تشهد أوروبا ثورة اجتماعية مضادة لم نشهد لها مثيلاً منذ العقد الرابع من القرن الماضي. تُدمر مئات الآلاف من الوظائف ذات الأجور المجزية، إلى جانب تفكيك المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية والإنفاق الاجتماعي، الذي يعتمد عليه ملايين الناس في معيشتهم. في الوقت نفسه، تُنفق مبالغ طائلة على التسلح والحرب، ولإثراء الأثرياء بالفعل.
دعا صندوق النقد الدولي في أحدث تقرير له عن الوضع الاقتصادي في أوروبا، إلى 'تخفيضات كبيرة في النموذج الأوروبي والعقد الاجتماعي' لسد ثغرات الميزانية الناجمة عن زيادة الإنفاق العسكري والمساعدات للبنوك خلال الأزمة المالية وأزمة فيروس كورونا. حمل التقرير عنواناً مناسباً: 'كيف يمكن لأوروبا أن تدفع ثمن ما لا تستطيع تحمله؟'
يشهد قطاع الصناعة، بشكل متزايد، في الإدارة، مذبحة وظيفية غير مسبوقة. وتُستغل التطورات في مجال التنقل الكهربائي وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، التي من شأنها تسهيل الحياة الاجتماعية بشكل كبير وحل مشاكل اجتماعية كالفقر وأزمة المناخ، لزيادة الأرباح وخوض صراع مرير على الأسواق والمواد الخام وإعادة تقسيم العالم، كل ذلك على حساب الطبقة العاملة.
هذا ليس ركوداً اقتصادياً سيتبعه انتعاش في نهاية المطاف، بل أزمة هيكلية. لقد أفلس النظام الرأسمالي بأكمله. وعادت جميع الأعراض التي أدت إلى الفاشية والحربين العالميتين في القرن الماضي: المضاربة الجامحة، والصراع المرير على المواد الخام والأسواق، والحروب التجارية، والحروب، والديكتاتورية.
ألمانيا في قلب الأزمة
تُعد ألمانيا، التي تُمثل ما يقرب من ربع الناتج الاقتصادي لجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين، بناتج محلي إجمالي بلغ 4.3 تريليون يورو، في قلب الأزمة. وما كان يُعتبر لفترة طويلة قوة الاقتصاد الألماني، أي حصته الكبيرة من الصادرات وفوائضه التجارية الخارجية المرتفعة، يُثبت الآن أنه نقطة ضعفه. وتُؤثر الرسوم الجمركية العقابية التي فرضها ترامب وصعود الصين كمنتج للتكنولوجيا الفائقة سلباً على الاقتصاد الألماني بشكل خاص.
انخفضت الصادرات إلى الولايات المتحدة بنسبة 7.4% في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام. وقد فرض ترامب رسوماً جمركية بنسبة 15% على معظم الواردات من أوروبا، بالإضافة إلى 50% إضافية على المكونات المعدنية. ونتيجة لذلك، لم يعد من الممكن بيع العديد من السيارات والآلات الألمانية في الولايات المتحدة.
بلغ العجز التجاري للبلاد مع الصين مستوىً قياسياً وصل إلى 87 مليار يورو هذا العام. وبين عامي 2010 و2022، تضاعفت الصادرات الألمانية إلى الصين، لتصل إلى ذروة بلغت 107 مليارات يورو. منذ ذلك الحين، انخفضت إلى 80 مليار يورو، بينما تواصل الواردات من الصين نموها. ولأول مرة، تحقق الصين فائضاً تجارياً هذا العام، ليس فقط في السلع الاستهلاكية، بل و في السلع الرأسمالية.
انخفضت حصة سوق السيارات الألمانية الكبرى الثلاث، فولكس فاجن وبي إم ف ومرسيدس، من 22.6% إلى 16.7% في الصين، ومن 21.7% إلى 19.3% عالمياً خلال العامين الماضيين. ويزداد هذا الانخفاض سوءاً في السيارات الكهربائية.
منذ عام 2019، لم ينم الاقتصاد الألماني إلا بنسبة 0.3%. وخلال الفترة نفسها، نما الاقتصاد الصيني بنسبة 27%، والاقتصاد الأمريكي بنسبة 12%، على الرغم من أن النمو في الولايات المتحدة يعتمد إلى حد كبير على مكاسب المضاربة. ويتوقع المجلس الألماني للخبراء الاقتصاديين نمواً بنسبة 0.9% فقط للعام المقبل.
