصراع الطبقي إلا مع ماركس وإنجلز. لم يشدد ماركس وإنجلز على الصراع الطبقي وعلاقته بالمادة، أي الملكية والمصالح فحسب، بل أوضحا أن تلك المصالح—والنضالات الاجتماعية التي تولدها—تتشكل على أساس القوى المنتجة التي خلقها الإنسان وعلاقات الإنتاج التي تلزمها والتي تعمل من خلالها.

أتاحت هذه النظرة الثاقبة لأصول المجتمع الطبقي، لأول مرة، فرصة تكوين فهم مادي متناسق للتاريخ—أي فهم لم يفسر فقط تشكيل المصالح الاقتصادية، ولكن أيضاً تطور فكر المجتمع. كان هذا الجانب الثاني على وجه الخصوص—اشتقاق الوعي الاجتماعي من الوجود الاجتماعي—هو الذي جعل من الممكن للحركة الاشتراكية أن تفهم وتشرح أصولها ووجودها وتطورها وتطلعاتها في بيئة خالية تماماً من غموض  الشكل—أي دون اللجوء إلى الدوافع المثالية. وهنا يكمن اختلاف جوهري بين الحركة الاشتراكية الماركسية والحركات الثورية التي سبقتها.

قد نفترض بأمان أن جميع الحركات الاجتماعية—سواء في الماضي أو الحاضر أو ​​المستقبل—هي بطريقة ما تعبير عن المصالح الاجتماعية. لكن يمكن للحركة الماركسية أن تؤكد بشكل شرعي أسسها العلمية إلى الحد الذي تسترشد فيه مبادئها وبرامجها وأفعالها بمعرفة قوانين التطور التاريخي. كان تمييز برنشتاين بين 'الاشتراكية كعلم' و 'الاشتراكية كحركة'، بصراحة، سخيفاً إلى حد ما. للسماح بأن الاشتراكية، بوصفها علماً، تدرك القوانين التي تحكم تطور الوعي الاجتماعي، ومن ثم الادعاء بأن الاشتراكية كحركة تقوم على 'دافع نبيل' كان عبثاً مستهجناً. فبعد كل شيء،  لا يمكن لعلم الذي يؤكد أن الوعي الاجتماعي هو نتاج الظروف التاريخية التي تشكلت على أساس مستوى معين من تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج المقابلة لها أن يرتدي رداء الحركة الجماهيرية، والاكتفاء بأنه يسترشد 'بالدافع النبيل'. سيضطر على الفور إلى شرح الأصول والأسس الاجتماعية لـ 'الدافع النبيل'، إذا كان ذلك صحيحاً ومطابقاً للعلم الذي يدعيه.

دعونا الآن نفحص ادعاء برنشتاين بأنه 'لا توجد على الإطلاق أي أيديولوجية منتهية بـ ’ية‘ تكون في حقيقتها علماً'. يبدو أن هذا القول المأثور يضع الداروينية في موقف مريب. لكن دعونا نفترض أن برنشتاين أساء في التعبير عن نفسه فحسب—وأنه كان ينوي المجادلة بأن الالتزام الضمني بالايديولوجية لا يتوافق مع العلم. كانت هذه حجة عاد إليها برنشتاين مراراً وتكراراً: العلم لا يتوافق مع أي شكل من أشكال التحزب. ونجده قد أعلن:

إذا كانت الاشتراكية مهتمة بأن تصبح علماً بحتاً، فيتعين عليها التخلي عن أن تكون عقيدة طبقية تمثل تطلعات العمال القائمة على الطبقة. وفي هذه المرحلة، يجب بالضرورة أن تنفصل الاشتراكية عن العلم.

اسمحوا لي أن أعبر عن موقفي بشكل لا لبس فيه: النظرية الاشتراكية هي علم فقط بقدر ما تكون مقترحاتها مقبولة لأي شخص غير اشتراكي موضوعي وغير مهتم.

إذا كانت هذه العبارة الأخيرة صحيحة، فهذا يعني أن الشخص الوحيد المؤهل لإصدار حكم على المؤهلات العلمية للماركسية سيكون الشخص الذي كان مصير الإنسانية بالنسبة له مسألة لا مبالاة مطلقة. باستدعاء ما سماه 'علماً بحتاً'، شدد برنشتاين أنه لا يتوافق مع وجود 'العناصر الإرادية الذاتية'. وقال إن ممارسة العلم لا يمكن أن تتوافق مع أي هدف بشري معين.

