العربية

التزوير التاريخي والنضال في سبيل الاشتراكية

نشرت هذه المقالة لأول مرة باللغة الإنجليزية في 6 يناير 2022

هل كان هناك بديل؟ 1923-1927. التروتسكية: نظرة إلى الوراء عبر السنين  

يعد نشر لكتاب المؤرخ السوفيتي وعالم الاجتماع فاديم  روجوفين الأول في الدورة المكونة من سبعة مجلدات عن المعارضة الاشتراكية لجوزيف ستالين باللغة الإنكليزية حدثاً سياسياً وفكرياً كبيراً. ركز الكتاب الذي حمل  عنوان ' هل كان هناك بديل؟ 1923-1927. التروتسكية: نظرة إلى الوراء عبر السنين' على الفترة التي بدأت فيها المعارضة اليسارية ، بقيادة ليون تروتسكي ، المعركة ضد الزمرة البيروقراطية الملتفة حول ستالين داخل الحزب الشيوعي والاتحاد السوفيتي.

نسف روجوفين (1937-1998) الأسطورة المشتركة بين كل من مناهضي الشيوعية والستالينيين على حدٍ سواء، و مفادها أن الستالينية تطورت بشكل طبيعي وسلس من البلشفية. وأوضح أن هذا الادعاء لا يمكن أن يستمر إلا من خلال محو الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي اجتاحت الاتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي من السجل التاريخي - أي من خلال الجدل ، كما أشار في مقدمته ، إلى أن 'جميع المراحل الانتقالية بين أكتوبر 1917 وكان توطيد السلطة من قبل النظام الستاليني وفق مسار متعرج ضيق'.

يُعد الكتاب ، الذي نُشر لأول مرة باللغة الروسية في عام 1992 ، إنجازاً بحثياً تاريخياً، إذ استخدم مجموعة واسعة من المصادر التي  منع شاغلو الكرملين المواطنين السوفييت من الوصول إليها حتى نهاية العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين. كما تعذر على القراء الغربيين الوصول إلى معظم هذه المواد، باستثناء الأجزاء الصغيرة المستخدمة في البحوث التاريخية المنشورة في أمريكا الشمالية أو أوروبا.

فمن خلال الرسائل بين أعضاء الحزب، ومحاضر الاجتماعات بمختلف مستوياتها، وملاحظات ومذكرات السكرتارية والمراقبين الآخرين، والتقارير والمراسلات من الهيئات الحزبية الإقليمية والمحلية، ووثائق داخلية أخرى لا حصر لها، بالإضافة إلى المقالات والخطب والتعليقات المنشورة في الصحافة في ذلك الوقت، ينزل القارئ إلى تاريخ أهم صراع سياسي في القرن الماضي ويتابع  تقلباته و منعطفاته ، وشخصياته ، ولحظاته المأساوية والنبيلة، والدوافع الاقتصادية والاجتماعية الكامنة وراءه. يمكن للمرء أن يقول حرارة  هذه المعركة الدرامية تسربت بشق من الصفحات.

ثمة صور فوتوغرافية، بالإضافة إلى رسوم كاريكاتورية أصلية وصور أخرى لم تُنشر منذ العقد الثالث من القرن الماضي في الاتحاد السوفيتي نجدها على امتداد الكتاب. في النهاية ، هناك ملاحظات عن السيرة الذاتية لأكثر من 70 شخصية تاريخية. و في جميع أنحاء المجلد نسمع صوت تروتسكي، وكذلك أصوات العديد من المعارضين الأقل شهرة، إذ أعادهم روجوفين إلى مكانهم الصحيح بعد عقود من محوها من التاريخ السوفييتي الرسمي.

تختلف الترجمة الإنجليزية عن النسخة الروسية الأصلية لأن روجوفين أعاد صياغة هذا المجلد ووسعه نتيجة للمناقشات المكثفة التي أجراها مع الحركة التروتسكية خلال منتصف العقد العاشر من القرن العشرين. فبعد أن عمل في عزلة شبه تامة لعقود،  تمكن أخيراً من مراجعة العديد من الأسئلة التاريخية والسياسية المعقدة بالتعاون مع مفكرين مشاركين في اللجنة الدولية للأممية الرابعة و تمت مراجعة التغييرات التي أجراها على مخطوطته بعناية وجرى دمجها في النسخة الإنجليزية من قبل المترجم فريدريك شوات.