تضع الشركات العبء الأكبر لهذه الأزمة على عاتق الطبقة العاملة. ففي القطاع الصناعي وحده، فُقد 160 ألف وظيفة خلال الاثني عشر شهراً الماضية، أي بمعدل 3000 وظيفة أسبوعياً. وتتأثر بشكل خاص الصناعات الثلاث الأكبر، الهندسة الميكانيكية، والسيارات، والمواد الكيميائية، التي توظف مجتمعة أكثر من 2.5 مليون شخص.
وفقًا لدراسة أجراها المعهد الاقتصادي الألماني (IW)، فقد قطاع صناعة السيارات والموردين، الذي يوظف ما مجموعه 760 ألف شخص، 55 ألف وظيفة منذ عام 2019، ومن المتوقع أن تتبعه 90 ألف وظيفة أخرى بحلول عام 2030. وفي حين أن الشركات الكبرى، مثل فولكس فاجن وبوش وZF، تُلغي عشرات الآلاف من الوظائف أو تنسحب تدريجياً من أوروبا، كما فعلت فورد وستيلانتس (أوبل)، فإن الموردين الأصغر حجماً يُفلسون بأعداد كبيرة.
شكك موريتز شولاريك، رئيس معهد كيل للاقتصاد العالمي، فيما إذا كانت شركات تصنيع السيارات الألمانية الكبرى الثلاث ستظل موجودة بشكلها الحالي في نهاية العقد. سيؤثر هذا على أكثر من 600 ألف وظيفة ومئات الآلاف الأخرى التي تعتمد عليها بشكل مباشر أو غير مباشر.
الوضع مشابه في الهندسة الميكانيكية، التي توظف حوالي مليون شخص، يصنع الكثير منهم منتجات عالية التخصص للسوق العالمية. هنا، انخفض الإنتاج بنسبة 7% في عام 2024 و5% في عام 2025. وفي قطاع الكيماويات، الذي يُوظّف 326 ألف شخص، انخفضت المبيعات بنسبة 10% في عام 2022 و11% في عام 2023. وتعمل المصانع الآن بنسبة 71% فقط من طاقتها الإنتاجية، ويُعتبر 82% منها مربحاً. ويواجه قطاع الصلب خطر التصفية الكاملة، إذ تُواجه 55 ألف وظيفة من أصل 70 ألف وظيفة متبقية تهديداً خطيراً.
الصناعة الوحيدة التي لا تزال تنمو في ألمانيا هي صناعة الأسلحة. فعلى مدى السنوات الخمس المقبلة، ستستثمر ألمانيا تريليون يورو في صناعة الموت. زادت شركة راينميتال، الرائدة في تلك الصناعة، مبيعاتها بنسبة 38% العام الماضي وبنسبة 30% هذا العام. وارتفع سعر سهمها اثني عشر ضعفاً منذ عام 2022 وثلاثة أضعاف منذ بداية هذا العام.
بينما تُدمر سبل عيش العمال وأسرهم وتُحرم مناطق بأكملها من أساسها الاقتصادي، لا يكتفي الأغنياء ويواصلون إثراء أنفسهم رغم الأزمة. يوجد الآن 3900 شخص في ألمانيا بأصول تقدر بمئات الملايين، بزيادة قدرها 500 شخص مقارنة بالعام الماضي.
على الرغم من انخفاض الأرباح وخفض الوظائف والحاجة الملحة للاستثمار، تعيد مرسيدس شراء أسهمها الخاصة بقيمة ملياري يورو، مما أدى إلى ارتفاع سعر سهمها. بينما تُسرّح الشركة ما يصل إلى 20 ألف وظيفة، يجني أعضاء مجلس الإدارة ثماراً مضاعفة: من خلال زيادة رواتبهم البالغة مليون يورو والمرتبطة بسعر السهم، وبصفتهم مالكين لكتل كبيرة من الأسهم. يمتلك الرئيس التنفيذي كالينيوس وحده حوالي 50 ألف سهم من أسهم مرسيدس.
