العربية

وفاة حسني مبارك دكتاتور مصر،طوال ثلاثين عاماً، المدعوم من الولايات المتحدة، عن واحد وتسعين عام من العمر.

نُشر هذا المقال في الأصل باللغة الإنجليزية في 26 فبراير 2020

مات حسني مبارك، القائد السابق للقوى الجوية، الذي حكم مصر بقبضة من حديد على مدى ثلاثة عقود من السنين وأطيح به بانتفاضة شعبية عام 2011، يوم الخميس في مشفىً عسكري في القاهرة وهو في الحادية والتسعين من العمر. 

وفي حين كان مكروهاً من جماهير المصريين  وأحاط به العار في آخر حياته بسبب سجنه وإدانته باتهامات الفساد، إنما مات بعد أن تم ضمان شرعيته من خلال النظام العسكري القائم الذي يقوده المشير عبد الفتاح السيسي وهو نظام أشد قمعاً من ذلك الذي ترأسه مبارك بنفسه.

صورة الرئيس المصري حسني مبارك

وأصدر نظام السيسي تصريحاً أعلن فيه أن مبارك كان" قائداً عسكرياً وبطلاً  حربياً"، في حين ما زال  يلتزم الصمت حول العقود الثلاثة التي أمضاها على رأس الدولة المصرية. كما أعلنت الحكومة عن تشييعه في جنازة عسكرية لم يحدد تاريخها.

وجاءت التعزية القلبية الأكثر حرارة بالمستبد المكروه من الحكومة الإسرائيلية اليمينية التي حافظ نظام مبارك على  اتفاق الصلح المنفرد معها  على حساب الشعب الفلسطيني .وقال الوزير الأول بنيامين نتنياهو في تصريحه:"باسم شعب وحكومة إسرائيل، أود التعبير عن أسفي الشديد لرحيل الرئيس حسني مبارك، الرئيس مبارك، صديقي الشخصي، كان زعيماً قاد شعبه إلى السلام والأمن، وإلى السلم مع إسرائيل.

وقعت وفاة مباراك بعد شهر واحد من الذكرى التاسعة للثورة المصرية عام 2011. وشهدت ذكرى الخامس والعشرين من يناير موجة من القمع الحكومي في القاهرة، مع وجود شرطة كثيف في كل ميدان رئيسي لردع أياً كان من الاحتفال بالانتفاضة الشعبية التي أطاحت بمبارك.  وقبل حلول الذكرى نفذت قوات الأمن غارة وأغلقت المطاعم الكبرى في قلب القاهرة، وفتشت حقائب الزبائن وهواتفهم الجوالة، كما تم توقيف أي شخص عٌثر على صفحته في الفيسوك على رسائل أو منشورات فيها تلميحات سياسية وجرى نقله في عربات الشرطة، كما تم توقيف من رفضوا فتح هواتفهم.  ألقوا القبض على أي شخص وجدوه حتى لو لم يكن في حوذته سوى  رسائل سياسية قليلة أو منشورات  على صفحات فيسبوك ونقلوه بعيداً في سيارات الشرطة   .كما اعتقلوا الأشخاص الذين رفضوا تسليم هو اتفهم.

فمنذ الاستيلاء على السلطة بانقلاب دموي عام 2013  والإطاحة  بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي من جماعة الإخوان المسلمين وقتل أكثر من ألف من أنصاره بما في ذلك نساء وأطفال، قام نظام السيسي بسجن ما يقارب 60 ألف شخص، وحكم على أكثر من ألف بالإعدام، وتتم ممارسة التعذيب بشكل منهجي في السجون. 

وفي مارس 2017، نقضت المحكمة العليا المصرية بأمر من الحكومة الإدانة التي صدرت بحق مبارك عام 2012 وحكم السجن المؤبد بتهمة  قتل  أكثر من 800 من المتظاهرين غير المسلحين خلال الأيام الأولى للثورة المصرية. وفي حين تم إخلاء سبيله على الفور إنما  فشلت المحكمة في نقض إدانته بتهم الفساد، وكان هذا دون أدنى شك بأوامر من نظام السيسي الحريص على صرف الانتباه عن عمليات الاختلاس والفساد الخاصة به.

كانت ظروف اعتقال مبارك الذي سٌجن في مشفى عسكري وكان يستقبل بحرية زيارات من العائلة ومن رفاقه متناقضة تماماً مع ظروف سجن الرئيس المبعد محمد مرسي من جماعة الإخوان المسلمين، الذي سجن طوال سنوات في ظروف أقرب إلى التعذيب وسقط ميتاً وهو في قفص المعتقلين في العام الماضي خلال محاكمته.  