هل كان هناك بديل؟  بدأ الكتاب بمعالجة الوضع السياسي في البلاد في الفترة التي سبقت صراعات منتصف العقد الثاني من القرن العشرين. و تناول تشكيل نظام الحزب الواحد، وموقف البلاشفة تجاه الامتيازات الممنوحة لمن هم في مناصب السلطة ، والحظر المفروض على التكتلات  تحت قيادة لينين في عام 1921. تضمن هدف روجوفين شقين: أولاً، إنشاء صورة حية للحياة السياسية للحزب البلشفي قبل صعود ستالين إلى السلطة، بحيث يدرك القارئ الهوة التي فصلت ما كان عما سيحدث. ثانياً ، إثبات أنه في الفترة الأخيرة من حياته استعد لينين بشكل عملي لمحاربة ستالين والاتجاهات التي مثلها.

بالفعل في عام 1922 ، كانت العمليتان المتلازمتان لنمو البيروقراطية والتمايز الاجتماعي والاقتصادي جارية. لاحظ روجوفين أنه في ذلك العام ، على سبيل المثال، خضع ما يقرب من نصف المسؤولين الكبار البالغ عددهم 10700 الذين عينتهم اللجنة المركزية لعملية تعيين أشرف عليها فعلياً مكتب الأمين العام، وهو المنصب الذي شغله ستالين. ففي أغسطس 1922 ، أقر مؤتمر حزبي اقتراحاً قدمه ستالين وأنصاره لإنشاء تسلسل هرمي للأجور لمسؤولي الحزب. كما سمحت لهم بالحصول على سكن خاص وخدمات طبية ، فضلاً عن رعاية الأطفال وفرص التعليم لأبنائهم. و من خلال تقديم هذا النوع من التفاصيل التاريخية، سلط المؤلف الضوء بطريقة ملموسة للغاية على التحول الذي حدث داخل الحزب البلشفي والعمليات من أعلى إلى أسفل والمناهضة للمساواة التي سيبدأ المعارضون بالاعتراض عليها.

بحلول أوائل عام 1923 ، كان الصراع داخل الحزب الشيوعي على قدم وساق. ففي نهاية العام السابق، بدأ لينين إملاء سلسلة من الرسائل ، التي ستُعرف باسم 'وصيته' ، احتجاجاً على النزعات القومية والبيروقراطية الناشئة داخل الحزب الشيوعي. واقترح إصلاحات في هياكل الحزب والدولة بهدف وقف تطورها، و قدم سلسلة من الملاحظات حول نقاط القوة والضعف لعدد من البلاشفة البارزين مثل تروتسكي ، وغريغوري  زينوفييف ، وليف كامينيف ، وآخرين ، وخص ستالين بانتقادات لاذعة، ودعا إلى إقالته من منصب السكرتير العام للحزب وإخضاع مجالات العمل الذي أرف عليها لنقد خاص.

عاد روجوفين، على امتداد صفحات الكتاب إلى تاريخ ومصير 'الوصية' ، موضحاً كيف طاردت كلمات لينين الأخيرة ستالين، الذي كان عليه العمل بشكل متكرر لقمع واحتواء تداعياتها. جادل بشكل مقنع بأن ستالين كان مذنباً بارتكاب 'القتل النفسي' للينين، الذي أصيب بجلطة دماغية أخيرة بعد فترة وجيزة من قراءة سلسلة من قرارات مؤتمر الحزب التي أدانت تروتسكي والمعارضة بـ 'الانحراف البرجوازي الصغير'.

استكشف المؤلف أيضاً احتمال ضلوع ستالين بتسميم لينين، وهو الاستنتاج الذي سيصل إليه تروتسكي. فبعد التحسن لعدة أشهر، أخذت صحة الزعيم البلشفي تتدهور بسرعة وبشكل غير مفهوم نحو الأسوأ في منتصف يناير 1924 ، في الوقت الذي ، لاحظ فيه روجوفين ، أن 'الخطر الرئيسي على ستالين لم يكن تروتسكي ... بل لينين'. كان لستالين الدافع والوسائل. وعلى أقل تقدير، كان مسروراً بخروج لينين من التاريخ. وصف سكرتير ستالين الأمين العام على النحو التالي في ذلك الوقت: 'إنه في مزاج جيد ومبهج. في الاجتماعات والجلسات ، ظهر بوجه حزين ومنافق بشكل مأساوي ، وألقي خطابات غير صادقة ، وأقسم برحمة على أن يكون مخلصاً للينين. أما وقت النظر إليه ، لا يسعني إلا التفكير: 'يا لك من خنزير. '