الحرب في الداخل وفي الخارج
تواجه الطبقة الحاكمة في ألمانيا الأزمة الاقتصادية بنفس الأساليب التي اتبعتها في العقد الرابع من القرن الماضي أي بإعلان الحرب على الطبقة العاملة والعودة إلى تقاليدها العسكرية الإجرامية.
فقبل عشر سنوات، أعلنت الحكومة بالفعل أن ألمانيا تسعى إلى لعب دور عسكري عالمي يتناسب مع وزنها كثالث أكبر اقتصاد. ثم شكّل الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي أثاره حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ذريعةً مُرحّباً بها لوضع تلك الخطط موضع التنفيذ.
قررت الحكومة السابقة بقيادة أولاف شولتس (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) إنشاء صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لإعادة تسليح الجيش الألماني. أما الحكومة الحالية بقيادة فريدريش ميرز، من الحزب الديمقراطي المسيحي، فقدّمت عشرة أضعاف ذلك المبلغ على شكل قروض، وتعتزم بناء أقوى جيش تقليدي في أوروبا. وبحلول عام 2029 على أبعد تقدير، من المفترض أن يكون هذا الجيش قادراً على شن حرب ضد روسيا. وفي ذلك العام، سيرتفع الإنفاق العسكري الألماني إلى 168 مليار يورو، أي حوالي ستة أضعاف ما كان عليه في بداية القرن.
أنفقت ألمانيا 76 مليار يورو حتى الآن لدعم الحرب في أوكرانيا فقط، الأمر الذي جعلها أكبر مانح بعد الولايات المتحدة. هدفها ليس 'الدفاع' أو 'الحرية'، بل الهيمنة الاقتصادية في أوروبا الشرقية وأوكرانيا وإخضاع روسيا بمواردها المعدنية الهائلة، أي نفس الأهداف الحربية التي سعت إليها ألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
تُحمّل الحكومة الطبقة العاملة والمتقاعدين والمحتاجين تكاليف هذا التسلح الهائل والهجوم الحربي. هذا الصيف، أعلن المستشار ميرتز أن دولة الرفاه بشكلها الحالي ما عادت مجدية مالياً. وحذّرت وزيرة الاقتصاد كاترينا رايشه من أن المعاشات التقاعدية 'لن تكفي على الأرجح للعيش لاحقاً، على الرغم من المساهمات الكبيرة'. وتدعو إلى حياة عمل أطول و'أجندة 2030' وهو 'برنامج شامل قائم على مبدأ المزيد من المنافسة، وتقليل دور الحكومة'.
وحتى الحفاظ على مستوى المعاش التقاعدي الحالي، الذي يقف بعد 45 عاماً من المساهمات المتوسطة عند 48% من الراتب المتوسط، وبالتالي أقل كثيراً من خط الفقر، مرفوض من جانب قطاعات من الحكومة.
أشارت صحيفة فاينانشال تايمز إلى 'الوهم الخطير القائل بإمكانية تعايش المزايا الاجتماعية السخية مع الإنتاجية العالية' كسببٍ لوعكة ألمانيا، وحثّتها على أن تكون قدوة إذ يجب على ألمانيا، 'ركيزة الانضباط المالي والقوة الصناعية في القارة'، أن 'تُعلّم أوروبا كيفية مواجهة حقيقة دول الرفاه، قبل أن تنهار تحت وطأة ثقلها'.
منظور اشتراكي
يشهد العالم هجمةً شرسة على الوظائف والمعاشات التقاعدية والمكاسب الاجتماعية التي حققتها الطبقة العاملة بعد الحرب العالمية الثانية، وتواجه تلك الهجمة مقاومةً متزايدة.
ففي فرنسا، يتمسّك الرئيس ماكرون بإصلاحه لنظام المعاشات التقاعدية، على الرغم من أن الاحتجاجات الجماهيرية أجبرته على استبدال رئيس وزرائه خمس مرات. ,وما تمكن 'رئيس الأغنياء' المكروه في منصبه إلا بفضل دعم الاشتراكيين له. ففي إيطاليا وبلجيكا والبرتغال، ستشهد الأسابيع المقبلة إضرابات عامة واحتجاجات جماهيرية ضد التخفيضات الاجتماعية وميزانيات التقشف.