كان بروز مبارك مرتبطاً بتطور الحركة البورجوازية الوطنية العربية التي قادها البكباشي جمال عبد الناصر. ولد مبارك عام 1928في عائلة بواب في قرية في الريف في محافظة المنوفية الواقعة في دلتا النيل، وارتاد الكلية العسكرية والتحق بالقوى الجوية عام 1950. حدث هذا قبل عامين من حركة الضباط الأحرار، وهي حركة معارضة من ضباط صغار خرجوا من صفوف البورجوازية الصغيرة المصرية وسبق لهم خوض الحرب ضد إسرائيل عام 1948 وأطاحوا، بانقلاب ناجح، بالملك فاروق الذي كان دمية في أيدي البريطانيين. وبعد أحد عشر شهراً من الانقلاب، ألغى النظام الخاضع للعسكر  المَلَكية، وأقام الجمهورية المصرية وباشر إصلاحاً زراعياً محدوداً استند على إعادة توزيع الأراضي التي كانت من أملاك العائلة الملكية وفئات الأرستقراطية. 

وفي عام 1954 أصبح عبد الناصر رئيساً وظل في منصبه حتى وفاته عام 1970. وقد ربح تأييداً شعبياً جماهيرياً مع تأميم قناة السويس، الذي تسبب بقيام إسرائيل وبريطانيا وفرنسا بغزو مصر إبان أزمة السويس عام 1956، وفشل الغزو إلى حد كبير بفضل إجراءات الضغط التي طبقتها واشنطن على القوتين الاستعماريتين السابقتين.

طبق عبد الناصر برنامج " اشتراكية عربية" في البلاد كما تابع نهج حركة قومية عربية وحركة عدم الانحياز في الخارج، وتمكن عبد الناصر من تطبيق برنامج إصلاحات اقتصادية واجتماعية محدودة، وأمم العديد من الصناعات والمصارف في البلاد. وتم هذا بفضل الظروف التاريخية المحددة للطفرة الاقتصادية الرأسمالية في الفترة التالية للحرب من جهة أولى، وقدرة الحركات البورجوازية الوطنية على الاستفادة من التوازن بين الولايات المتحدة وبيروقراطية موسكو الستالينية من جهة أخرى.

وكان من الأمور الأساسية لتعزيز حكمه حملة القمع عديمة الرحمة ضد الحركة القوية للطبقة العاملة المصرية حيث تم إعدام قادة مناضليها أو سجنهم، وكان من بينهم العديد من أعضاء الحزب الشيوعي الستاليني، الذين استندوا إلى النظرية الستالينية الخاصة بمرحلتي الثورة، وعملوا على إخضاع الطبقة العاملة للناصرية وفي النهاية حل الحزب نفسه ليندمج في حزب عبد الناصر، الحاكم، المعروف تحت اسم الاتحاد الاشتراكي العربي.

وفي حين سعت حركات بورجوازية وطنية عربية أخرى إلى محاكاة الناصرية، لكن جهود الرئيس المصري  لبناء دولة عربية موحدة أدخلته في صراع مصالح مع النخب البورجوازية الوطنية الحاكمة التي سعت للمحافظة على الحدود القديمة وعلى هياكل الدولة الموروثة عن الاستعمار بوصفها ضمانة سلطتها الخاصة وامتيازاتها.

وفي حين حافظ عبد الناصر على قاعدة شعبية، حيث شارك في جنازته قرابة خمسة ملايين شخص حين وفاته، لكن هزيمة مصر أمام إسرائيل في حرب 1967، والتكلفة الهائلة لتدخله العسكري في اليمن  أثرا على كل من مواقفه المناهضة للإمبريالية وعلى مواقفه الاقتصادية الوطنية في بلاده مما تسبب بهدر الموارد الضرورية للإصلاح الاجتماعي نتيجة نفقات الحرب  وتباطؤ حاد في النمو الاقتصادي الذي شهدته البلاد في السنوات الأولى من العقد السادس في القرن العشرين.

وقبل وفاته رحب  عبد الناصر بخطة اتفاق رعتها الولايات المتحدة، المعروفة بمشروع روجرز التي طالبت بوضع حد للعداء مع إسرائيل وانسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية المحتلة. لكن تم رفض المشروع من قبل إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وكل الدول العربية باستثناء الأردن. وفي الوقت ذاته خفف الرقابة على الشركات الكبرى الرأسمالية الخاصة وحد من احتكار الدولة للتجارة الخارجية.

وخلف ناصر عضو آخر في حركة الضباط الأحرار هو أنور السادات الذي سرع من استدارة الحكومة المصرية باتجاه اليمين مع المحافظة على رقابتها الاستبدادية. تخلى السادات عن الادعاءات الاشتراكية الناصرية، وفتح البلاد أمام الرأسمال الأجنبي وخفض الدعم الحكومي، مولداً انتفاضة الجياع عام   1977وأوجد الظروف الملائمة للإثراء السريع والفساد للفئات المرتبطة بالحكومة من النخبة المصرية بالتزامن مع تشديد انعدام المساواة الاجتماعية.