خلقت وفاة لينين تحديات سياسية جديدة مهمة لتروتسكي ، إذ شعر خصومه أن لديهم الحرية في تصوير أنفسهم زوراً على أنهم ورثة لينين وتشويه الخلافات قبل عام 1917 بين لينين وتروتسكي حول طبيعة الثورة الروسية القادمة لمصلحتهم الخاصة. لطالما أصر تروتسكي ، على أساس نظريته عن الثورة الدائمة ، على أن المهمة التي تواجه الطبقة العاملة الروسية لم تكن مجرد الإطاحة بالقيصرية ، ولكن أيضاً الانقلاب على النظام الرأسمالي الذي ترسخ في البلاد والذي من أجله كانت الدولة شبه الإقطاعية مرتبطة بعمق كجزء من الاقتصاد العالمي. يجب على العمال، المتحالفين مع انتفاضة الفلاحين الهائلة ولكنهم يقفون على رأسها ، أن يقاتلوا على أساس برنامج اشتراكي صريح مناهض للإقطاع والرأسمالية. 

في المقابل، جادل لينين بأن الطبقة العاملة والفلاحين الروس ، متحدون في 'ديكتاتورية ديمقراطية' في مواجهة البرجوازية ، كان عليهم هزيمة القيصرية والقتال بإصرار من أجل مصالحهم الطبقية، لكنهم حتى الآن 'لن يكونوا قادرين على التأثير(بدون سلسلة كاملة من المراحل الانتقالية للتطور الثوري) على أسس الرأسمالية '. و في أبريل 1917 ، تخلى لينين عن هذا الموقف وانتقل إلى موقف تروتسكي. وبذلك ، خاض صراعاً سياسياً ضد قوى داخل حزبه - من بينها ستالين وكامينيف وزينوفييف - التي تشبثت في جوهرها بأوهام الحكم البرجوازي. كان هذا التاريخ السياسي وراء صراعات العقد الثالث من القرن العشرين.

أصر روجوفين على أنه بحلول الوقت الذي توفي فيه لينين في يناير 1924 ، كان تروتسكي قد ارتكب بالفعل خطأً رئيسياً: ففي أوائل عام 1923 لم يعلن عن انتقاداته لسياسة الحزب خارج المكتب السياسي. ففي فصل بعنوان 'خطأ تروتسكي' ، جادل روجوفين بأن القائد المشارك لثورة 1917 افتقر إلى 'العزم'. هنا، قلل المؤلف من شأن التعقيدات التي تواجه القادة السياسيين وهم يتنقلون في موقف داخل الحزب والظروف التاريخية التي ظهرت فيها اتجاهات متناقضة وما زالت آفاق تطورها في المستقبل غير واضحة تماماً.

بحلول بداية عام 1923 ، كشفت 'الحادثة الجورجية' ، التي ناقشها روجوفين في كتابه ، عن انقسامات حادة داخل الحزب حول سياسة القوميات السوفيتية والشوفينية الروسية الكبرى. كانت هناك خلافات حول المخاطر التي انطوت عليها السياسة الاقتصادية الجديدة ، التي قادها لينين باعتبارها تنازلًا سياسياً ضرورياً. أضاف حظر عام 1921 إنشاء تكتلات رسمية داخل الحزب بعداً معقداً آخر للوضع. ولكن كان هناك أيضاً احتمال أن تؤدي ثورة في ألمانيا إلى تغيير جذري في الوضع العالمي ، وكسر عزل الاتحاد السوفيتي ، وإعطاء العمال السوفييت قوة ثورية متجددة. كما كان من الممكن تماماً أن يتعافى لينين ، ويعود إلى الحياة السياسية ، ويطلق العنان لـ 'القنبلة' ضد ستالين التي ، وفقاً لإملاءات لينين الخاصة ، كان يستعد للمؤتمر الثاني عشر للحزب. كان الوضع على حافة السكين.