وفي الولايات المتحدة، خفّض الرئيس ترامب الإعانات الاجتماعية التي يعتمد عليها ملايين الناس. وأعلنت الشركات الأمريكية عن تسريح 1.1 مليون عامل هذا العام. و في الصين، فُقدت ملايين الوظائف في السنوات الأخيرة بسبب الأتمتة وأزمة قطاع البناء، وبلغ معدل بطالة الشباب في المدن 19%. في الدول الأفريقية والآسيوية، يحتجّ جيل Z منذ ثلاث سنوات على انعدام آفاق المستقبل.
مع ذلك، افتقرت تلك الحركة التي تضمّ الطبقة العاملة والشباب الدوليين إلى منظورٍ عملي.
أصبحت النقابات العمالية ذات التوجهات الخاضعة للشركات، التي تفاوضت على تسويات اجتماعية في إطار 'الشراكة الاجتماعية'، رأس حربة التخفيضات الاجتماعية وعمليات التسريح الجماعي. ففي ألمانيا، طوّر اتحاد النقابات العمالية (DGB) ومجالس العمل التابعة له خططاً لتسريح العمال في إطار 'المشاركة في صنع القرار' المُنظّم قانونياً، وقمع مقاومة عمليات التسريح. يجلس بيروقراطيو النقابات في مجالس الإشراف على الشركات، وغالباً ما ينتقلون إلى السلطة التنفيذية.
لا يقتصر سبب ذلك على الفساد المتفشي بلا شك بين مسؤولي النقابات وأعضاء مجالس العمال ذوي الرواتب العالية فحسب، بل يمتد إلى المنظور القومي الذي تقوم عليه النقابات. يهدف هذا المنظور إلى تعزيز القدرة التنافسية لشركاتها الخاصة، لأنه، وفقًا لمنطق النقابات، هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوظائف.
وبناءً على ذلك، توافق النقابات على تسريح العمال وخفض الأجور وسوء ظروف العمل. وتستغل كل موقع على حدة، وتفرق العمال عن زملائهم في البلدان الأخرى، وتقاطع أي مقاومة جادة. ومن الأمثلة النموذجية على ذلك ما يُسمى بحرب المزايدة بين مصنعي فورد في سارلويس بألمانيا وألموسافيس بإسبانيا، حيث تنافست مجالس العمال على تقديم تنازلات، حتى أُغلق كلا المصنعين إلى حد كبير.
كما تدعم النقابات سياسات الحرب التي تنتهجها حكومتها. ففي حين روجت نقابة IG Metall لشعار ' تحويل السيوف إلى المحاريث'، فإنها تدعو الآن إلى تحويل مصانع السيارات إلى مصانع دبابات.
لا يمكن الدفاع عن الوظائف والمكاسب الاجتماعية إلا على أساس منظور اشتراكي يضع الاحتياجات الاجتماعية للطبقة العاملة فوق مصالح ربح الرأسماليين ويربطها بالنضال ضد الحرب والرأسمالية.
السبب الأعمق للأزمة الرأسمالية هو تناقض الإنتاج العالمي الحديث، الذي يوحد مئات الملايين من العمال في عملية عابرة للحدود الوطنية، مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والدولة القومية التي تقوم عليها الرأسمالية.
تسعى القوى الإمبريالية إلى حل هذا الصراع بإعادة تقسيم العالم بالقوة على حساب منافسيها، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى حرب عالمية ثالثة. هذا هو جوهر حركة ترامب 'لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً' (MAGA) وكل من يحاكيها. تستطيع الطبقة العاملة، التي تنتج كل الثروة الاجتماعية، حل هذا الصراع بالإطاحة بالرأسمالية، وتجاوز الحدود الوطنية، وتأميم الشركات الكبرى والثروات.
هذا مهمٌّ بشكل خاص في أوروبا، المتشابكة اقتصادياً والمنقسمة إلى أكثر من 40 دولة. يجب استبدال الاتحاد الأوروبي، الذي يُمثّل أداةً في يد أقوى الدول والشركات، بالولايات الاشتراكية المتحدة الأوروبية.
يجب على العمال والشباب أن يتحدوا في لجان عمل، تعمل بشكل مستقل عن النقابات العمالية وجميع الأحزاب المدافعة عن الرأسمالية، وأن يبنوا حزب المساواة الاشتراكية والمنظمات الشقيقة له في اللجنة الدولية للأممية الرابعة لتصبح أحزاباً اشتراكية جماهيرية.