لكن الأمر لا يتطلب الكثير من التفكير حتى نرى أن هذا ليس صحيحاً. فالعلم لا ينفي بأي حال من الأحوال الحزبية أو الإرادة. قد نفترض أن الاحيائي الذي يدرس فيروس نقص المناعة البشرية مهتم بعواقب الإيدز في حين أن الجراح، دعونا نأمل ذلك، يرغب في إنقاذ حياة المريض تحت مشرطه. كلاهما مدفوع بدوافع 'ذاتية' محددة: فالأول يرغب في القضاء على فيروس HIV في حين أن الآخر يسعى لإنقاذ حياة مريضه. لكن هذا لا يعني أنهما غير قادرين على تبني موقفاً علمياً تجاه عملهم.

واجه برنشتاين في عصره هذا الاعتراض بالذات. في محاضرة ألقيت في مايو 1901، حاجج فيها بأن الاشتراكية لا يمكن أن تكون علمية لأنها سعت إلى تحقيق هدف خاص، سُئل برنشتاين عما إذا كان ينكر أن الطب كان علماً لأن له هدفاً محدداً، أي الشفاء. أجاب برنشتاين بالتناول من أعماق حقيبته من السوفسطائية:

كتب، 

أجبت على السؤال بأنني أعد الشفاء 'فن الطب'، الذي يقوم على إتقان شامل لعلم الطب. على هذا النحو، فإن هذا الأخير لا يهدف إلى الشفاء ولكن إلى معرفة الظروف والوسائل التي ستؤدي إلى العلاج. إذا قبلنا هذا التمييز المفاهيمي كمثال نموذجي، فلن يكون من الصعب للغاية، حتى في الحالات الأكثر تعقيداً، معرفة أين ينتهي العلم ويبدأ 'الفن' أو 'العقيدة'.

رد بليخانوف على هذا بقوله: 'الاشتراكية كعلم تدرس وسائل وشروط الثورة الاشتراكية، بينما الاشتراكية كـ’عقيدة‘ أو كفن سياسي تحاول إحداث هذه الثورة بمساعدة المعرفة المكتسبة'.

تصور برنشتاين العلم على أنه مجرد فهرسة للحقائق، مع وجود علماء أكثر بقليل من كتبة متعلمين يجمعونها ويزنونها ويصنفونها ثم يضعونها في الصناديق الصغيرة المناسبة. إن مثل هذا المفهوم لم يحرم العلم من دافعه ووظيفته الإبداعية فحسب؛ بل كان أيضاً لا تاريخياً. حدث تطور العلم على مدى 2500 سنة الماضية من خلال صراع الميول—حيث كانت الانقسامات مرتبطة ليس فقط بالمفاهيم المجردة ولكن بشكل مباشر تماماً بالمصالح المادية. يبدو من المبتذل تقريباً أن نشير إلى أن العلم، كما تجلى في مصير جيوردانو برونو وجاليليو جاليلي، واجه بشكل متكرر مقاومة الطبقات الاجتماعية التي أدركت أن تطوره مثل تهديداً لوضعها الاجتماعي. وحين تحدث برنشتاين عن 'الحياد العلمي'، دار في ذهنه تصوراً محدداً للغاية للعملية المعرفية—تصور فيه أن انعكاس العالم المادي في أذهان الرجال وتراكم المعرفة هما عملية تأملية وسلبية. أي أن ماديته كانت ذات طابع ميكانيكي غير ديالكتيكي، حيث توجد هاوية بين موضوع الإدراك والشخص المدرِك.

لم تكن الشرعية العلمية للماركسية هي التي شكك فيها برنشتاين فقط. بل إن مفهومه لـ'العلم النقي' شكك في إمكانية إجراء دراسة علمية للمجتمع. من حيث الجوهر، أكد أن مجال الفكر العلمي يقتصر على تلك المجالات التي يتواجه فيها الشخص المفكر وموضوع الإدراك ككيانين غريبين تماماً ومنفصلين—أي، على الأرجح—في العلوم الطبيعية والنظرية. وأكد أن 'العلم النقي' يطالب بألا تتلوث ممارسته بأي شكل من الأشكال باختراق الذات والموضوع في العملية الإدراكية. و يجب أن يظل كل منهما ثابتاً في مكانه. يصبح العلم 'مدنساً' وبالتالي يفقد صلاحيته العلمية في اللحظة التي يتم فيها انتهاك الحدود المطلقة التي يجب أن توجد بين الذات العارف وموضوع الإدراك. 