استُخدم غياب لينين في 1923-1924 من قبل ستالين وحلفائه ، زينوفييف وكامينيف - وهما بلشفيان قديمان شكل الأمين العام معهما 'ثلاثية' غير شرعية - لترسيخ سلطتهما. هذا التكتل، الذي تحول لاحقاً إلى عصابة من 'سبعة' اجتمع أعضاؤها سراً لوضع أجندتهم الخاصة ، استخدموا كل حيلة متاحة. لكن مناوراتهم ، والديماغوجية ، والتلاعب بالأصوات الحزبية ، وتصنيع تهمة 'التروتسكية' فشلت في حل الموقف بشكل حاسم لصالحهم. إن ما يتضح للغاية من رواية روجوفين هو حقيقة أن مكائد وسرية تكتل ستالين كانت من أعراض عدم استقراره الأساسي. أصر زينوفييف ، على سبيل المثال ، على أنه هو ورفاقه المتآمرين عليه أن يجتمعوا خلف أبواب مغلقة على وجه الخصوص ، بدون تروتسكي  حتى يتمكنوا من 'التأرجح' في ما بينهم. فهم لم يتمكنوا من مواجهة انتقاداته وجهاً لوجه.

شرح روجوفين تفاصيل هذه الانتقادات وتلك التي وجهها المعارضون اليساريون الآخرون في جميع أنحاء الكتاب، ولا سيما في ما يتعلق بالسياسات المحلية ومسألة الديمقراطية الداخلية للحزب ، فإن ما وصل إليه كان لب الحقيقة. و يُعد استخدامه لمصادر أصلية فعالة بشكل خاص، كما لو أننا نسمع في كلمات المعارضين اعتراضاتهم الشرسة. بينما يوثق كل من محتوى وشكل الصراع السياسي الذي بدأ يتكشف ، أبرز روجوفين العلاقة بين انتقادات تروتسكي والمعارضة اليسارية والمشكلة الرئيسية التي واجهت الاتحاد السوفيتي ومفادها كيف أن بلداً متخلفاً ومعزولاً سياسياً حينها، انطلق إلى المستقبل تحت قيادة ثورة الاشتراكيين ولكن بقاعدة صناعية صغيرة دمرتها الحرب واقتصاد فلاحي واسع وبدائي ، يمكن أن تحشد الموارد وتتطور وتقاوم الدول الرأسمالية المحيطة. وكانت روايته معقدة وواضحة.

درس الكتاب كيف استجاب تكتل ستالين بجهود تقويض سلطة تروتسكي سياسياً وتنظيمياً ، بسبب عدم وجود إجابة حقيقية على نقد تروتسكي والمعارضة اليسارية، وفي ظل الأزمات التي أثارتها سياساته. تعتبر أعمال روجوفين عالية  القيمة للغاية من حيث إلقاء الضوء على الأساليب المستخدمة في هذه المغالطةالسياسية.

سيطرت العصابة على أرشيف لينين. و نقلت أشخاصاً مقربين من تروتسكي من مناصب قيادية في الجيش الأحمر. وعلى أساس مراجعة أعضاء الحزب الذين لم يكونوا 'عمالاً بالأصل' ، نفذ الحزب تطهيراً لـ 5763 عضواً في حملة 'أجريت بصرامة خاصة في تلك المنظمات التي أصدرت قرارات لصالح المعارضة'. لقد قامت بالمناورة للتأكد من أنه في المؤتمر الثالث عشر للحزب في مايو 1924 ، لم يكن للمعارضين أصوات حسم،  ومن مساعدي لينين البارزين  'حتى تروتسكي ، وراديك ، وراكوفسكي ، وبياتاكوف ، كأعضاء في اللجنة المركزية ، تم قبولهم في المؤتمر بمجرد تصويت استشاري '. لقد كذبت على الجماهير السوفييتية من خلال طباعة عدد مزيف من أوراق الاقتراع لكي يظهر أنه لم يكن هناك سوى القليل من الدعم للمعارضة على نطاق أوسع في الحزب.