كما قطع الروابط الوثيقة مع الاتحاد السوفيتي  وتحول بشكل حاسم إلى الاصطفاف وراء إمبريالية الولايات المتحدة. وتوج هذا بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، التي لم تمثل اتفاق سلام في الشرق الأوسط، بل مثلت بالأحرى تقارباً بين الحكومة المصرية البورجوازية وكل من تل أبيب وواشنطن على حساب الشعب الفلسطيني.

وبرز مبارك بالتحديد خلال هذه الاستدارة اليمينية بقيادة السادات حيث ترقى من منصب رئاسة أركان القوى الجوية إلى منصب قائد القوى الجوية وبعدها إلى منصب نائب وزير الدفاع عام 1972 ليصل إلى منصب نائب رئيس الجمهورية عام 1975.

وتولى في أكتوبر 1981 رئاسة الدولة عندما قام  جندي إسلامي النزعة ، معاد لاتفاق كامب ديفيد ، باستغلال عرض عسكري ، بإطلاق النار وقتل السادات وأرداه قتيلاً وهو جالس في المنصة الرئيسية بصحبة مبارك الذي لم يصب نسبياً بأي خدش.

تابع مبارك استدارة السادات باتجاه اليمين وسرع إيقاعها، وعزز تحالفاً متيناً مع واشنطن التي التزمت بتقديم دعماً مالياً بقيمة 1.2 مليار $ سنوياً وهو الأعلى بعد الدعم المقدم إلى إسرائيل.  كما طبق برامج التعديلات الهيكلية التي فرضها صندوق النقد الدولي وتضمنت إلغاء احتكارات الدولة وخفض الدعم الحكومي، وخفض الضرائب على الشركات وتوسيع القطاع الخاص. وكانت النتائج الاجتماعية مدمرة بالنسبة للطبقة العاملة، حيث ازدهر الفساد وراكمت النخبة الحاكمة ثروات متصاعدة باستمرار.  ولجأ مبارك إلى الحكم عبر ديكتاتورية قمعية بهدف المحافظة على هذا النظام الاجتماعي.

ثمة استمرارية لا يمكن إنكارها بين القمع الديكتاتوري للطبقة العاملة في ظل حكم عبد الناصر الذي طبقها باسم الاشتراكية العربية والقومية وتلك الطرق التي استخدمت من قبل كل من السادات ومبارك، والسيسي حالياً، كما انضم الجيش المصري ، بالتوافق مع مصالح الطبقة البرجوازية التي يدافع عنها ، بحزم إلى مدار الإمبريالية الأمريكية. إن مصير الناصرية قد اتبع مساراً موازياً لكل الحركات البورجوازية الوطنية وما يسمى المسارات المستقلة للتطور الاقتصادي في مختلف أرجاء العالم التي كانت مٌستَعمَرة.

ومن اللافت للاهتمام أن تأريخ محطات حياة مبارك الذي نشره موقع الأهرام أون لاين التابع للحكومة أغفل الإشارة إلى المراحل ما بين عام 1950 تاريخ التحاقه بالقوات الجوية و عام 1982 تاريخ احتفاله، بوصفه رئيساً، باستعادة السيطرة على شبه جزيرة سيناء من إسرائيل. ومن الواضح أن كل التاريخ منذ بروز عبد الناصر إلى اكتمال تقارب القاهرة مع إمبريالية الولايات المتحدة يظل موضوعًا متفجرًا إلى حد يجعل البرجوازية المصرية تتجنب حتى ذكره.

لكن اشتداد حدة التفاوت الاجتماعي والعداء لنظام تتم إدارته عبر عمليات اغتيال تنفذها شرطة الدولة، والاعتقال والتعذيب، بالترافق مع إثراء كبار الضباط ،بما في ذلك عائلة مبارك، اندلع أخيراً في انتفاضة الجماهير عام 2011 التي شهدت تدفق ملايين البشر في مختلف أرجاء مصر إلى الشوارع. 

وفي وقت تركز فيه الاهتمام الدولي على الصدامات الهائلة  في ميدان التحرير، إنما الدور الحاسم في إسقاط مبارك كان من قبل الطبقة العاملة المصرية، التي نفذت موجة إضرابات وعمليات احتلال للمعامل في سائر أنحاء مصر، وكان ذلك تتويجاً لفترة طويلة من الإضرابات والاحتجاجات من قبل العمال ضد خفض الانفاق الاجتماعي، والخصخصة، ونهب أصول الدولة من قبل النخبة الحاكمة الفاسدة والمجرمة.