وهكذا، بحكم التعريف، فإن الدراسة العلمية للمجتمع البشري، سواء من قبل الماركسيين أو أي شخص آخر، كانت مستحيلة من الناحية الفنية. إذا كان برنشتاين على حق، فكيف يمكن أن يكون هناك علم حقيقي للمجتمع لما يكون المراقبون والباحثون البشريون هم أنفسهم جزءاً من الكائن الحي الذي يسعون إلى دراسته. وكما لاحظ كاوتسكي حين رد على برنشتاين بشأن هذه النقطة بالذات:

كل علم له صعوباته الخاصة. وتضم هذه الصعوبات في العلوم الاجتماعية واقع أن المراقب والباحث هم أنفسهم جزء من الكائن الحي الذي يتعين عليهم فحصه؛ أنهم ليسوا خارج ذلك الكائن الحي ولكن داخله؛ أن لكل شخص مكانه المحدد فيه، والذي يمكنه من خلاله وحده إجراء ملاحظات عنه، وعن وظائفه المحددة، واعتماده على أجزاء أخرى من الكائن الحي؛ وأن الأجزاء المحددة من هذا الكائن الحي تقف في تناقض مع بعضها البعض. هذه بالتأكيد عقبات خطيرة، لكن إذا كانت كبيرة جداً لدرجة أنها حالت دون العلم، فعندئذ سيتم استبعاد ليس الاشتراكية العلمية فحسب ولكن أيضاً أي نوع آخر من العلوم الاجتماعية. ومن ثم ينطبق نفس الشيء الذي يقوله برنشتاين عن الاشتراكيين على الاقتصاديين البرجوازيين.

ميتافيزيقا الموضوعية

تدور جميع حجج برنشتاين حول نفس الصيغ الميتافيزيقية، البسيطة والمبتذلة: العمليات 'الموضوعية' هي تلك التي تعمل بشكل مستقل تماماً عن الفعل والإرادة البشرية. لا يوجد شيء مرغوب فيه أو يتم تحقيقه من خلال النشاط الذي يوجد فيه الدافع الواعي موضوعياً حقاً. إن 'الموضوعية' هي فقط ما هو خارج عن وعي الإنسان تماماً وينجز نفسه تلقائياً. وبالتالي، فإن كل سلوك بشري، بقدر ما يمر عبر الوعي، هو ذاتي. لذلك، وفقاً لبرنشتاين، لا يمكن أن يُنسب مصطلح 'الضرورة الموضوعية' بشكل صحيح إلى أي سلوك اجتماعي بشري يتواجد فيه أكثر من الوعي الغريزي.

من هذا المنطلق، لم يكن الصراع الطبقي بحد ذاته تعبيراً عن ضرورة تاريخية موضوعية، وإنما فقط تعبيراً عن الإرادة الإنسانية الذاتية التي تفرض نفسها على المسار الموضوعي للأحداث. كما صرح برنشتاين أن 'الرغبة في تحسين الظروف لمجموعة اجتماعية معينة لا يمكن أبداً أن تكون ’موضوعية‘. ويمكن للمرء أن يقول إن تفسير التحولات الاقتصادية لا يبرر أبداً كلمة ’موضوعية‘ لأن هذه لا تحدث أبداً بدون وساطة النشاط البشري'. وفي محاولة لتوضيح الحد، داخل مجال السلوك البشري، بين الموضوعي والذاتي، بين ما يمكن أو لا يمكن مناقشته من حيث العلم والضرورة، قدم برنشتاين المثال التالي:

إن الحاجة العامة إلى الطعام هي قوة موضوعية، لكن الرغبة في نظام غذائي متنوع عامل شخصي. أي شيء يحل محل ضرورات الحياة المستمرة لتحقيق فكرة أو هدف مقصود لا يقوم على ضرورة موضوعية.