لدى مناقشة المشكلة السياسية المركزية التي واجهت تكتل ستالين ، اقتبس روجوفين عن زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي بوريس سوفارين ، الذي تحدث بصراحة في عام 1924 ، ولاحظ أن 'الغالبية العظمى من الطبقة العاملة هم من التروتسكيين'. على الرغم من كل الهجمات ، تابع سوفارين ، 'استمرت شعبية تروتسكي في النمو ، حيث أدت خطاباته المطولة أمام جمهور متنوع إلى ابتهاج مستمعيه. لقد قيل في كثير من الأحيان أن تروتسكي هو الوحيد الذي يقدم أفكاراً جديدة ، وأنه هو الوحيد الذي درس قضية ما بجدية ، وما إلى ذلك. كان هذا الموقف تجاهه مدهشاً تماماً على خلفية اللامبالاة ، إن لم يكن الازدراء ، التي استقبلت التفاهات والترهات التي ملأت صفحات برافدا. '

الاقتباس من  سوفارين هو واحد فقط من العديد من الاقتباسات التي سيجدها القراء في الكتاب الذي تناول موقف الجماهير العريضة من تروتسكي ، والتقبل داخل الحزب ، وكذلك الكومنترن، لمواقفه. يتحدث عن تأثير نشر دروس أكتوبر في عام 1924 ، نقد تروتسكي اللاذع فشل الحزب الشيوعي السوفيتي في توجيه رفاقه الألمان بشكل صحيح لما واجهوا وضعاً ثورياً ملحاً في بلادهم في عام 1923 ، كتب أحد الشيوعيين ، ' أصبحت دروس أكتوبر صرخة معركة ، لا يصدق العمال أن تروتسكي يمكن أن يعارض اللينينية.

أوضح روجوفين أنه بحلول منتصف عام 1926 ، انضم أكثر من نصف هؤلاء البلاشفة الذين تم انتخابهم لعضوية اللجنة المركزية للحزب في أعوام 1918 و 1919 و 1920 إلى المعارضة. أصبح زينوفييف وكامينيف، اللذان كانا من أتباع ستالين والمهندسين المعماريينالبارزين للهجوم على المعارضة ، مرعوبين للغاية بشأن ما قد فعلاه لدرجة أنهما شكلا تحالفاً مع تروتسكي. يملأ سرد المؤلف لدورهما الإجرامي والمأساوي القارئ بشعور النذير. كل من زينوفييف وكامينيف سيحاكم ويعدم خلال الإرهاب العظيم. في عام 1927 ، بعد انفصالهما عن المعارضة وعودتهما إلى التكتل الحاكم ، سأل زينوفييف ، في إشارة إلى ولائه السابق ، ستالين ، 'هل يعرف الرفيق ستالين ما هو الامتنان؟' فأجاب ستالين ، 'إنه مرض يصيب الكلاب'.

هل كان هناك بديل؟ لاحظ كيف أن السياسات الاقتصادية القومية واليمينية المتبعة في ظل قيادة ستالين أنتجت كارثة على مدار 1926-1927. تم بيع الطبقة العاملة البريطانية من قبل ستالين ، الذي اختار التعاون مع النقابات العمالية البريطانية على أي صراع مستقل على السلطة السياسية من قبل الجماهير. أما في الصين الشيوعية فقد ذُبح الحزب الشيوعي على يد حزب الكومينتانغ  بعد أن تلقى تعليمات من موسكو بتشكيل تحالف معه. لم تتعاف الزراعة ولا الصناعة إلى مستويات ما قبل الحرب ، وكان الدخل القومي للفرد في البلاد يتراوح بين 80 و 85 في المئة فقط من دخل الفرد عام 1913. سيطر أغنى 4 في المئة من الفلاحين على ثلث الآلات الزراعية. ركدت أجور البروليتاريا وأصبح الملايين عاطلين عن العمل. و تطورت أزمة حبوب كاملة في النهاية ، حيث لم تتمكن الدولة من شراء ما يكفي من الغذاء لإطعام المدن. في هذا السياق ، وجد برنامج المعارضة آذان صاغية. إن الاجتماعات ، التي أصبحت الآن غير مصرح بها ، بدأت تُعقد  في موسكو و لينينغراد  وحضرها الآلاف.

وعلى وجه التحديد لأن ستالين وداعميه لم يكن لديهم حل للمشاكل الاقتصادية التي واجهت الاتحاد السوفيتي أو إجابات لمنتقديهم ، كان عليهم دفع المعارضة إلى وضعية فقدان الشرعية. فعلى مدار عامي 1926 و 1927 ، تدفق على الحزب المجندين الجدد عديمي الخبرة. كما إن الاجتماعات التي ، من حيث المبدأ ، كان ينبغي أن تناقش سياسة الحزب على نطاق أوسع بين الأعضاء عُقدت بشكل أقل تواتراً. واشتدت تهمة 'التروتسكية'. تم تحرير تصريحات المعارضين لتوزيعها بطريقة لا يمكن معها معرفة مواقفهم بالكامل ، وتم التصويت من قبل ممثلي الهيئات الحزبية قبل توزيع برامج المعارضة.