كان لنجاح الطبقة العاملة المصرية في الإطاحة بالديكتاتورية المدعومة من قبل الولايات المتحدة التي حكمت مصر ثلاثين عاماً أهمية دولية ضخمة دشنت حقبة جديدة من النضال الثوري الشامل. إنما ومنذ بداية الثورة المصرية، كانت المشكلة الأساسية، وما تزال، غياب قيادة ثورية سياسية للطبقة العاملة.

ففي اليوم السابق على إجبار مبارك على التنحي عن السلطة، حذر رئيس هيئة التحرير الدولية لموقع الإشتراكية العالمية،دافيد نورث، في عمود افتتاحي وكتب " إن أعظم خطر  يواجه العمال المصريين يتمثل في أنه بعد أن كانت هي القوة الاجتماعية الرئيسية التي انتزعت السلطة من أيدي الديكتاتور العجوز، إنما لن يتغير شيئاً سياسياً جوهرياً باستثناء أسماء ووجوه شخصيات القادة". 

وتابع :" بكلمات أخرى، فإن الدولة الرأسمالية ستظل سليمة. وستظل السلطة السياسية والتحكم بالاقتصاد في أيدي الرأسماليين المصريين، المدعومين من قبل العسكر، ومن قبل سادتهم الإمبرياليين في أوروبا وفي شمال أمريكا. وسيتم إنكار وعود الديمقراطية والإصلاح الاجتماعي عند أول فرصة، وسيتم فرض نظام قمع همجي جديد. 

"ليست هناك مبالغة في هذه المخاطر حيث أثبت كل تاريخ النضال الثوري في القرن العشرين أن النضال في سبيل الديمقراطية وفي سبيل تحرير البلاد المضطهدة من قبل الإمبريالية لا يمكن أن ينجز، وفق ما شدد عليه  ليون تروتسكي في نظرية الثورة الدائمة، إلا من خلال استيلاء الطبقة العاملة على السلطة على أساس برنامج اشتراكي  أممي".

وقد تأكد هذا التقييم بشكل مأساوي من خلال التطورت التي تلت انتفاضة الجماهير عام 2011.  وكانت المسألة الملحة التي طرحتها تلك الانتفاضة الثورية هي بناء الاستقلال السياسي للطبقة العاملة عن كل القوى البورجوازية المتنوعة الساعية  لخلافة مبارك، و معارضة كل وهم حول وجود قدرات ثورية كامنة لدى ضباط الجيش الذين أسرعوا لفرض سلطتهم أو لدى الأحزاب البورجوازية " الليبرالية " أو لدى جماعة الإخوان المسلمين.

وثمة دور مخالف تماماً قام به اليسار الزائف في مصر الممثل في ما يدعى  الحزب الاشتراكي الثوري، والذي يعكس مصالح الفئات العليا الثرية  من الطبقة الوسطى، والذي تتوافق سياساته الرجعية والمشؤومة مع سياسات حكومة الولايات المتحدة. 

حيث ادعى في البداية أن الزمرة العسكرية التي أخذت مكان مبارك ستضمن الإصلاحات،  سعى بعد ذلك الحزب الاشتراكي الثوري لقنونة المعارضة  المستمرة للطبقة العاملة ودفعها إلى السير خلف جماعة الإخوان المسلمين مدعياً أن انتصاره الانتخابي في عام 2012  مثَّل "انتصاراً للثورة". وحينما تطورت معارضة الطبقة العاملة من جديد ضد حكومة مرسي وجماعة الإخوان المسلمين عام 2013، أشاد الحزب الاشتراكي الثوري بحملة حركة " تمرد" الموالية للجيش بوصفها " الطريق لإنجاز الثورة" ممهداً بذلك الطريق للانقلاب العسكري في يوليو 2013 ( الذي رحب به الحزب الاشتراكي الثوري في البداية بوصفه " ثورة  ثانية") ولصعود نظام المشير السيسي وتبنيه سياسة الإرهاب الثوري المضاد.

ومع بروز موجة جديدة من النضالات الثورية في الشرق الأوسط وعبر الكوكب، فإن الدرس الحيوي المستخلص من نضالات الجماهير التي أنهت ديكتاتورية مبارك يتصف بحيوية غير مسبوقة. وتظل المسألة الأساسية هي بناء حزب ثوري مستنداً على نضال لا يقبل المساومة في سبيل استقلال الطبقة العاملة سياسياً و إلى برنامج الثورة المستمرة.  ويجب بناء مثل هذه الأحزاب بوصفها فروعاً للجنة الدولية للأممية الرابعة في مصر وعبر الشرق الأوسط.

Loading