إن حجة برنشتاين لا تصمد حتى أمام تمحيص سريع. أخبرنا أن الحاجة إلى الغذاء أمر موضوعي، ولكن 'الرغبة في نظام غذائي متنوع' هي مجرد حاجة ذاتية. لم يدر في ذهنه أن 'رغبة' معينة قد تكون تعبيراً ذاتياً عن حاجة ذات أسس موضوعية؛ أو، بعبارة أخرى، أن الرغبة الذاتية قد تتطور على أساس البصيرة الواعية للضرورة الموضوعية. إن الحاجة إلى الغذاء، بطبيعة الحال، ضرورة موضوعية. لكن استجابة الإنسان لآلام الجوع ليس مجرد دافع شخصي خام. علم التغذية ومفهوم 'نظام غذائي متوازن' منخفض الدهون المشبعة يمثلان عملية صقل وتكييف وتوجيه الدافع الذاتي وفقاً للفهم العلمي لاحتياجات الكائن البشري. ففي الواقع، فإن وجود الوعي هو الشرط الأساسي للمواءمة التقدمية بين الرغبة الذاتية والحاجة الموضوعية.

بالانتقال من المطبخ إلى السياسة، أصر برنشتاين، دون أي تحسين في أسلوب حجته، على أن الاشتراكية تنازلت بشكل نهائي عن أي ادعاء بالعلم لأنها تطمح إلى شيء—في هذه الحالة، شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي الاقتصادي—الذي لم يكن قائماً. 'لكن كيف'سأل برنشتاين بسخط، 'يمكن لشيء نسعى وراءه أن يكون علماً خالصاً؟' لا يستطيع العلم أكثر من ملاحظة ما هو قائم والتعليق عليه. 'لأن الجماعية كنظام اقتصادي تتخذ شكل مثالي'، لذا 'لا يمكن عدها علمية في نفس الوقت.'

على الرغم من أن برنشتاين ربما اعتقد أنه كان يدحض فقط الادعاءات العلمية للاشتراكية الماركسية، لما أكد أن تطلعات الإنسان تقع خارج مجال العلم، كان في الواقع ينكر إمكانية العلم. فالبحث العلمي في حد ذاته ممارسة اجتماعية يمكن العثور على دافعها الإبداعي في استجابة الإنسان الذاتية للظروف التي يواجهها. حيث ينشأ العلم كتعبير عن الاستيلاء الواعي للإنسان من الطبيعة على ما يحتاجه للعيش والتكاثر. وبعيداً عن افتراض الفصل المطلق بين الفاعل والمفعول به، فإن فرضية الفكر العلمي هي العلاقة الديالكتيكية بين الإنسان والطبيعة.

من المفيد هنا استشارة ماركس:

العمل، في المقام الأول، هو عملية يشارك فيها كل من الإنسان والطبيعة، ومن تلقاء نفسه خلالها يبدأ وينظم ويتحكم في ردود الفعل المادية بينه وبين الطبيعة. إنه يقاوم الطبيعة بوصفه أحد قواها الخاصة، حيث يحرك الذراعين والساقين والرأس واليدين، وهي القوى الطبيعية لجسده، بهدف مواءمة منتجات الطبيعة في شكل يتكيف مع احتياجاته الخاصة. من خلال التصرف في العالم الخارجي وتغييره، فإنه في نفس الوقت يغير طبيعته. إنه يطور قدراته النائمة ويجبرها على التصرف في خضوع لسطوته….إن العنكبوت يقوم بعمليات تشبه عمليات النسّاج، والنحلة، في بناء خلاياها، تبزّ الكثير من المهندسين المعماريين. غير أن ما يميز أسوأ معماري عن أبرع نحلة، هو أنه يقيم البنيان في خياله قبل أن يبنيه من الواقع. ففي ختام كل عملية عمل، نحصل على نتيجة كانت موجودة، سلفا، في مخيلة العامل عند بدء العملية، أي مثاليا.

لا يقتصر العلم على وصف العالم المادي كما هو قائم خارج الوعي والممارسة البشرية، كما يفعل كاتب مكلف بالجرد. إنه بالفعل يهتم بما هو غير قائم حيث يسعى العلم لاكتشاف إمكانية ترجمة أحلام الإنسان إلى حقيقة في الطبيعة. يعود تاريخ أسطورة إيكاروس إلى أكثر من 2000 عام حين ترجم حلم الطيران نفسه في النهاية ونجد في  رسومات ليوناردو، الطائرة ذات السطحين التي صنعها لاحقاً الأخوين رايت، ومؤخراً، تم صنع مكوك الفضاء. 'لا يعكس وعي الإنسان العالم الموضوعي فحسب، بل يخلقه أيضاً'.