تمت إبعاد تروتسكي وكامينيف عن المكتب السياسي كما تم إبعاد زينوفييف عن منصب رئيس الكومنترن ، وسيتم طرد الثلاثة من الحزب لاحقاً. ووجهت تهم 'السلوك الفوضوي' و 'الانشقاق' ضد مؤيديهم في اجتماعات الحزب. كما تم تشجيع معاداة السامية إذ كان كل من تروتسكي وزينوفييف وكامينيف يهوداً. و في المؤتمر الخامس عشر للحزب في ديسمبر 1927 ، أدت المقاطعات الفجة والغبية من الجمهور إلى إغراق خطب المعارضين. و نرى هنا تدمير الثقافة السياسية للحزب البلشفي.

إن وصف  روجوفين غير عادي  ويدفع القارئ المناصر ليتمكن من الانزلاق إلى هذا التاريخ والوقوف إلى جانب المتحدي. من الواضح أن روجوفين نفسه شعر بالمثل ، ويشعر المرء أنه في اللحظات التي يجادل فيها بأن تروتسكي قد ارتكب خطأً من خلال عدم التحدث سريعاً أو بشكل حاد بما فيه الكفاية ضد خصومه ، وذلك لأن روجوفين أدرك أن مصير الثورة اعتمد على نتيجة هذه المعركة و لم يكن هناك شيء محدد بشكل مسبق.

فرضت ظروف العزلة الفكرية  التي عاشها روغوفين قيوداً معينة على بحثه و حدوداً تغلب عليها ، بالتعاون مع اللجنة الدولية للأممية الرابعة ، عندما قطعت حياته بشكل مأساوي بسبب السرطان. وفي حين توجد مادة قيّمة في المجلد حول تأثير الستالينية على بعض أقسام الكومنترن، مثل الحزب الشيوعي البولندي ، ركز العمل على الوضع داخل الاتحاد السوفيتي.

كانت معرفة وفهم روجوفين لعواقب 'الاشتراكية في بلد واحد' حول العالم والمعركة مع المعارضة اليسارية خارج حدود الاتحاد السوفياتي لا تزال تتطور. كان لديه قدرة محدودة للوصول إلى المواد الأولية والثانوية حول هذا الموضوع. كان نقاشه للقضايا الدولية قصير ، ولا سيما في ما يتعلق بالصراع السياسي حول الأحداث في ألمانيا في عام 1923 ، بل كان محيراً بعض الشيء. عندما يتعمق في مسألة 'الاشتراكية في بلد واحد' لستالين وآفاق الثورة العالمية ، كان توصيفه للوضع العالمي ، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ، أحادي الجانب. فقد بالغ في تقدير الاستقرار الذي تحقق في ظل الهيمنة الأمريكية وحجم تنازلات وإصلاحات الطبقة الرأسمالية. وصرح بشكل غير صحيح أن تروتسكي اعتقد أن الثورة الاشتراكية في الولايات المتحدة 'في المستقبل المنظور لم تكن واقعية'.

على الرغم من هذه الحدود ، فإن دورة روجوفين المكونة من سبعة مجلدات فريدة من نوعها في علم التأريخ لصعود ستالين والستالينية. لهذا السبب ، تم تجاوزه في صمت شبه تام من قبل الأكاديميين إذ تعارض بحثه مع أبحاث قائمة طويلة من العلماء ، الذين ، من وجهة نظر أو أخرى ، جادلوا بالتناوب في أن الصراع بين تروتسكي وستالين كان أكثر بقليل من عاصفة في إبريق الشاي ، وأن الستالينية كانت مظهراً من مظاهر المشاعر الراسخة داخل الجماهير السوفييتية ، أو أن البديل الحقيقي لستالين لم يكن تروتسكي والمعارضة اليسارية ، بل الجناح اليميني للحزب المتجمع حول نيكولاي بوخارين - أو مزيج من الثلاثة.

تختلط  تقديس ستالين مع كراهية تروتسكي في كل هذا. هناك العديد من الاختلافات في ما بينها ، لكن أعمال العلماء مثل شيلا فيتزباتريك ، وجيه آرتش جيتي ، وستيفن إف كوهين ، وستيفن كوتكين ، وروبرت سيرفيس ، وإيان تاتشر وآخرين ، تشترك في سمة واحدة: رفض الاعتراف بتروتسكي والمعارضة اليسارية كبديل اشتراكي للستالينية ،و تجسيد للنضالات الثورية للطبقة العاملة، وقوة سياسية كان انتصارها احتمالاً موضوعياً.