تماما كما أن نظرة الإنسان إلى قوانين الطبيعة تمكنه في مصلحته الخاصة باستخدام وحتى تغيير ظروفها التلقائية، فإن الرؤية العلمية التي حققتها الماركسية في القوانين التي تنظم التطور التاريخي للإنسان توفر إمكانية تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية على أساس الاحتياجات البشرية المفهومة بوعي. أما برنشتاين، الذي أنكر بشكل عام إمكانية وجود مثل هذه البصيرة، فقد شوه التمييز الجوهري بين الماركسية والأشكال المختلفة للفكر الاشتراكي اليوتوبي التي سبقتها. وادعى أن 'الجوهر الأعمق' للماركسية هو 'نظرية النظام الاجتماعي المستقبلي'. و كان هذا خطأ من ناحيتين أساسيتين:

أولاً، إن 'الجوهر الأعمق' للماركسية ليس نظرية عن المستقبل أو حتى نظرية للتاريخ، بل نظرة مادية للعالم، تنطلق من أسبقية الوجود على الوعي، مرتكزة على أسلوب ديالكتيكي.

ثانياً، لم يقدم ماركس وإنجلز نظرية لنظام اجتماعي مستقبلي بل قدما بدلاً من ذلك، تفسيراً مادياً متناسقاً للقوانين العامة للتطور التاريخي، وعلى هذا الأساس كشفا طبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي. وبالتضاد مع الاشتراكية الطوباوية، التي بنت مفهومها لمجتمع المستقبل على مبادئ مجردة، كشفت الماركسية عن الضرورة التاريخية وإمكانية الاشتراكية من خلال تحليل تناقضات المجتمع القائم. لم يشرع ماركس في ابتكار نظام اجتماعي جديد. وهو لم 'يخترع' الاشتراكية.

كما هو معروف، لم يقم ماركس بأي محاولة لرسم مخطط لنظام اجتماعي مستقبلي. لا يوجد شيء في كتابات ماركس يمكن مقارنته بكتائب فورييه. بدلاً من ذلك، أوضح ماركس أن التطور الاقتصادي للمجتمع البرجوازي، بصرف النظر عن إرادة الاشتراكيين، يضع الأسس لإضفاء الطابع الاجتماعي على وسائل الإنتاج. وأن تناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي القائم موضوعياً على استغلال الطبقة العاملة تميل نحو الأزمة والانهيار والثورة الاجتماعية. فالاشتراكية، إذن، هي نتيجة ضرورية (وإن لم تكن حتمية بالمعنى الرسمي) للبنية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع القائم، وبمعنى أكثر عمقاً، للتطور التاريخي للإنسان بأكمله. 

حتى بعد إدراك خواء تصورات برنشتاين النظرية، لا يزال المرء يشعر بأنه مضطر إلى التساؤل: كيف كان من الممكن أن يكون برنشتاين أعمى تماماً عن التناقضات الاجتماعية التي تراكمت وقادت الحضارة الأوروبية نحو الكارثة؟ يمكن العثور على جزء من الإجابة على الأقل من خلال طرح السؤال على معاصرينا. لماذا هذا العدد الكبير من الأشخاص المفترض أنهم أذكياء يعمون تماماً عن التناقضات التي تقود حضارتنا نحو الهاوية؟ لماذا فاجأ انهيار 'نمور آسيا الخمسة' الكثير ممن يُفترض أنهم يتمتعون بمعلومات جيدة؟ لا ينبغي دراسة حياة إدوارد برنشتاين كنموذج، ولكن على الأقل كحكاية تحذيرية. خاصة في عصرنا الذي يتسم بالجهل التاريخي العالمي تقريباً والعمى السياسي، هناك شيء يمكن تعلمه من أخطاء إدوارد برنشتاين الذي، على الرغم من كل قيوده، بالكاد سيبدو سيئاً مقارنة بالشخصيات السياسية النشطة حالياً على المسرح العالمي. علاوة على ذلك، في ما يتعلق بدفاع عن برنشتاين، دعونا نعترف بأنه لم يكن من السهل أن نرى، في عام 1898، وسط ثروة وقوة الرأسمالية الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر، بوادر كارثة وشيكة. ما كان مطلوباً لم يكن عين ثاقبة وحسب، بل ما أشار إليه ماركس ذات مرة باسم 'قوة التجريد'.

تجريبية برنشتاين

كانت هذه القدرة الفكرية على وجه التحديد هي التي افتقر إليها برنشتاين. فعلى المستوى التجريبي، كانت آفاقه السياسية محددة 'بالحقائق' كما استمدها إما من الملاحظة العرضية أو من قراءته للصحف و دراسة الاحصاءات الاقتصادية. اعتقد برنشتاين بصدق أنه رجل علم، وكان لومه الرئيسي على ماركس هو أن منهجيته الهيغلية وأهدافه الثورية جعلت من المستحيل عليه أن يتبنى مقاربة هادفة 'لحقائق' الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

كان يعمل برنشتاين  في ظل الوهم الشائع للتجريبين: أن 'الحقائق' هي الجسيمات الأولية، 'النقية'، 'الخالية من القيمة' والغير ملوثة فكرياً للبيانات الموضوعية المطلقة التي تشكل البنية العضوية للحقيقة. إن تراكم عدد كافٍ من هذه الجسيمات من البيانات المحايدة سياسياً سوف يزود عالم الاجتماع بصورة هادفة حقاً للواقع الاجتماعي يمكن على أساسها اتخاذ قرار منطقي للعمل.

ما ينكره التجريبي، أو يفشل في إدراكه، هو أن 'حقائق' الواقع الاجتماعي هي نفسها نتاج التاريخ، وأن الطريقة التي يتم بها عزل الحقائق ووضعها في إطار مفاهيمي مشروطة اجتماعياً بحيث تكون كل حقيقة اجتماعية وليدة الظروف التاريخية وتوجد كجزء من شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. علاوة على ذلك، يتم التعرف على هذه 'الحقائق'—بالتأكيد، لا يتم التعرف عليها بأنها 'حقائق' إلا—من خلال تشغيل المفاهيم والفئات المعرفية التي هي أيضاً نتاج وانعكاس لعملية تاريخية.

إن التجريبي الذي يصر على أن اختياره ودراسته للحقائق الاجتماعية محايد تماماً، لا يدرك الطابع الشرطي تاريخياً للمفاهيم التي يعمل بها؛ بعبارة أخرى، إنه يتبنى موقفاً غير نقدي تجاه أشكال تفكيره.

ظهر الموقف غير النقدي لبرنشتاين تجاه تصوراته النظرية بشكل أوضح في تصريحه الشهير بأن الهدف النهائي هو لا شيئ؛ بأنه كان معنياً فقط بما هو هنا والآن. ما هي الآثار المترتبة على هذه النظرة؟ فكما تعامل مع الحقائق نفسها، تم هنا انتزاع ممارسة الحركة الاشتراكية من سياقها التاريخي. وعلى هذا الأساس، كان من المقرر صياغة النشاط السياسي دون أي شعور بأنه جزء من عملية تاريخية كان مسؤولاً أمامها.

رفض برنشتاين المنظور الثوري بالضبط في النقطة التي كانت فيها التناقضات على وشك اختراق سطح الحياة السياسية. إن البومة التي تطير عند الغسق ليست بالضرورة ذكية. غالباً ما يكون مظهر الاستقرار في ذروته في نفس اللحظة التي تكون فيها الشمس على وشك الغروب في نظام اجتماعي معين. لقد حققت البيانات التجريبية التي تشهد على قوة النظام الحالي ذروتها من حيث الكمية. و يبدو أنه من غير المجدي، بالنسبة إلى التجريبي، الإصرار على التشكيك في نظام اجتماعي يتم إثبات قابليته على البقاء من خلال مثل هذه المجموعة الرائعة من البيانات. ولكن هذه الأجزاء من البيانات قد تم استبدالها وهي، بأي حال من الأحوال، ليست أكثر من مؤشرات متناقضة لموقف هو، بطبيعته، ليس فقط غير واضح، ولكنه ضمن عملية تغيير الاتجاه. إن التجريبي السياسي، الذي يستغل البيانات المعطاة لتبرير الاستسلام للنظام القائم، يخطئ حين يفرض على عملية جارية نتيجة اعتباطية. وهكذا، فإنه يخطئ في الاعتقاد بأن لحظة انتقال تاريخية هي الحصيلة النهائية. هذا هو السبب في أن برنشتاين لم يستطع أن يرى في عام 1898 ظل اقتراب عام 1914، ناهيك عن ظل عام 1933.

Loading