لم يخف روجوفين يخفي تعاطفه السياسي بل كان صريحاً مع قرائه. حقق عمله الموضوعية التاريخية ليس بافتراض التظاهر الزائف باللامبالاة بالأحداث التي تجري مراجعتها ، ولكن من خلال الكشف عن القوى الاجتماعية والطبقية الكامنة وراء الصراعات السياسية التي دارت في داخل الحزب الشيوعي في العقد الثالث  من القرن الماضي. كانت همجية الستالينية مدفوعة بحدة وشراسة رد الفعل البيروقراطي القومي على الطبقة العاملة وتطلعاتها الثورية ، ونضالها من أجل المساواة البشرية. وقد مثل تروتسكي والمعارضة اليسارية هذه الطبقة ومشاعرها. بالنسبة لجميع الضحايا الذين تم ابتلاعهم من قبل الآلة البيروقراطية ، كانوا دائماً الهدف الرئيسي للقمع الستاليني. ةروجوفين هو المؤرخ الوحيد الذي فهم هذا تماماً.

ظهرت الاتجاهات المهيمنة في علم التأريخ الروسي والسوفيتي خلال الأربعين سنة الماضية في حقبة من ردود الفعل السياسية. كتب روجوفين هذا العمل بينما كان الحزب الشيوعي في طور حل الاتحاد السوفيتي وسرقة كل ما لم يكن مقفلا بحزم. وكانت الصحافة مليئة بالاحتفالات البشعة بفضائل عدم المزعومة لعدم المساواة كشكل جديد من 'العدالة الاجتماعية' ، التي   كتبهاالعديد من المثقفين السوفييت الذين توقعوا أنهم سيحصلون على المزيد. كان تركيز روجوفين على اللامساواة والبيروقراطية في نزاعات العقد الثالث من القرن العشرين بمثابة نظرة ثاقبة للحاضر السوفياتي كما كان في الماضي السوفيتي المبكر.

جادل المؤلف في مقدمته ، بأن 'المفاهيم الخاطئة للحقائق الحقيقية' مثل 'التركيز المنحاز المفرط المغرض وتفسير بعض الحقائق التاريخية وقمع الآخرين' ، ليست 'نتيجة خطأ صادق بقدر ما هي نتيجة الإيفاء الواعي أو غير الواعي للمطالب السياسية '. وأصر على أن التزييف التاريخي هو 'سلاح أيديولوجي لخداع الناس من أجل تنفيذ سياسات رجعية'. وهكذا ، فإن استعادة الستالينيين للرأسمالية في الاتحاد السوفيتي ، مع كل الدمار الاجتماعي الذي أحدثته ، تطلب أكاذيب جديدة وتشويهات جديدة حول المعارضة الاشتراكية ،و حول الاختلافات بين أسلاف الثورة وسفاحيها.

اليوم ، مع وصول التفاوت الاجتماعي إلى مستويات لم نشهدها من قبل ، تظهر تزويرات جديدة. ففي الولايات المتحدة ، يخضع التاريخ الأمريكي لإعادة تفسير عنصرية تنكر أن الطبقة هي الخط الفاصل الأساسي في المجتمع وترفض وجود أي شيء تقدمي بشأن الثورة الأمريكية والحرب الأهلية. أما في ألمانيا ، فيتم تبييض جرائم هتلر والنازيين ، مع اندفاع السياسة اليمينية المتطرفة إلى الأمام. و في الفلبين ، فإن جرائم الستالينية هي التي تم تبييضها لصالح النخبة السياسية المرتبطة بالإمبريالية الأمريكية،و يمكن للمرء أن يضيف المزيد إلىالقائمة.

لا يمكن لرد الفعل السياسي أن يتسامح مع الحقيقة. الكذب عن التاريخ ليس خطأ بريئ أبدا. هل كان هناك بديل؟ ليس مجرد سرد قوي لتاريخ النضال من أجل الاشتراكية ، إنه تحذير للطبقة العاملة بشأن النوايا السياسية لأولئك الذين يروجون للأكاذيب التاريخية وعواقبها.

The English language version of the book can be ordered here from Mehring Books.

Loading